Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

التعددية بين مفهومين

 

 كأي شيء آخر، فان التعددية قد تكون ايجابية وعنصر قوة ومنعة للمجتمع، اي مجتمع، وقد تكون سلبية تدمر المجتمع ولا تساعد على بنائه، فمتى تكون في احدى الحالتين؟.

   اولا: اذا كانت التعددية وليدة اختلاف وانقسام فستكون سلبية ومدمرة، مثلا:

   اذا كانت هناك مؤسسة ما في المجتمع، واختلف المسؤولون فيما بينهم لاي سبب كان، فان مجموعة منهم سينشقون عن المؤسسة الاصل ويشكلون مؤسسة جديدة، ولكونهم فرع من الاصل، فان الخلافات والاختلافات ستبدا فيما بين المؤسستين منذ اليوم الاول.

   اما اذا عمد المسؤولون عن المؤسسة الى التفكير في كيفية توسعة عملهم من خلال بناء مؤسسة ثانية الى جانب مؤسستهم، او انهم قد يختلفون فيما بينهم الا انهم يتفقون على طريقة حل الخلاف ببناء مؤسسة ثانية رديفة، فان النتيجة ستكون ان انقسام المؤسسة الواحدة الى مؤسستين لا ينتج اي خلاف او اختلاف ابدا، لان الانقسام جاء على اساس نوع من التفاهم بين المسؤولين ما ينتج مؤسسة ثانية ستتعاون وتتكامل وتنسجم مع المؤسسة الام بطريقة او اخرى.

   ان واحدة من الظواهر الرائعة في المجتمعات النامية والمتطورة هي انهم يتفقون على الاختلاف اتفاقهم على الاندماج، ولذلك فان خلافاتهم واندماجاتهم لا تنتج اية مشاكل او مضاعفات سلبية، ومن الادلة على ذلك مثلا ان سكان ولاية فرجينيا الاميركية اتفقوا فيما بينهم على تقسيم ولايتهم الواحدة الى ولايتين عندما اختلفوا على شيء ما تسبب بعدم قدرتهم على التعايش كسكان ولاية واحدة، ولهذا السبب فان ولاية فرجينيا الواحدة انقسمت الى ولايتين، فرجينيا الام وولاية ثانية اسموها فرجينيا الغربية، من دون اية مضاعفات سلبية، فالانقسام اعتمد على اسس من التفاهم ولذلك جاء ايجابيا.

   لنتعلم، اذن، كيف نتفق وكيف نختلف، فان التفاهم عند الاختلاف لا يقل اهمية عن التفاهم عند الاتفاق، والحال يشبه الى حد كبير حالة اتخاذ زوجين ما قرارهم بالانفصال وعدم الاستمرار في حياتهما الزوجية، فاذا كان الانفصال بلا تفاهم فستبدا المشاكل بينهما ومن ثم تتطور الى مشاكل بين عائلتي الزوجين وربما بين العشيرتين واحيانا بين الدولتين اذا كان الزوجان من دولتين مختلفتين، فتشن الغارات والحروب، اما اذا تم الانفصال عن توافق وتراض واتفاق بين الزوجين، فان حياتهما الزوجية ستنتهي بكل سهولة وبلا مشاكل ابدا، بل قد يبقى الزوجان صديقين وكذلك عوائلهما ومن يلوذ بهما، وسيظل الاولاد، اذا كان لهما اولاد، في كنفيهما بلا مشاكل او تعقيدات او خلافات، ولقد تحدث القرآن الكريم عن مثل هذه الحالات بقوله {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} ويفسر العلامة الطباطبائي الاية في تفسيره المعروف (الميزان في تفسير القرآن) بقوله: الشقاق البينونة والعداوة، و قد قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور و التحكم، و قوله {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما} أي إن يرد الزوجان نوعا من الإصلاح من غير عناد و لجاج في الاختلاف، فإن سلب الاختيار من أنفسهما و إلقاء زمام الأمر إلى الحكمين المرضيين يوجب وفاق البين.

   بل لقد امرنا الله تعالى ان نلتزم جانب التفاهم في ابسط الاشياء، من خلال مبدا التشاور، فقال عن الرضاع مثلا {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلادَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فالتفاهم في الامور يقلل من مخاطر الخلافات والتقاطعات بدرجة كبيرة، الامر الذي يساعد على تحكيم روح الحوار والتشاور وتاليا التعاون والتكامل والتنسيق بين الجميع.

   ان المؤسسة التي تنبثق عن اخرى، لا تختلف عن هذا المثل، فكلما كان تعدد المؤسسات نتيجة لتفاهم وتوافق بين من يتصدى لها فستكون عندها التعددية في المؤسسات حالة ايجابية تقود الى التكامل والتعاون والانسجام، وهذا هو المطلوب من التعددية، والعكس هو الصحيح، فاذا كان التعدد في المؤسسات منطلقه الخلاف والاختلاف والتسقيط والتشهير فان التعدد فيها سيكون بمثابة تمزيق للمجتمع وتفتيت للطاقات لان المؤسستين، او اكثر، ستصرف جل وقتهما وجهدهما في محاربة الاخرى او على الاقل في تسقيطها والتشهير بها، وان السبب في مثل هذه النوعية من التعامل هو عدم فهم واستيعاب حقيقتين مهمتين:

   الحقيقة الاولى؛ ان المجتمع يتسع لملايين المؤسسات، وان تعددها لا يعني ان المؤسسة الثانية ستاكل من حصة الاولى، ابدا، فمهما كثرت المؤسسات تبقى المؤسسة الجديدة ستسد فراغا في المجتمع ينبغي على العقلاء، اذا كانوا حريصين على المساهمة في بناء وتنمية المجتمع، ان يتواصوا لتوسعة مؤسساتهم عدة وعددا، فالمجتمع في نمو وحاجاته تتضاعف، فهل يعقل ان تستوعبها مؤسسة او مؤسستين؟ فلماذا نضيق ذرعا اذا طرق اسماعنا خبر ولادة مؤسسة جديدة في المجتمع؟.

   ثانيا؛ ان المجتمع بحد ذاته متعدد الاطوار والاذواق والحاجات والتطلعات، وليس من الممكن ابدا ان تتصدى مؤسسة واحدة فقط لاستيعاب كل هذا التعدد المجتمعي، اذ ليس من المعقول ان تكون المؤسسة الواحدة قادرة على استيعاب كل اذواق المجتمع وحاجاته وتطلعاته وولاءاته، ولذلك فان الاحادية في المؤسسات لا تخدم المجتمع ابدا، لانها لا تستوعبه باي شكل من الاشكال، ومهما اوتيت من قوة وامكانيات وقدرات خارقة للعادة، خاصة في زماننا الحالي المحكوم بنظرية التخصص.

   ان عقلية الاستحواذ والاستئثار التي تدافع عن الاحادية في كل شيء، ومنها الاحادية في بناء المؤسسات، لا تخدم المجتمع ابدا، بل انها تدمره، فلا هي قادرة على تحمل كامل المسؤولية ولا هي مستعدة للقبول بوجود مؤسسات اخرى مشابهة، ولذلك ينبغي ان نتعامل جميعا مع التعددية على هذا الصعيد بروح ايجابية وبشفافية كاملة، اساسها سعة الصدر واستيعاب الاخر.

   بقي ان اشير الى مجموعة العوامل التي تجعل من تعددية المؤسسات عنصر قوة وتكامل، وهي:

   الف: ان لا تنبثق المؤسسة الثانية كرد فعل على المؤسسة الاولى، او بسبب خلافات بين القائمين على الاولى، بمعنى آخر، ان لا تؤسس الثانية كرد فعل، وانما كفعل جديد يضاف الى الساحة وكجهد جديد يسعى لتحقيق اهداف معينة، فردود الفعل عادة ما تنتج تحولات سلبية في المجتمع.

   باء: ان تسعى مجموعة المؤسسات المتشابهة بشيء ما الى التعاون والتنسيق والتكامل، فلا تتقاطع ولا تتباعد وتتباغض ولا تختلف، فان كل ذلك له اثر سلبي ومردود عكسي على المجتمع.

   جيم: ومن المفيد جدا بهذا الصدد ان يتشكل مجلس اعلى تتمثل فيه المؤسسات المتشابهة مهمته التنسيق بين الجهود وتحقيق مبدا التعاون بين مختلف المؤسسات، وتكريس الخبرة وتدوير التجربة بين المؤسسات، وكذلك يتحمل مسؤولية حل اي خلاف او مشكلة قد تنشا بين المؤسسات المتشابهة.

   الى متى نظل نبحث عن حلول لمشاكلنا من خلال الشاشة الصغيرة، فنتحدث عن خلافاتنا بالاعلام، ونتراشق التهم على الفضائيات، ونبادر الى نشر الغسيل القذر ضد بعضنا كلما وقفنا امام عدسة الكاميرا؟ لماذا لا نتعلم الحوار وجها لوجه فنتحدث لبعضنا بروح المسؤولية وبكامل الصراحة والشفافية لنتوصل الى حلول وتوافقات لكل مشكلة تحدث بيننا، ولكل تقاطع يحصل بيننا لاي سبب كان؟ فالحوار المباشر ينتج حلولا ثابتة على عكس الحوارات بالواسطة، فهي تعقد المشاكل.

   دال: ان تتميز كل مؤسسة عن شقيقاتها بشيء ما، بالمتلقي مثلا او ببرنامج ما او بخطاب معين او بلغة تختلف وغير ذلك، فان تعدد الادوار والوسائل مع وحدة الهدف يساهم بدرجة كبيرة في تحقيق التكامل فيما بينها، اما اذا تشابهت المؤسسات في كل شيء فقد يكون ذلك سببا للخلاف، لان كل مؤسسة تشعر وكان الاخرى زائدة عن الحاجة او انها تحاول ان تاخذ مكانها او تستولي على دورها.

   ان التميز بين المؤسسات مع وحدة الهدف، يساهم كذلك في نجاحها بتغطية كل حاجات المجتمع من دون تضارب او تضاد، وهذا ما يشعر المجتمع بحاجته اليها اكثر فاكثر، لانه سيجد ضالته في الثانية اذا لم يجدها في الاولى وهكذا، اما اذا كانت المؤسسات تستنسخ بعضها البعض الاخر، اي تستنسخ نفسها، فان ذلك يقلل من اهميتها من جانب، ويقلل من اهتمام المجتمع بتعدديتها، من جانب آخر، لانه سوف لن يجد فيها اي نوع من التكامل المحتمل لا في البرامج ولا في الادوات ولا في المتلقي ولا في اي شيء آخر، ما يضيع الجهود ويستنسخها بلا فائدة.

   ان التميز هو الذي يسد الفراغات الموجودة في المجتمع، وهو الذي يشبع نهم تعدد الاذواق والحاجات والاهتمامات، والا فما فائدة التعددية اذا تشابهت المؤسسات في كل شيء؟ مثلا، ما فائدة التعددية الحزبية اذا تشابهت اهداف كل الاحزاب وادواتها ووسائلها؟ ان فلسفة التعددية هو التنوع، وان جوهرها هو التميز عن بعض، ولو تشابهت لانتفت الحاجة للتعددية من الاساس.

   تعالوا ننظر الى المعنى العميق الذي يشير اليه القران الكريم وهو يتحدث عن التعددية، مثلا:

   {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فالتعدد والتنوع لا يحمل هدف التعارف من اجل التعاون والتكامل اذا لم يكن متميزا عن بعضه، فاذا تطابق التنوع في كل شيء لم يعد هناك مبرر للتعارف وتاليا للتعاون.

   ان علماء الاجتماع والحضارة يقولون بان التميز في تنوع المجتمعات والامم هو الذي يساهم في بناء الحضارات التي لا يبنيها شعب واحد متطابق ابدا، فكل الحضارات يساهم في بنائها التعدد المتميز للامم والمجتمعات، فلقد نما الاسلام وقوي يوم كان فيه علي العربي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي، واليوم انما افل نجمه بسبب التمييز والعنصرية.

   تاسيسا على هذه الحقيقة فان من الضروري جدا ان نسعى الى التميز بالتعددية لنخلق فرص التعاون والتنسيق فيما بيننا، فالتكاملية في المجتمع لا يخلقها التطابق ابدا، وانما التميز عن بعض.  

   30 أيلول 2013

*ملخص الكلمة التي القيت في حسينية الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في مدينة ديربورن في ولاية ميشيغن الاسبوع الماضي

 

NHAIDAR@HOTMAIL.COM

  

 

Opinions