الدولة المدنية والسلطات البدائية
لطيف القصاب/من القضايا التي ما تزال تلقي بثقلها في الحياة الفكرية العراقية ما يتمثل بالموقع الذي ينبغي ان يشغله النظام القبلي والعشائري ضمن الانساق الاجتماعية الاخرى ومدى أهمية او خطورة انخراط هذا النظام في الحياة السياسية.
ثمة من يدافع عن هذا النظام باستقتال شديد معتبرا العشيرة او القبيلة رمزا للشرف والكرامة الشخصية ونوعا من انواع المؤسسات القائمة بحكم الامر الواقع والمستندة الى ارث تاريخي موغل في القدم ويمثل وجودها ضرورة لا تستقيم امور الحياة في غيابها.
بينما يأخذ اخرون موقفا عدائيا لا هوادة فيه تجاه هذا النظام الذي يصمونه بشتى انواع الصفات السلبية ليس اقلها كونه يمثل تجسيدا حيا لحقب غابرة بالية، وان اقطابه والماسكين بأوراقه الاساسية لا يقدرون على شيء كمثل قدرتهم على التلون السياسي وتغيير الولاءات تبعا لتغيير ظروف وعوامل القوة والضعف فتراهم ينبرون بصلف شديد للتمرد على سلطات الدولة ومؤسساتها في فترات ضعفها لكنهم يبادرون لتقديم فروض الطاعة والانصياع الكامل لإرادتها عندما تحين ساعات قوتها.
في الحقيقة ان الخلط بين ما هو عشائري وما هو قبلي هو خلط يفتقر الى دقة التشخيص من حيث كون النظامين (العشائري والقبلي) يختلفان على نحو كبير من حيث الدرجة، وان اتفقا في النوع. فالنظام العشائري وهو السلطة (الحاكمة) في مجتمعات الارياف يمتاز بنزعة عالية الى الصلح بالقياس الى النظام القبلي المعروف بصرامته التي تستنكف في اوقات كثيرة أن تمنح فكرة التفاوض فرصة في حل المنازعات، ولعل الرجوع الى ما كتبه علماء الاجتماع العراقيين في التمييز بين بيئتي الريف والبادية كفيل بتوضيح الفرق الشاسع بين هاذين النظامين البدائيين، غير ان كلا من النظام العشائري والقبلي يتفقان على حيازة اكبر قدر من الاطراء والمديح الاجتماعي الذي يمجد فيهما ويضفي عليهما هالة من التقدير والاحترام الرسمي على خلفية هيام هاذين النظامين بالفخر والمباهاة وتوجسهما الدائم من التيارات الفكرية والسياسية التي تعلي من القيم المدينية للدولة وتنظر بازدراء واستخفاف للقيم الريفية والبدوية على حد سواء.
كما ان كلا من النظامين ينشدان بكل الوسائل المتاحة تحقيق هدف الاعتراف الرسمي بوجودهما من الناحية الرسمية لان هذا الامر سوف يرتفع بمرجعيتهما الثقافية من مستوى الاعراف الاجتماعية التي ينحصر تطبيقها في نطاق المعتقدين بها الى مستوى القوانين النافذة التي تفرض هذه الاعراف فرضا حتى على غير المعتنقين لها وتلزمهم بتحمل اثارها الزاما يترتب على مخالفته الوقوع في طائلة العقاب المؤكد.
وعلى هذا الاساس فقد ادى الضغط العشائري والقبلي على السلطات العثمانية التي حكمت العراق حوالي خمس قرون الى ايلاء هاذين النظامين شيئا من الدعم السياسي والمالي لقاء قيام العشائر والقبائل بتقديم خدمات معينة للسلطات الحاكمة، وبعد استبدال الاحتلال العثماني بالبريطاني استطاع رؤساء العشائر والقبائل ان يستحصلوا على وثيقة قانونية بمسمى نظام دعاوى العشائر وفرت مكاسب مادية واعتبارية جمة لهؤلاء الزعماء لكنها قسّمت العقاب القانوني لمرتكبي الجنح والجرائم من المواطنين العراقيين تقسيما ثنائيا شديد التباين والغرابة.
وحتى مع الغاء هذه اللائحة القانونية المثيرة للجدل ابان الحكم الجمهوري بقي العدد الاكبر من شيوخ العشائر والقبائل يعيشون ظاهرة الاستصحاب لذلك التفويض القانوني الملغى ويخلق في نفوس بعض منهم استخفافا بأحكام القضاء العراقي يورثونه لابنائهم، كما حدث في تصريحات شيخ مشايخ دليم علي حاتم السلمان التي عرضتها قناة الحرة عراق بتاريخ 23/6/2011 حينما اكد فيها السلمان مسؤوليته عن تنفيذ احكام بالاعدام بحق (477) شخصا من دون الرجوع الى الجهات القضائية واصفا المعدومين بكونهم ارهابيين ومتعهدا بإعدام المزيد.
ان مكمن الخطر الداهم في الانتماء العشائري والقبلي يتجلى بوضوح حينما يعبران حاجز الانتماء الطبيعي وسجية الاعتزاز بالذات والجماعة المقبولة عقلا وشرعا الى ما يشبه البحث عن دولة داخل الدولة.
لقد عمل نظام الحكم السابق على اقصاء الانتماءات العشائرية والقبلية في وقت من الاوقات لكن الامر لم يدم طويلا فمع قيام الحرب العراقية الايرانية اعاد ذلك النظام الروح بأقصى حدودها الى الكيانات العشائرية والقبلية الى الحد الذي اصبح فيه معيار التقييم المادي والاعتباري للأفراد يستند الى الانتماء لعشيرة وقبيلة ما وليس لدولة بمسمى العراق. وكان من نتائج ذلك ان تصاعد غلواء النفس العشائري والقبلي في عدد كبير من مناطق البلاد وخرج عن اطاره المسموح به عقلا وشرعا وانفرط عقد الاخاء بين المواطنين حتى المنتمين الى عشيرة او قبيلة واحدة!
ان الدعوة الى نبذ المظاهر الضارة للعشائرية والقبلية لا تستقيم مع النهج السياسي المتبع حاليا في العراق الذي يحاول توظيف المؤسسة العشائرية والقبلية توظيفا مغرضا لا يمكن التكهن بعواقبه مقدما، ما يدعو الى تبني صيغة جديدة للتعايش تستند الى مبدأ المواطنة الحقة، فلقد ادى غياب العمل بمثل هذه الصيغة بالعديد من سكان العراق الى البحث عن مراكز قوة في اطار جماعات بدائية لا تقل خطرا عن جماعات العشيرة والقبيلة فحتى في داخل المدن العريقة ظهر التعصب الى منطقة السكن او رابطة المهنة ونحو ذلك.
ان ما يجعل صوت العشيرة والقبيلة صوتا قويا لا خافتا هو الغياب الفاحش لدور الهوية الوطنية الجامعة لسائر المواطنين من دون استثناء والمانعة لألوان التمييز السلبي بينهم والعاملة بمقتضى لوائح قوانين عادلة وموحدة. ذلك ان تفضيل الفرد الانتماء الى العشيرة والقبيلة على الانتماء للدولة يعود بشكل رئيسي اما الى احساس هذا الفرد بالضعف الناتج عن غياب قيمة المواطنة التي تكفل له القوة والامتيازات مثلما تكفلها لأي مواطن اخر، او احساسه بالاغتراب نتيجة تعامل المجتمع معه بوصفه اجنبيا دخيلا لا مواطنا اصيلا.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net