الحوار منهج عقلاني متحضر
الحوار منهج إنساني رافق البشرية في مسيرتها وهي تنتقل من طور التخلف إلى أطوار الرقي والتحضر، وهو يعني تحكيم العقل في المشكلات التي تنشأ بين المجموعات الإنسانية، كما يعترف بوجود الآخر ولا يعمد إلى إلغائه، لأنه لا يقوم إلا بين طرفين، اللهم إلا أن يكون حوراً داخلياً مع النفس أو الذات، وهو يصب أيضاً لصالح الإطار العام للحوار.وقد استخدم الفلاسفة منذ القدم منهج الحوار، وكان سقراط هو الأبرز في هذا المجال، إذ كان يعمل على توليد الحقيقة من خلال النقاش المنطقي المرتب الذي يديره بين محدّثيه. وقد سار تلميذه أفلاطون على نهجه حين كتب خيرة مؤلفاته في السياسة والاجتماع والأخلاق والمعرفة والجمال في صورة محاورات فكرية مركزة صيغت بأسلوب أدبي رفيع كالجمهورية والقوانين والسفسطائي وغيرها، وكان هدفه منها، إضافة لعرض آرائه ونظرياته، تعليم تلامذته في الأكاديمية، وكذا النخب السياسية والاجتماعية في بلاد اليونان، منهج الحوار العقلاني الهادئ في حل قضاياهم ومشكلاتهم بدلاً من حلها عن طريق الحروب وسفك الدماء.
وقد سلك الأنبياء مع طغاة وفراعنة عصرهم مسلك الحوار لكفّهم عن الظلم والطغيان، ودعوتهم للقسط والإيمان.قال تعالى مخاطباً موسى وهارون (ع): «اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى»(طه:43-44). وإذا كان الحوار مطلوباً مع فرعون وأمثاله، فهو مطلوب بالضرورة مع الذين نختلف معهم في الرأي من كافة الناس، وخصوصا من غير الطغاة والمتجبرين.
ودأب الرسول الكريم (ص)على الحوار مع قومه الذين ناصبوه العداء فدعاهم إلى نبذ عبادة الأوثان، والامتناع عن سفك الدم الحرام ووأد البنات، والتمسك بمكارم الأخلاق، وكل ما يؤسس للمجتمع السليم والسلوك القويم، سائراً على هدي الآية الكريمة: «أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، والتي تحدد فلسفة الحوار في الإسلام التي تقر بوجود الأخر المخالف، وتفتح معه باب النقاش العقلي للوصول إلى (كلمة سواء)دونما إكراه أو تنكيل.
وعلى رغم مظاهر الاستبداد السياسي التي طبعت أنظمة الحكم في العالم الإسلامي لقرون طويلة، فإن الحراك الفكري والجدال العقلي هو الأساس الذي استندت إليه المذاهب الفقهية والكلامية والفلسفية في نقاشاتها وصراعاتها لتأكيد صحة مواقفها.والأمثلة على ذلك كثيرة نجدها في بحوث مسائل الخلاف عند أئمة المذاهب الفقهية، والمناظرات العقَدية عند علماء الكلام من معتزلة وإمامية وأشعرية وماتريدية وغيرهم، وكتابات الفلاسفة والمناطقة المسلمين وما أثارته من ردود أفعال مثالها تلك المعركة الفكرية الكبرى التي قامت بين الغزالي وابن رشد، حينما كتب الأول (تهافت الفلاسفة)، فرد عليه ابن رشد بكتاب (تهافت التهافت). وقل مثل ذلك بالنسبة لعلماء اللغة والأدب والتاريخ وأرباب الملل والديانات، الذين شكل القرن الرابع الهجري أزهى عصور الحضارة العربية الإسلامية بالنسبة لهم. ولم تكن تفسد صفاءه وتحرفه عن أهدافه العلمية سوى السياسة حينما تتدخل في تفاصيله لمآرب وأغراض خاصة لا علاقة لها بالبحث العلمي، كما حصل في قضية خلق القرآن، ومحاولة المأمون العباسي (ت 218 هـ)إكراه الناس على القول بها بالقوة،على رغم أنها من المسائل الكلامية الدقيقة التي لا يستطيع الخوض فيها إلا المختصون من علماء العقائد؛ ثم رد فعل المتوكل (ت247هـ) الذي حارب المعتزلة وأحرق كتبهم ونكّل بهم لأنهم يقولون بخلق القرآن!
وفي مطلع العصور الحديثة حاولت الحركة العقلانية في الغرب، والتي تأثرت بآراء الفلاسفة والعلماء المسلمين كالكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، أن تطرح حواراً بشأن بعض مسائل العلم والدين في ضوء الاكتشافات العلمية الحديثة، فجوبهت بحائط كنسي مسدود لا سبيل للحوار معه أو اختراقه، لأنه يعتبر أقوال المؤسسة الدينية وآراءها، وليس ما ورد في الكتب المقدسة وحسب، من حقائق الإيمان التي لا يجوز النقاش فيها، حتى وإن كانت قولاً للعلماء بدوران الأرض حول الشمس على مذهب كوبرنيك، يعارض ما ذهبت إليه الكنيسة من القول بأن الأرض ثابتة وهي مركز الكون!... وكانت الكنيسة تصدر أحكام الإعدام أو السجن على معارضيها بتهم الهرطقة (الإلحاد)، وعلى هذا الأساس أعدم حرقاً الفيلسوف الإيطالي برونو (1548-1600)، وكاد غاليليو (ت1642) عام الفلك والفيزيائي الشهير أن يلقى المصير نفسه لولا أنه تراجع عن رأيه، وحكم الموت محدق به، وأعلن أمام المحكمة بأن الأرض ثابتة، فحكم بالسجن ومات في سجنه!
وقد أرعبت هذه الأحكام المتعسفة الكثير من المفكرين في أوروبا أمثال الفيلسوف والعالم الرياضي الفرنسي رينيه ديكارت ( ت1650)، الذي ألف كتاباً علمياً سار فيه على منهج كوبرنيك، وحينما بلغته أخبار محاكمة غاليليو وغيرها، فإنه أخفى الكتاب ولم ينشر إلا بعد وفاته، لكنه شن بالمقابل حملة عنيفة على الفلسفة المدرسية القديمة ومنطق أرسطو، كان لها أثر كبير في تجديد مناهج العلم والفلسفة في العصر الحديث. ومع ظهور حركة الإصلاح الديني التي قادها لوثر (ت1546)، ومجيء الفلاسفة الموسوعيين في القرن الثامن عشر وقيام الثورة الفرنسية، كان الصراع قد حسم لصالح العلم والفلسفة ضد الكنيسة التي تقلص تأثيرها إلى أبعد الحدود.
وما لبثت رياح الفكر الغربي أن هبت على العالم مع عصر الاستعمار، ناقلة معها إنجازات الحضارة الغربية وتناقضاتها ومشكلاتها التي نال منها العالم العربي والإسلامي الشيء الكثير، وخصوصا في جوانبها السلبية، ما استدعى رواد النهضة وزعماء الإصلاح للتعامل مع الوقائع الجديدة التي نجمت عن الاحتكاك مع الثقافة الغربية، ولم يكن موقفهم سهلاً، لأنهم كانوا يحاربون على جبهات عدة: جبهة المجتمع الذي تتفشى فيه الأمية والجهل ولا يدرك الأهداف النبيلة للمصلحين، والحكام المستبدون الذين يصادرون الحريات ويضيقون ذرعاًً بالنقد والرأي الآخر، وهي من الشروط الضرورية للإصلاح، ثم المعسكر الغربي الذي بدأ غزوه للبلدان العربية والإسلامية حاملاً إرثه الثقافي ومخططاته التي تحقق له الهيمنة الثقافية، فضلاً عن السيطرة السياسية والعسكرية والاقتصادية.
وكان منهج المصلحين في معالجة القضايا والمشاكل سواء الداخلية منها أو الخارجية يتمثل في الحوار والتغيير السلمي، إلا أن يغلق باب الحوار نهائياً فيلجأ بعضهم إلى وسائل أخرى، كما حصل مع الثورة العرابية التي شارك فيها بعض تلامذة جمال الدين الأفغاني ( ت1897)والمتأثرين بأفكاره الداعية للحرية والرافضة للاستبداد، مثل الشيخ محمد عبده (ت1905) الذي سجن بعد فشل الثورة ثم نفاه الإنجليز خارج مصر.وكان الأفغاني قد نفي قبله إلى الهند، وردّ من هناك على المذاهب الفكرية الغربية التي تصطدم مع الدين والتي انتشرت في أوساط المسلمين الهنود، إذ كتب رسالة الرد على الدهريين، كما رد وهو في باريس على المفكر الفرنسي إرنست رينان الذي حاول الحط من العقل العربي استناداً إلى نظرية العرق لكون العرب ينتمون للعرق السامي الذي هو أدنى درجة من العرق الآري. وقد فعل الشيء نفسه محمد عبده في رده على هانوتو الفرنسي الذي اعتبر أن الإسلام هو الذي يقف حائلاً دون تقدم العرب حضارياً!
وحينما قامت الدول الوطنية الديمقراطية في العالم العربي كان الحوار هو المنهج الذي سلكته النخب السياسية والفكرية والثقافية لمعالجة قضايا الدولة والمجتمع ما ساعد على نشوء حال ثقافية إبداعية استمرت طيلة النصف الأول من القرن العشرين، ولم تجهضها إلا مرحلة الانقلابات العسكرية التي كرّت سبحتها منذ الخمسينات فغاب حوار الكلمة وساد حوار الرصاص والدم، طبقاً لقانون الفعل ورد الفعل: فعل السلطة الإقصائي التسلطي الرافض للحوار والمشوب بالعنف، ورد فعل المعارضة الذي يقابل العنف بمثله، باعتبار ذلك وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس. وهكذا دخلت الأمة العربية والإسلامية في نفق مظلم لم تستطع الخروج منه حتى يومنا هذا. ولا مخرج منه إلا بالحوار العقلاني الهادئ الذي يبلور القضايا، ويشخص المشكلات، ويقترح الحلول ليختار منها الأفضل. أما اختلاق الفتن وتفجير الألغام الطائفية والمذهبية والعرقية، لاستثمار ذلك سياسياً، فهو مسلك مدمر وعقيم، ويتضرر منه أصحابه ومنفذوه قبل غيرهم.
فعلى رغم مظاهر الصراع التي يعيشها عالمنا اليوم بأشكاله المختلفة: السياسة والاقتصادية والدينية والعسكرية والثقافية، فإن القوى المختلفة، عدا بعض الاستثناءات، تميل إلى لغة الحوار والدبلوماسية في معالجة القضايا حتى الساخنة منها، بعد أن فشلت المشاريع العسكرية التي بشر بها المحافظون الجدد ونفذتها الإدارة الجمهورية في عهد الرئيس بوش، وسقوط أساسها الفلسفي القائم على فكرة صراع الحضارات ونهاية التاريخ وأشباههما، فهل تستخلص القيادات السياسية والدينية والإعلامية عندنا العبر من تلك الحقائق والمتغيرات الدولية، أم يستمر المحسوبون عليها السير في نهجهم الخاطئ بصب الزيت على النار، وإشعال الحرائق والفتن من مجتمع عربي وإسلامي إلى آخر؟!
جريدة الوسط البحرينية (15/8/2008م)
*أكاديمي وباحث عراقي