التصحيح يبدأ من الداخل
لو أعدنا النظر متأملين المشاهد الدرامية التي طبعت الحملات الانتخابية الأمريكية في الآونة الأخيرة لاستطعنا بقليل من الرصد والتحليل أن نقف على بعض النقاط الايجابية في هذه التجربة الإنسانية التي كانت وما تزال مثار جدل واسع في الأوساط العالمية,ومعلوم أن بعض الغربيين من غير الأمريكيين يغالي في هذه الانتخابات عادة الى حد اعتبارها انتخابات محلية بدعوى أن مايجري في أمريكا يهم العالم، ومن يُنتخب رئيسا للولايات المتحدة سوف يؤثر بطريقة أو بأخرى على مجمل حركة النظام السياسي العالمي سلبا او ايجابا.وبالرغم مما يعتري الفكرة المتقدمة من وجاهة إلا أن منطقتنا العربية درجت بغالبية أنظمتها السياسية على عادة التقليل من أهمية هذه الممارسة وغالبا ما استطاعت ادوات هذه الأنظمة من تلقين أو الهام الوعي العربي العام بافكار من قبيل ان كل ما يحدث في امريكا هو أشبه بمسرحية متفق على توزيع ادوار البطولة والهزيمة فيها بين المتنافسين منذ البداية، وإنها خاضعة الى معادلات سياسية سرية يقوم على التخطيط لها بعناية اطراف خفية قد يكون من أشهرها اللوبي اليهودي والصهيوني. وبحسب اؤلئك فان المجيء بباراك اوباما رئيسا لقيادة أمريكا لايعدو عن كونه لعبة من ألاعيب الجنس الأبيض لا أكثر من ذلك ولا اقل.
الحق إننا إذا استطعنا السير خطوة او خطوات في اتجاه الإذعان الى أطروحة نظرية المؤامرة فاننا لانستطيع الاستمرار طويلا في متابعة هذا الطريق، ذلك أن الذي حدث باختصار مكثف هذه المرة هو وصول شخصية من خارج إطار الطبقة البرجوازية التقليدية التي دأبت تاريخيا على سيادة البيت الأبيض فضلا عن كون القادم الجديد من أصول عرقية ودينية غالبا ماينظر لها في العالم الغربي نظرة تختزل الكثير من الدونية كما ظهر ذلك جليا في داخل الولايات المتحدة عندما ارتفعت درجة سخونة المضمار الانتخابي بين انصار جون ماكين ضد الغريم باراك اوباما حسين الاسود..., او في خارج امريكا حينما لم يستطع رئيس وزراء ايطاليا برلسكوني مثلا ان يخفي ردة فعله السلبية بعد ظهور نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية حين ابدى سخرية واضحة تجاه بشرة اوباما "التي غيرتها الشمس" على حد تعبيره.
أما إذا سلمنا بقبول الرأي الذي ينص على أن كلمة الأمة الأمريكية اجتمعت على إرادة التغيير وفتح صفحة جديدة مع العالم على صعيد تحسين صورتها الخارجية أمام الرأي العام العالمي لاسيما بالنسبة للدول والشعوب التي تضررت من سياسات الإدارة السابقة بقيادة المحافظين الجدد فان هذا المعنى هو ابعد ما يكون عن نظرية المؤامرة واقرب ما يكون الى عقلية المراجعة وتصويب المسار الخاطئ، هذا المبدأ الذي قد يكون من أهم وابرز العوامل التي ساعدت في ارتقاء بعض الأمم بالقدر الذي ساهم التنصل عنه في الحط من قيمة أمم أخرى.
العراق هذا البلد الذي تنطبق عليه بشكل تفصيلي مقولة " إن انتخاب رئيس لأمريكا يؤثر في العالم " لظروفه التي لا تخفى على الجميع مدعو الى مراجعة تجربة الانتخابات الأمريكية الماضية والاستفادة مما نتج عنها لاسيما من حيث التعاطي بايجابية مع الرئيس الجديد وعدم التورط بعقد صفقات بعيدة أو متوسطة الأمد مع إدارة بوش المنتهية بدون وجود تنسيق واضح مع الرئيس الفعلي المقبل هذا من جانب، ومن جانب أخر فما أحوج العراقيين كل العراقيين الى الأخذ بمبدأ المراجعة وتقويم المواقف, فلا احد يشك في مدى تدهور الصورة العامة للعراق والتي ساهم في رسم الكثير من معالمها سياسيو البلاد منذ ما يزيد على الخمسة أعوام، وعليه فان على هؤلاء ان يدركوا بانهم المعنيون في المقام الأول بتصحيح هذه الصورة والبحث عن اساليب اكثر واقعية في حكم البلاد والإتيان إذا لزم الأمر بطواقم سياسية جديدة أكثر قدرة وفاعلية من سابقيهم على ادارة ملفات الدولة الشائكة مستندين في ذلك على الصيغ الديمقراطية المتاحة وعلى رأسها ترسم خطى الدستور ومعايشة الحياة البرلمانية الحقيقية بشكل يتناسى الأغراض الخاصة ويتقاسم الهم الوطني ويثابر بروح الفريق الواحد لتقويم المسيرة السياسية والاقتصادية على نحو خاص.
إن الغالبية العظمى من المنتقدين المنصفين للتغيير الذي عصف بالبنية السياسية والإدارية لعراق ما بعد صدام لابد انهم قد لاحظوا أن تجربة التغيير قد أطاحت الى حد بعيد بطابع الجمود السياسي الذي لازم حكم البلاد منذ عقود طويلة وان المرونة السياسية التي توفرها هذه التجربة كفيلة بعلاج الإخفاق على صعيد السياسة والادارة فليس ثمة تأبيد للحكام أو الموظفين، وسوف يكون دائما من المتاح لرواد التغيير ان يحققوا الكثير من خططهم من خلال إتباع الأساليب الديمقراطية ومنها الانتخابات التي بدا العد العكسي لانعقادها.
لقد شاهدنا خلال مسيرة الانتخابات الامريكية الماضية مواقف سياسية لبعض اعضاء الحزب الجمهوري الامريكي يمكن نعتها بالمواقف الانسانية تجاه المرشح عن الحزب الديمقراطي باراك اوباما ؛ وبنفس القدر يبدو واضحا للعيان مدى انفتاح اوباما على خصومه المحليين، وأخر علامات ذلك الانفتاح وليس الاخيرة ما تجلى في الاجتماع السياسي الذي جمع كل من اوباما وماكين على أريكة واحدة. فما المانع من أن يحدث في العراق انتصارات إنسانية مشابهة، هذا البلد الذي لايمكن نكران حقيقة انه احد اكبر المساهمين في إنتاج حضارة الإنسان، وما المانع أن يكون المبادرون الى تغيير وجهة الأحداث على النحو المطلوب هم من الفريق الذي سن سنن المحاصصة في السيرة السياسية التي لايمكن أن توصف بالحسنة على أية حال فيساهم هذا الفريق أو بعضه على اقل تقدير مساهمة فاعلة في تغيير وجه المشهد السياسي الحالي ايجابيا وعلى نحو تاريخي، من خلال تبني منهج يتخذ في جوهره من الإنسان حجر الزاوية الأول ويتيح الفرصة كاملة أمام الأكفأ والأجدر للأخذ بزمام المبادرة وبناء الدولة على أسس اكثر رصانة.
قد يبدو هذا الفرض مستحيلا ولا يمثل إلا نظرة مثالية حالمة تطلب من متشبثين بالسلطة حد النخاع تغيير قناعاتهم الأيدلوجية ونكران ذواتهم بين ليلة وضحاها خدمة للمصلحة العامة. وقد يكون من السائغ أن يعد البعض فكرة تخلي سياسي البلاد الحاليين عن نمط تفكيرهم بهذه السهولة من قبيل حلم مارتن لوثر كنغ الذي حلم ذات يوم بان يكون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يوما من الأيام إنسانا اسود البشرة.
إن استحالة قيام السياسيين بإحداث تغيير يناقض مصالحهم يبدو امراً واقعيا، إلا أن هذا لايعني استحالة البحث عن طرائق أخرى للتغيير المنشود, ولن يحتاج الإنسان الى تأمل طويل قبل أن يكتشف أن العصا السحرية لإحداث ذلك التغيير ماتزال موجودة تحت إمرة الناخب البسيط.وان أولى خطوات النجاح في إحراز تحريك تلك العصا يقع على عاتق أجهزة الإعلام لاسيما المعارضة والمستقلة منها، ويتمثل الدور الملقى عليها في هذه الآونة بتوعية عامة الناس -خاصة غير المتعلمين- بطبيعة النظام الانتخابي وقطع الطريق ابتداء على مايمكن أن يندرج تحت خانة تزوير أو تشويه رأي الناخب، بالإضافة الى بيان أهمية المشاركة ومكافحة الموقف السلبي من الانتخابات بما يعيد الثقة الى نفس الناخب المحبط ويعززها في نفس المتردد وذلك من خلال عرض البرامج التثقيفية المناسبة عبر وسائل الاتصال المختلفة وعلى رأسها جهاز التلفاز الذي يخاطب المتلقي بأكثر من حاسة.
ولا بأس في هذا الصدد أن يتم الاشتغال حول المفاضلة بين السياسي الناجح وبين الأخر الفاشل وإيضاح الرؤية أمام الناخب ليستدل على العلامات التي تقود الى النجاح أو الفشل، لاسيما التحصيل العلمي والسمات الشخصية الحميدة وطول الباع في فهم العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في حياة مجتمعه المحلي الخاص وعلاقة ذلك بتطور البلاد بصورة عامة، نحن على ثقة تامة بان انتخابات مجالس المحافظات في الحادي والثلاثين من كانون الثاني لعام 2009 اذا ما احسنت السلطة الرابعة استثمارها على نحو مؤثر في الراي العام ستمثل مكسبا كبيرا للمقترعين على طريق انجاز مشروع التغيير المطلوب في انتخابات كانون الأول من نفس العام.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net