الحكم الذاتي بين تصفيق دهوك وقفص بغداد
وصف البيان الصادر عن المجلس الشعبي الكلداني السرياني الاشوري , والذي لخًص نتائج اجتماعه الشهري الاخير ,بصورة مثيرة , الفرحة التي غمرت اعضاء المجلس على أثر البشارة التي حملها اليهم رئيسه السيد جميل زيتو والتي تضمًنت تثبيت الحكم الذاتي في دستور اقليم كردستان نقلا عن لسان السيد سركيس اغاجان , حتى ان البيان ذكر ان اعضاء المجلس قد وقفوا وصفقوا لدقائق تكريما وتثمينا للخبر , علما بان الخبر كان منشورا في موقع عنكاوة العزيز لايام قبل الاجتماع , ولم يُنشر في عشتار ! . ولم تمضي إلا ايام معدودة ليتلقى مشروع الحكم الذاتي ضربة موجعة من رجال الكنيسة الذين التقوا في بغداد رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي للتباحث حول الهجمة الظالمة التي طالت العوائل المسيحية في الموصل ومناشدته باتخاذ الاجراءات الكفيلة بحمايتهم وضمان حقوقهم وممتلكاتهم , كما عبًر الوفد , واستنادا الى البيان الصحفي الصادر عن مجلس الوزراء , عن رفضه لمشروع الحكم الذاتي المطروح واصفا اياه ( بالقفص ) , مما ترك الجهود التي بذلها اصحاب المشروع طوال الفترة الماضية هباءً منثورا , واعاده الى نقطة الصفر مرة اخرى , بل وضعه في مأزق حرج جدا كون الثقل الذي يسكن العربة التي امام حصانه هذه المرة ليس فقط الحركة الديموقراطية الاشورية وشريحة واسعة من المستقلين , بل هو المؤسسة الكنسية المعروفة بتأثيرها المعنوي الكبير في واقع شعبنا وفي الساحة الوطنية على حد سواء , مع تمنياتنا ان لايخرج احدهم ليقول , ان الحركة الاشورية هي التي حشًدت الكنيسة والمستقلين والمالكي وحكومته والامة العربية والاسلامية وبعضا من الامة الكردية والفاتيكان والامم المتحدة , جميع هؤلاء , للوقوف بوجه المشروع !تُرى , لماذا يبدو مشروع الحكم الذاتي المطروح وكأنه , رغم الشروط المثالية للرعاية والتغذية السخية الكريمة , يعاني من النحول العام وفقر الكالسيوم وضيق التنفس , حتى ان تصريحا ينطلق من هنا او هناك يؤدي به الى ان ينتكس انتكاسة عميقة تستدعي إدخاله الى غرفة الانعاش وانتظار من يتطوع ليمنحه من جديد قبلة الحياة ؟ ! . لماذا تعارض هذه الشريحة المتمثلة بالكنيسة والمؤسسة السياسية وجمهور المستقلين هذا المشروع , هل هؤلاء جميعا حقا بخيلون بشعبنا ولايروق لهم رؤيته وهو سيد نفسه ؟! هل هؤلاء جميعا قد قرروا رمي ثقلهم الروحي او إرثهم النضالي او سمعتهم الشخصية في البحر والوقوف امام المشروع , رافضين او متحفظين , فقط إشباعا لغرائز شخصية كما يدعي بعض من اصحاب العقد ؟! والاخطر من كل ما تقدم يكمن في التساؤل هل ان هذه الشريحة , كنيسة وتنظيما سياسيا ومستقلين , قد قررت مجتمعا تمزيق ضميرها إربا إربا من خلال خيانة شعبها والاصطفاف مع اعدائه والتحالف وعقد الصفقات معهم , او التطوع لتقديم خدمة مجانية لهم , وفاءً لعشق قديم او وقوعا في حب جديد , فأصبح مشروع الحكم الذاتي المطروح هو قربان ذلك العشق القديم في ذكراه او الحب الجديد في نشوة ايامه !. ان كل معارض او متحفظ على مشروع الحكم الذاتي يستند على اي من الاسباب السابقة في معارضته او تحفًظه يستحق اقسى حكم من التاريخ وشعبه , اما اذا كان ما تقدم هي تهم باطلة ورمادا يحاول انصار المشروع , وخصوصا المتحمسين له كلًُ ولغاية في نفسه , ذرًه في العيون أملا في عدم إبصار العورات من قبل المتلقي , فان الحكم القاسي السابق المشار اليه , اي حكم التاريخ والشعب , سيكون في هذه الحالة حلالا زُلالا لهؤلاء الانصار والمتحمسين .
ان اعراض ضيق التنفس الواضحة على مشروع الحكم الذاتي المطروح ليس سببها اطلاقا قيام المعارضين له والمتحفظين عليه بحبس الهواء عنه , بل ان هذا المشروع المسكين يعاني حقا بالدرجة الاولى من الغازات التي يطلقها بعض من انصاره والمتحمسين له , والانكى من ذلك انهم لايفعلون ذلك في الهواء الطلق , بل يأخذون المشروع الى انفاق مظلمة خانقة حرجة , فيشحنون الانفاق بالغازات و يقولون للمشروع إذهب انت وربك وقاتلا ! وهكذا اصبح هؤلاء بين فترة واخرى يحرصون على تقديم مشروعهم وكأنه يجمع النقيضين , وشعبنا وبني البشر اجمعين يعلمون ان جمع النقيضين هي من اسرار قدرته , جلً جلاله , فيتكلمون عن اقتناص الفرصة التاريخية ويشيرون في نفس الوقت بضرورة توفر ظروف وواقع سياسي مستقر لاقتناصها , انه لمن المؤسف حقا ان يحاول البعض , الذي يُعتبر اختصاصيا , استثمار حيل السياسة ومراوغاتها في محاولة لتقويس قوانين معطيات حركة السياسة بعد انتهاء الحرب الباردة , فزمان فرض واقع سياسي باقتناص ظروف غير مستقرة قد ولًى مع انهيار جدار برلين , وها هي الولايات المتحدة اليوم تحتل العراق فعليا وهي قادرة على فرض ما تريد فيه , إلا انها قررت ان تفاوض العراقيين لشهور عديدة في الاتفاقية المزمع ابرامها بينها وبين العراق , بغض النظر عن الرأي في الاتفاق او في محتوياته او الية وظروف المفاوضات . ثم يطرح الاخوة الأعزاء , منظرو الحكم الذاتي مسألة في غاية الغرابة , إن لم نقل انها تجعل السذاجة صفة رديفة للمتلقي او للمرسل , عندما يذهبون الى القول ان المنطقة الجغرافية للحكم الذاتي المطروح تشمل سهل نينوى وجزءا من مناطق اقليم كردستان , وانهم لايحددون تبعية منطقة الحكم الذاتي الى الاقليم , بل يطرحون اجراء استفتاء عام وشفاف وتحت اشراف دولي لتحديد تبعية اقليم الحكم الذاتي . تُرى , هل حصل هؤلاء على موافقة خطية من القيادة الكردية تتضمن موافقتها على القبول بالاستفتاء ايا كانت نتائجه ؟! حدٍث العاقل بما لا يُعقل فإن صدًق فلا عقل له . اذا كان الاخوة الاكراد يرون ان معركتهم السياسية قد انتهت مع سقوط النظام السابق وبدأت معركتهم الجغرافية في سبيل استعادة ما يعتبرونها حقوقا لهم في المناطق المتنازع عليها , ويكابدون ويصارعون الاطراف الاخرى في العراق , ويقدمون التضحيات في ملفات ثانية , ويتحملون جرعة الصبر المريرة بانتظار تطبيق المادة 140 , فهل يفعلون كل هذا ليصلوا في النهاية الى اقتطاع منطقة هي اصلا في الاقليم وليست من المناطق المتنازع عليها فيتنازلوا عنها لاقليم اخر ! علما بان مسودة دستور الاقليم تنص في بنودها الاولى على المحافظة على وحدة ارض وشعب اقليم كردستان , وتعتبر ذلك واجبا وامانة في اعناق من يتولى المسؤولية فيه ! اما اذا كان منظرو الحكم الذاتي يعتقدون ويؤمنون ان نتيجة الاستفتاء محسومة سلفا , فالأولى بهم ان يختصروا على المتلقي كل هذه اللًفة الطويلة العريضة , ويستفيدوا من حكمة الرياضيات التي تقول ان المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين ! . ما استشهدنا به هي امثلة بسيطة تمثل النزر اليسير ولانريد ان نُثقل كاهل القارئ العزيز بالمزيد كالعلاقة الضبابية الغريبة التي ينسجها منظرو الحكم الذاتي بين مؤسسات الاقليم المقترح وبين ابناء شعبنا الساكنين في المناطق الاخرى خارج المناطق المقصودة , او ابناء شعبنا المتواجدين في المغتربات , ناهيكم عن السؤال الاكبر والاخطر والذي لم يتطرق اليه احد لحد الان والمتمثل في اعطائنا الجواب الناتج في المعادلة الخطيرة ( الحكم الذاتي – السيد سركيس اغاجان = ؟ ؟ ) . ماذا لو افقنا صباحا على خبر بسيط يتلخص في ان السيد سركيس اغاجان , ولظروف ما , لايستطيع ممارسة نفس الدور الذي يمارسه اليوم في هذا المجال , ماذا سيكون مصير شعبنا انذاك ونحن نعلم ان اية خطوة حققها ويحققها مشروع الحكم الذاتي المقترح ترتبط بشكل كلي بالعلاقات الشخصية التي يتمتع بها السيد اغاجان مع القيادة الكردية وغيرها , وكل من غيره يدعي انه له الفضل في حصوة صغيرة في بناء هذا المشروع فانه يجانب الحقيقة !. اضف الى ذلك فان لمشروع الحكم الذاتي الفضل في شطرنا الى شطرين , بل قد يمتد الامر الى اصطفاف الكنيسة في معسكرين , كما ان طرحه في الزمن الخطأ والمكان الخطأ وبالاسلوب الخطأ قد سببً اساءة بالغة لعلاقات شعبنا مع الاخوة الاكراد من خلال تصوير شريحة منه على انها تقف بالضد من المصالح الكردية , كما ان المشروع قد جعل شعبنا , ربما للمرة الاولى , يبدو , في الصراع على الساحة الوطنية العراقية ونقصد تحديدا الصراع القومي العربي الكردي , وكأنه جزءا من المشكلة او ورقة فيها في الوقت الذي حرص دوما ان يكون جزءا من الحل او طرفا يعمل مخلصا جاهدا على ان يكون عاملا في المحافظة على اتزان عصا الصراع . نقول هذا كله دون ان ننكر ان جهد السيد سركيس اغاجان قد فعل ويفعل الكثير خلال هذه السنوات لابناء شعبنا حيث لكل جهد ايجابيات وسلبيات و الانصاف يقضي ذكر الامرين معا .
ليس تجنيا او ظلما ولاشماتة , القول ان مشروع الحكم الذاتي المقترح , وليس فكرة الحكم الذاتي او المنطقة الامنة او الادارة المحلية كما يفهمها شعبنا , قد وِلد وهو يعاني من الموت السريري وان علامات الانتعاش الانية التي تبدو عليه بين حين واخر ليست اطلاقا مؤشرا على معافاته التامة , والعرب تقول ( إكرام الميت في دفنه ) فما أحوجنا اليوم الى ان يراجع الجميع انفسهم ومواقفهم ليخرجوا بالصيغة المثلى لمشروع وحدوي يلبي طموحات وامال شعبنا حاضرا ومستقبلا , مشروعا لايبخس حقوقه اطلاقا , كما لايكون في نفس الوقت احد افلام الخيال العلمي السياسي الذي نقبل ان نُمثٍل فيه , دون ان يكون لنا كلمة في تأليفه واخراجه وانتاجه وتسويقه . . . .
د . وديع بتي حنا
wadeebatti@hotmail.com