Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الثورة الجينية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم رؤية مستقبلية


د. سامر مؤيد عبد اللطيف/
خضعت العلاقة بين الحاكم والمحكوم عبر تاريخها الطويل لانعطافات حادة منشأها صعوبة تحقيق الموازنة بين متطلبات السلطة ونزوعها للهيمنة باستخدام كل وسائل الترهيب والترغيب وبين متطلبات الحرية للأفراد من جهة مقابلة.

فحينما تكون السلطة استبدادية، كما حصل ويحصل في ظل اغلب المجتمعات القديمة والنامية حاليا، فإنها تميل اشد الميل الى فرض نمط من الوصاية او العلاقة العمودية (المتعالية) مع رعاياها عبر تغليب إرادتها وتوسيع رقعة حقوقها على حساب تقييد إرادة وحرية رعاياها ؛ حينئذ يفصح رد الفعل من جانب المحكومين عن نفسه عبر ديناميات تتراوح بين الاستجابة الفاعلة بأنماط من المعارضة الايجابية او الاستسلام المرضي المتجلي بأنماط من الكذب والخداع والنفاق واللامبالاة او حتى العدوان السلبى (التخريب العبثي والإرهاب).

وحتّى تستطيع تلك السلطة - على اختلاف أوصافها وأزمانها - أن تسمو فوق الجميع، كان عليها أن تعمل ـ وبكلّ جهودها المدروسة والمنظّمة ـ على إبقاء شعوبها تحت مطرقة الطاعة والولاء لها باستخدام كل الوسائل المتاحة الشرعية وغير الشرعية والتي كان القانون اولها مثلما كان القمع والإكراه آخرها واهمها، وكانت التقنية اهم مرتكزاتها ومنطلقاتها لتحقيق الأهداف التي تصبو اليها في علاقتها مع رعاياها.

وحينما تكون السلطة ديمقراطية وشرعية , وتكون الجماهير بالمقابل على درجة جيدة من التعليم والثقافة والتفكير النقدى، يصبح الأمر علاقة سلطة ناضجة بجماهير ناضجة فيسود العقل وتحتل الموضوعية مساحة كبيرة فى العلاقة بين الطرفين فلا تتحول إلى حب حتى التقديس والاستلاب أو إلى كراهية حتى التدمير. ونتاج ذلك منظومة سياسية واجتماعية تتسم بالسلام وارتفاع معدلات الإنتاج والنمو والإبداع.

وهذا ما حصل بالفعل مع اتساع نطاق الوعي الإنساني بأهمية الحرية منذ القرن السابع عشر، عندما أنتجت التغيرات الاقتصادية الاجتماعية والصراعات الطبقية آليات جديدة لتقنين نسق العلاقة التعاقدية الجديدة بين الحاكم والمحكوم تحت إطار الديمقراطية الليبرالية؛ وهي آليات تتجدد وتغتني مع الزمن وتغير الظروف ؛ فلم يعد هناك راعي ورعية، آمر ومأمور، بل شعب (مجتمع مدني) يختار سلطته من خلال انتخابات عامة... سلطة تخدم مصالح مختلف الشرائح والمكونات الاجتماعية. ليحل تبعا لذلك نمط جديد من العلاقة الأفقية التشاركية محل ذلك النمط من العلاقة العمودية التي كانت سائدة في العصور الاستبدادية القديمة والتي تجلت بصيغة العقد المؤقت الملزم بين الحاكم والمحكوم.

ان الموجة الديمقراطية بنسختيها الكلاسيكية التنويرية او المطورة (النيوليبرالية) والتي اجتاحت أوطانا كثيرة بعد عام (1990) لم ولن تثن السلطة عن الاستمرار في محاولاتها المزمنة في تطويع إرادة المحكومين باستخدام امكر الأساليب وأحدثها. ولن تكون معطيات الثورة الجينية الجديدة الا طريقا مستقبليا من الوارد جدا أن تلجأ اليه السلطة لتحقيق أهدافها المختلفة بما فيها فرض سيطرتها على المحكومين وحشدهم باتجاه تحقيق أغراضها.

وفي لعبة التوازنات الحذرة بين الحاكم والمحكوم لن يتوان الأخير عن الدخول في حلبة السباق الجيني أسوة بالحاكم ودرءاً لشره ؛ وهو الأمر الذي سينعكس بالضرورة على بلورة نمط جديد من العلاقة بين الطرفين قائمة على تطويع معطيات الثورة الجينية.

وما تقدم يدفع الى طرح تساؤلين مهمين اولهما: ماهي هذه الثورة الجينية؟ وثانيهما: كيف ستوظف هذه الثورة في توجيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم مستقبلا؟

· حول ماهية الثورة الجينية

الجين في علم الأحياء الجزيئي، هو الوحدة الأساسية للمعلومات الوراثية ويعرف ضمن هذا المنظور بكونه: ((الوحدة الوراثية الأساسية التي تنقل المعلومة من خلية الى أخرى ومن ثم من جيل الى آخر)).

ويحتوي الموروث البشري على جينات عددها بحدود (90- 120) ألف جين.

اما علم الأجنة فهو من العلوم الحديثة اذ يعد من فروع البيولوجيا (علم الأحياء)، ويبحث في تكوين الجينات ووظائفها. ومن التزاوج الذي حصل بين الهندسة وعلم الجينات – بفضل معطيات ثورة المعلومات - ظهر مفهوم جديد هو (الهندسة الجينية) والتي تعد إحدى العلوم التطبيقية لعلم الوراثة.

وقد عرف قاموس (اكسفورد المتقدم) الهندسة الجينية بوصفها:" علم يدرس نمط التغيير والتطور الذي يحصل للكائنات الحية من جراء التغيير في المعلومات الجينية فيها "

كما عرفها البروفيسور (ديفيد سبيكهار) في الموسوعة الكيمائية على انها:" فرع من المعرفة يتمثل في القدرة على عزل المواد الوراثية، وتعديل التعبير فيها ونقلها" فجاء هذا التعريف ليركز الضوء على الجانب الاجرائي التقني للهندسة الجينية دون ان يربطها بغاية ما. وتستعين الهندسة الجينية لإدراك هدفها في تغيير الصفات الوراثية بتقنيات متنوعة كالمعالجة الجينية gene manipulation والتنسيل الجيني Gene cloning والتحوير الوراثيGene modification وكذلك تقنية الحمض النووي المؤشب Recombinant DNA technology، اذ تسهم تلك التقنيات نظريا في القدرة على إنتاج أنواع بيولوجية تمتلك خليطا من أي صفات مرغوب فيها في أي كائن حي إنسان كان او حيوان او نبات او حتى كائن مجهري.

· توظيف الثورة الجينية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم

لم يظل حقل السياسة، وهو الحقل الذي نهل على امتداد تاريخه من كل العلوم والتقانات وطوعها لخدمة أغراضه، بمنأى عن الانخراط المكثف بإرهاصات الثورة الجينية المستجدة وسبر أغوارها سبيلا لاكتشاف إمكانية تطويعها لخدمة تطلعات مريديه وطموحاتهم، والسيناريو المستقبلي المتوقع في هذا المضمار يمكن تصوره عبر عدة مداخل هي:

المدخل الأول /اصطفاء خصائص الحاكمين:

ان ما تعد به التقنيات العصرية وعلوم المستقبل يتعدى الى حد بعيد إمكانية الانتقاء الطبيعي/الواقعي لصفات الحاكم الى الانتقاء الاصطناعي له عبر توظيف آليات تحسين النسل الايجابي وتقنيات الهندسة البشرية، إذ يهدف هذا الشطر من المعرفة إلى إنجاب سلالات ذات قدرة متميزة من قوة الاحتمال والذكاء والشجاعة (تحسين النسل الإيجابي) ويعد العالم البايلوجي الامريكي (هيرمان. ج. مولر) من أهم المتحمسين لهذا النوع من الهندسة البشرية؛ فهو الذي دعا إلى تأسيس بنوك للنطاف المنوية لجمع مقدار منها من الواهبين الذين تختارهم لجنة مناسبة، وتخزين النطاف مدة حتى تتمكن لجنة الرقابة من التأكد من خصائص الواهبين، من حيث وفرة الصفات الوراثية المرغوبة. ثم يلجأ الباحثون إثر ذلك إلى تلقيح عدد كبير من النساء الراغبات من تلك النطاف المنوية لتحملن بشراً متفوقين وراثياً، والوصول إلى عالم أفضل.

إن تلك الأفكار التكنوجينية قد شجعت مفكرين من أمثال الانكليزي(الدوس هكسلي) - حفيد عالم البايلوجيا توماس هكسلي - لصياغة رؤيته حول عالم مستقبلي يسوده وينظمه دكتاتور له خلفية علمية وقوة تقنية. ويكون شعار هذه الولاية العالمية " الجماعة، الهوية، الاستتباب " موضحا إن أحسن وسيلة لتحقيق هذه الغاية هي تكوين الأفراد المناسبين ؛ ففي عالم الهندسة الجينية المستقبلي سيولد الأطفال من أجنة هيئت في المعامل من اجل تواجد كائنات حية من خمسة أنماط (أ، ب، ج، د، هـ) ؛ إذ سيكون النمط الأول (أ) من هذه المخلوقات حكام هذا العالم، وأما النمط الأخير(هـ) فهم الطبقة الدنيا التي ستقوم بالأعمال الشاقة التي تحتاج الى أدنى مستويات الذكاء. ومن اجل الحصول على هذه الأنماط ستعامل الأجنة أثناء تطورها في الأرحام بتعريضها لمستويات مختلفة من الاوكسجين ومواد كيميائية مختلفة. وستؤمن التدريبات السيكلوجية أثناء تعليم الأطفال الحاجة التي يتطلبها وتناسب القياديين ومن بأيديهم اتخاذ القرارات في هذا العالم وسيعتمد التدريب على المنعكسات الذاتية.

ان هذه الرؤية قد تبدو عليها - للوهلة الأولى- علائم المبالغة والتمييز الطبقي لفئة متميزة من البشر، يعدون حكاما لذلك العالم الموعود وهو الأمر الذي لايمكن تحمله في المدى المنظور. غير أن التقدم الذي شهده القرن الحادي والعشرين لاسيما في مضمار الهندسة الجينية، سيشكل أكبر قاعدة لتحقيق تلك الرؤية، خاصة إذا تمكن العلماء من فصل الجينات التي تتحكم في خصائص معينة متعددة، بصورة منفردة، مثل (شكل أجسامنا، ونماء عقلنا وأجهزتنا الغدية والعصبية والسلوكية). عندها سيكون بمقدور الآباء ومن قبلهم فئة الحكام من اختيار أطفالهم من صفات خاصة أقوياء وأذكياء ومؤهلين للقيادة، لتتحقق بذلك فكرة ما يسمى بالإنسان "الخارق" والمؤهل لادوار البطولة والقيادة عبر استخدام تقنية هندسة الخلايا التناسلية التي تعتمد على حقن جينات منتقاة بعناية في الخلايا التناسلية, لتمكن الجنين من الشفاء من الأمراض الوراثية التي يحملها, أو يكتسب صفات محببة كالذكاء أو لون الشعر والعيون, أو من خلال تطوير كروموسوم صناعي يتضاعف مع الكروموسومات الطبيعية في الخلية, ويكون قادرا على حمل كميات كبيرة من المادة الوراثية (دي إن إيه) المصممة بطريقة خاصة, ويمكن نقله إلى الخلايا بسهولة, بحيث تتكون هذه الكروموسومات من تتابعات المادة الوراثية, وتحتوي على عناصر وظيفية أخرى تساعد في استخدامها كوسيلة لهندسة الخارطة الجينية للإنسان.

وهكذا سيتمكن المحكومون لأول مرة في التاريخ من التدخل الصناعي لانتقاء صفات الحاكمين وتشكيلها حسب الطلب والحاجة الظرفية. مثلما ستتمكن فئات مقتدرة في المجتمع من التحكم التكنوجيني لتهيئة المناخ المفتعل الذي يؤهل من يهمهم امره لتولي زمام القيادة.

المدخل الثاني/استنساخ الزعامات الملهمة:

وجد الاستنساخ وعرفه العلماء منذ مدة طويلة ولكنهم فكروا في تقليده في أجناس لا يحدث فيها الاستنساخ, وحينما تطورت لديهم التقنيات, وتوفرت الإمكانيات المخبرية, أتيحت لهم الفرصة في تقليد ما يحدث فعلاً في الجراثيم ولكن بالنسبة لكائنات حية أكثر تطوراً حتى تمكنوا من استنساخ الكائن البشري كما حصل في هولندا والولايات المتحدة الامريكية مؤخرا.

والاستنساخ من الناحية المفاهيمية: "هو تكوين كائن حي بحيث يكون نسخة مطابقة لأصله من حيث الجملة الوراثية, بطريق لا جنسي".

وعلى الرغم من المعارضات الأخلاقية والدينية لهذه التكنولوجيا الجديدة، يبدو أن النهم نحو اكتشاف أسرار الطبيعة والإنسان والمغامرات العلمية المتوالية لن ينتهي باستنساخ الكائن البشري فقط, الذي من المتوقع أن يكون أحد البدائل الشائعة للإنجاب في القرن الحادي والعشرين, بل سيتبع ذلك إنتاج مخلوقات بشرية مستنسخة ومطورة بأساليب مصطنعة من خلال التقدم في تقنيات الإخصاب والاستنساخ والتحويل الوراثي والمعالجة الوراثية الإنجابية المتقدمة للخلايا الجنينية.

فقد ذهب البعض من علماء البايولوجيا الحيوية الى ابعد من ذلك من خلال طرح إمكانية استنساخ بعض القادة والزعماء السياسيين الأحياء منهم وحتى الأموات. وهذا ما حققته بالفعل التجربة العلمية العملية حينما تمكن فريق علمي ياباني بمعهد (ريكن) للابحاث في مدينة (يوكوهاما) اليابانية من استنساخ سبعة فئران بنفس التقنية التي تم فيها استنساخ النعجة دولي حيث تم أخذ خلايا دماغية من جثة فأر ذكر عادي أزالوا النواة التي توجد في مركز الخلية والتي تحتوي على دنا DNA وتم وضعها في بويضة فأر مخصبة منزوعة النواة وتم تحفيز الخلايا كهربائيا لتبدأ بالانقسام وتنمو كأي جنين حديث التكوين وبعد عدة أيام زرعت الأجنة المستنسخة في أرحام أمهات مؤقتة وبعد ثلاثة أسابيع ولدت الفئران.

إن مثل هذا النوع من الاستنساخ سوف يتيح للعلماء – مستقبلا - استنساخ الكائنات المنقرضة المتجمدة او الزعامات الفذة. ولعل هذا ما اشره إعلان بعض العلماء الروس أن بإمكانهم استنساخ (لينين) مفجر الثورة البلشفية الذي مات وتم تحنيط جثمانه، لاسيما بعد أن أكد نجاح هذا المسعى علماء جامعة بالسويد قاموا قبل ذلك بفصل الأنوية من خلايا منزوعة من مومياوات فرعونية وتم استنساخ الحمض في بكتيريا حية. والنجاح الذي سيصيبه هؤلاء في مساعيهم سيشجع غيرهم لاسيما مع توافر الرعاية السياسية لمثل هذه التوجهات على استنساخ القادة والزعماء السياسيين وغيرهم، وبخاصة في الدول غير الديمقراطية التي يعمر فيها القادة ردحا طويلا في السلطة ويطمحون بعد ذلك الى تمديد فترة حكمهم وعمرهم عبر استحداث مصادر جديدة لأعضائهم الحيوية من النسخ الإنسانية المستنبطة من خلاياهم الحيوية.

وقد يتواضع بعض الحكام في مساعيهم عبر التركيز على الإفادة من النسخ المستخلصة من بعض العباقرة والرموز السياسية في اغناء خبراتهم ومهاراتهم في الحكم.

وليس مستبعدا في هذا المضمار ان يتم تصميم نسخ متنوعة لحكام دول أخرى لايزالون في السلطة، وتوظيفها بأسلوب المحاكاة لمواجهة الأزمات التي قد تحصل مع الدولة المعنية للتعرف على الطريقة التي سيتصرف بها النموذج المنسوخ من الزعيم الآخر بعد إخضاعه الى ظروف اجتماعية ونفسية مشابهة لما مر بها ذلك الزعيم المنسوخ... وهو الأسلوب الذي اتبعته بعض أجهزة المخابرات البريطانية والامريكية والسوفيتية أيام الحرب الباردة ولكن باستخدام الأشباه أي في مرحلة ما قبل الثورة الجينية.

وبكل الاحوال فان من السابق لأوانه إخضاع منتجات هذه التقنية الغضة لاستخدامات الحكام طالما لم يثبت نجاحها عمليا ولم تحصر تأثيراتها الجانبية الضارة ؛ ثم ان ما يحيطها من هواجس وتحفظات رسمية وشعبية ستصرف الحكام في المدى المنظور عن الاقتراب من خطوط توظيفها الفعلي. وفي ضوء ما تقدم يمكن الاستنتاج ان عودة الحكام المستقبلية الى هذا الحيز الجيني لن تكون الا تحت جنح الظلام وبعيدا عن كل أشكال الرقابة ولغايات محددة جدا.

المدخل الثالث – اصطفاء خصائص المحكومين

مع تفجر ثورة الهندسة الجينية وانخراطها في مسار علم تحسين النسل التحرري الحديث، سرت موجة من التفاؤل بين الأوساط العلمية لإدراك غايات التنشئة السياسية باستخدام وسائل نوعية مستنبطة من تلك التوليفة التكنو- جينية، وذلك عبر تشكيل الصفات المرغوبة وتطوير خصائص الطاعة والولاء للمحكومين عبر التلاعب (غير المعلن) بالجينات الوراثية بعد استكشاف الجينات المسؤولة عن ذلك في خارطة الجينوم البشري.

ففي مقالة نشرتها "واشنطن بوست" مؤخراً، يطلب منا أستاذ الأخلاقيات "رونالد جرين" أن نفكر فيما يمكننا تحقيقه مستقبلاً من خلال علم تحسين النسل الحديث، والذي يساعدنا على "إنتاج" أطفال حسب الطلب، حيث يقوم الأبوان بتجميع أطفالهما المنتظرين من جينات يختارانها من الكتالوجات". ويذهب "جرين" إلى أن الرؤية الخاصة بالمستقبل الإنساني وفقاً لهذا السيناريو (مرغوبة بل لعلها حتمية). ويقترح "جرين" استخدام تقنيات تحسين النسل، لتضييق الفوارق بين الطبقات، لكنه لا يحدد كيف يمكن جعل مثل هذا الاقتراح قابلاً للتطبيق، في العالم الحقيقي.

وهكذا مثلما تمكنت الهندسة الجينية اليوم في فتح أبواب الأمل أمام الآباء في انتقاء خصال أبناءهم الجسمانية والعقلية عبر ما يسمى بـ(بنك النطاف) وغيره، فانها لن تبخل بالمستقبل عن التماس الطريق الى التأثير في البنية العقلية والسلوكية الحاكمون تبعا لما ينشده الحاكمين عبر آليات التنشئة السياسية ؛ ليتولد تبعا لذلك فرع جديد من التنشئة السياسية الاصطناعية الموجهة والمعالجة جينيا والتي سيكون ضمان امن النظام واستقراره عبر ضمان طاعة المحكومين المطلقة للحكومة أهم أهدافها. واما سماتها فتتلخص في (ضمان النتائج، وسرعة تحقيق الاغراض، والاعتماد المفرط على التقنية).

وهكذا يمكن القول ان الهندسة الجينية المستقبلية ستسهم الى حد بعيد في تشكيل الخارطة الاجتماعية للدولة والتحكم بها وهو الاستشراف الذي خلص اليه فرانسيس فوكوياما حينما قال: "أن الأدوية الحيوية سوف تمكننا من التحكم بالكائنات البشرية بطرق عديدة. وسيؤدي ذلك في المستقبل إلى إيجاد نوع من الهندسة الاجتماعية التي يمكن أن تنطوي على خطورة شديدة، لأنها في اعتقادي، كما تعلم، ستعيد إحياء الجهود الرامية إلى هندسة النتائج اجتماعياً، وهذا ما حاولنا القيام به في القرن العشرين، ولكننا منينا بفشل ذريع، وأعتقد أننا سنعاود الكرة ولكن باستخدام وسائل تكنولوجية أكثر تطوراً. حين تشير إلى الهندسة الاجتماعية، ماذا تعني بالضبط؟

إنك تستطيع رؤية ذلك منذ مدة. فعلى سبيل المثال، في الطريقة التي يستخدم بها عقار الريتالين للتحكم بالأطفال، أي لإنتاج أطفال فائقي النشاط. ويمكن أن يستخدم للسيطرة على الأشخاص المصابين بمرض واضح، ولكنه يمكن أن يستخدم أيضاً للتحكم بالأشخاص العاديين تماماً، وحين تأتي إلى شيء من قبيل الهندسة الجينية".

المدخل الرابع – تحدي السلطة باستخدام الإرهاب البايلوجي:

اطلَّ شبح الإرهاب البيولوجي على العالم ؛ بعد أيام قليلة من بدء الحملة العسكرية الأمريكية البريطانية ضد قوات حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان، عندما توفيت موظفة في شبكة(NBC)التلفزيونية الأمريكية إثر تعرضها لبكتريا (الجمرة الخبيثة)، ثم ظهرت حالات أخرى للإصابة بهذا الداء، ووصل إلى مكتب زعيم الأغلبية الديمقراطية بالكونجرس طرد يحتوي على البكتريا نفسها. وقد رجح بعض المسئولين الأمريكيين آنذاك أن تكون هذه العمليات من تدبير تنظيم القاعدة أو النظام العراقي السابق أو من جماعات يمينية متطرفة بالولايات المتحدة ذاتها.

والواقع أن الأسلحة البايلوجية تخدم أغراض الإرهاب أكثر من خدمتها لأغراض الحروب التقليدية؛ فهي صعبة التصويب نحو هدف محدد، وقابلة للانتشار، مما يعرض المهاجم والمدافع لنفس الخطر، كما يمتد مفعولها لفترة زمنية طويلة، أي ان فترة الحضانة الطويلة التي تتطلبها كثير من العوامل الممرضة ستعمل على إعاقة المعتدي من احتلال الأرض نظراً لتلوثها ناهيك عن تأثير الايروسولات البيولوجية غير المحدد، والتي تشترط التثبت الدقيق من العوامل البيئية بما فيها الظروف المناخية وضبط التطورات التي قد يشهدها فيروس الوباء بعد اختلاطه بفايروسات المرض الطبيعي للحيلولة دون خروجه عن سيطرة المهاجم ؛ ثم أن استخدام الأسلحة البيولوجية في العمليات الإرهابية يعتبر مسألةً معقدةً الى حد كبير؛ فعلى سبيل المثال يحتاج تصنيع بودرة (الجمرة الخبيثة)، على غرار هجمات الولايات المتحدة، الى تكنولوجيا متقدمة لا توجد الا في الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية. ولهذه الأسباب كلها، لم تكن الأسلحة البيولوجية محور اهتمام القوى المتحاربة في الميادين.

على الرغم من ذلك، لا شيء من تلك العوائق يعوق نشاط الإرهابيين، وخصوصاً المجموعات التي تعمل خارج نطاق الحدود الأخلاقية التقليدية وأولئك الذين يستهدفون تمزيق أو زعزعة استقرار المجتمع بزرع الخوف بين الجماهير. ولأن الجراثيم تعمل مستترة وفى خفاء وصمت وبطء، فإنها قادرة على إحداث درجات من القلق تقترب من الهستيريا. والاهم من ذلك وقبله ان الدول- بما فيها المتقدمة – لم تتمكن من تطوير آليات الدفاع ضدها او حتى «الكشف الأكيد» عن نشاطاتها او تفعيل المعايير الدولية لحظر امتلاك الاسلحة الجرثومية واستخدامها، على الرغم من وجود معاهدة دولية لمنع تصنيع واستخدام هذه الأسلحة بشكل صارم وحاسم وكلي منذ عام(1972).

ولا يستبعد مستقبلا احتمال لجوء الإرهابيين الى تطويع تلك التقنيات الجينية المتطورة لإنتاج أسلحة جرثومية معدلة جينيا أكثر فتكا ودمارا من الجمرة الخبيثة التي صنعوها بالأمس القريب وبصورة تجعل الدول تقف عاجزة عن مواجهتها ؛ كما ليس ثمة ما يمنع هؤلاء من إنتاج جراثيم او فايروسات تستهدف الإخلال بالتوازن النفسي والتحكم بعقول شعب دولة ما خدمة لأغراضهم. بل وقد يتعدى الأمر مسالة استحداث السلاح الجرثومي الى نطاق تصميم كائنات حية لها من الخصائص والقدرات ما يمكنها من الانتصار في معارك ضارية ضد قوات السلطة الحاكمة في الدولة.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

http://fcdrs.com






Opinions