Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الديمقراطية وقدرات الإسلام السياسي في التكيف والتوافق السيكوسياسي لظروف العصر !!!!

استطاعت الانتفاضات العربية أن تسقط الكثير من المفاهيم الشائعة وحتى الكثير من النظريات الاجتماعية ـ السياسية والنفسية التي كانت ترى أن الشعوب تخلق الدكتاتور, وهناك دورة مغلقة غير قابلة للاختراق بين الحاكم وشعبه, متناسين هؤلاء بأن عجلة التاريخ تدور ولا يمكن أن تتوقف, كما تنبأ بها كارل ماركس وغيره من المفكرين. وأن التغير والتكيف يشمل الحياة بدون انقطاع, على مستوى العضوية الفردية والمجتمعية, وخاصة عندما تجري التغيرات اليوم في عالم افتراضي يتخطى كل الحدود, يعيش فيه الفرد تواصلا فكريا وحضاريا وثقافيا مع الحضارة العالمية ونماذجها المتقدمة في زمن متسارع, لا مكان له لزمن الحزب الواحد, ولا لقائد الضرورة,ولا لقائد الأمة, الديني منه والسياسي !!!!.
وكما يعرف الجميع أن هذه الانتفاضات الشعبية هي انتفاضات مطلبيه في مسحتها العامة, لتحسين ظروف العيش والتخلص من الفقر والحرمان والجهل والطغيان الذي طال أمده, ولم تنشأ هذه الانتفاضات بفعل عوامل الاختمار الذاتي والذي يفترض أن تؤسس له أحزابا مؤمنة بالديمقراطية وتقطف ثماره الآن, فهذه الحالة غائبة في الساحة العربية, وخاصة بعد الإضعاف المستمر للقوى التقدمية والديمقراطية, الحاملة للمشروع النهضوي, إلى جانب غياب الفكر النقدي الذي يؤسس لمزاج التغيرات الايجابية وقبولها على نطاق شعبي واسع, وهو الضامن الوحيد لخيارات الشعوب المستقبلية. ومن هنا ينشأ الخوف المشروع على الانتفاضات العربية, إلى جانب الحرص الشديد لإنجاز أهدافها المشروعة, حيث لا خبز ولا حرية بدون ديمقراطية حقيقية وقوى مؤمنة بها, وهي صمام الأمان المانع للعودة إلى مربع الدكتاتوريات الأول, سواء السياسية منها أو القوى المتأسلمة المتلبسة بلباس الدين, التي تحاول استغلال الفراغ السياسي الكبير الناتج من غياب قوى التغير الفعلية والمنظمة وصعوباتها الموضوعية !!!.
ولعل هذه المقدمة تسوقنا إلى تصور مفاده أن الحركات السياسية المتأسلمة والتي تتخذ من المقاعد الخلفية لانتفاضات الشباب مكانا لها تتهيأ لملئ الفراغ السياسي بأجندتها الظاهرة والآنية المتوائمة مع الديمقراطية شكلا والمستجيبة لزخم ظروف التغير الذي يحصل على الأرض الآن, دون التخلي عن أجندتها الإستراتيجية بعيدة المدى لبناء دولة " الإسلام والمسلمين ", سواء إن كانت هذه الدولة " أخوانيه " أم " طلبانية " أم " خمينية ", مثلما قامت به الحركات المتأسلمة العراقية بملئ الفراغ السياسي مستندة إلى الدستور ذو المثالب الكثيرة, والى الهبات والحشود الانفعالية في الانتخابات. هذا الحديث ينقلنا إلى مشروعية المسائلة ماذا بعد شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " إلى مشروعية التوجه إلى طرح البدائل وبالتالي الوسائل التي من شأنها توفير الأطر لضبط مسارات الانجاز وامتلاك بوصلة واضحة قادرة على استيعاب التباينات القائمة داخل مخاض التفاعلات الثورية الجارية, ومن ثم تحديد الأولويات المباشرة لانجاز الأهداف المشتركة, أم نحن أمام صور طبق الأصل للحالة العراقية !!!!.
قد لا يثير الغرابة الدعم الغربي والأمريكي بشكل خاص للقوى المتأسلمة, انطلاقا من افتراضين أساسيين, أولهما أن صناديق الاقتراع بتقديرهم هي التي تقرر خيارات الشعب استنادا إلى التجارب الغربية المستقرة, وهو قياس خاطئ لا يستند إلى معرفة دقيقة بطبيعة هذه المجتمعات والعوامل الثقافية والدينية التي تتحكم بها, ودون وعي بأهمية وضرورة المرحلة الانتقالية السابقة للانتخابات, وثانيهما هو ان هذه القوى المتأسلمة هي الضامن الوحيد للحروب الداخلية المذهبية والطائفية والاثنية وتفكيك النسيج الاجتماعي الوطني, بما يضمن مصالح الغرب وأمريكا بشكل خاص وتدخلهما القوي في أوضاع تلك البلدان بما يضمن مصالح وامن إسرائيل, عبر الإضعاف المتواصل لقدرات هذه البلدان وعرقلة وحدتها الداخلية اللازمة لأي نهضة حقيقية " مع كرهي الشديد والمقيت لنظرية المؤامرة ", إلا ان الأفعال تقاس بنتائجها, كما هو الحال في البراغماتية السياسية, والحالة العراقية هنا قابلة للقياس والتعميم, حيث أتت صناديق الاقتراع بمزيد من التدهور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفساد الإداري والمالي وسرقة المال العام وبمزيد من التخندق المذهبي والطائفي والاثني, ومسببة أيضا بمزيد من تدخل دول الجوار في الشأن العراقي وارتهانه لأجندتها الخارجية الطائفية والمذهبية والسياسية !!!!!.
ولا نستغرب تماما من تصريحات المعلقين السياسيين الغربيين بإشادتهم بالسهولة التي تكيفت من خلالها الحركات الدينية في العراق مع الديمقراطية السياسية الخاصة بالتعددية الحزبية, وإشادتهم بحملة الأخوان المسلمين في مصر للتصويت على التعديلات في الدستور بنعم, مؤكدين أن جماعة الأخوان المسلمين لديهم فهم أفضل للطريقة التي تعمل بها الديمقراطية كما هي الحال في العراق, كما أوقعوا في اللوم على الليبراليين والعلمانيين بأنهم منقسمين, دون فهم أو تعقل للأسباب التاريخية التي تقف وراء ذلك, واتهموهم بالهواة في السياسة ولا يفهمون طريقة عمل الديمقراطية !!!!!.
أذن كيف تفهم استجابة الإسلام السياسي لظروف التغير وما هي دوافعه, فهل هو تكيف منعا للانقراض أم هو توافق ناتج من تفهم واستجابة لظروف العصر المتغير. في السيكولوجية المعاصرة هناك فرق بين التكيف والتوافق, كما هو الحال في المعنى اللغوي. فالتكيف في اللغة كما في علم النفس هو تغير في سلوك الكائن الحي يجعله أكثر ملائمة للبيئة التي يحيا فيها والتي ترتبط ببقاء جنسه, أما التوافق فهو علاقة تناغم بين الكائن الحي وبيئته تقوم على إرضاء اغلب حاجاته ومطالبه على اختلافها, فالتوافق وسيلة لجعل حياة الفرد أفضل بتلبية رغباته وتوفير حياة يستمتع بها بعيدا عن المنغصات. إذا التكيف كخطوة أولى يبقي على الكائن حيا والتوافق كخطوة ثانية يرقى به الى الحياة التي يرغبها.
ولمزيد من الوضوح في استخدام المصطلحات فأن الكائنات الحية تميل إلى تغيير سلوكها استجابة لتغيرات البيئة, فعندما يطرأ تغير على البيئة التي يعيش قيها الكائن, فأنه يعدل سلوكه وفق لهذا التغير, مثال ذلك: " تغير الإنسان لباسه ليناسب الفصل والمناخ " ويبحث عن وسائل جديدة لإشباع حاجاته, وإذا لم يجد إشباعا لهذه الحاجات في بيئته, فأما يعمل على تعديلها أو تعديل حاجاته, وهذا السلوك أو الإجراء يسمى بالتكيف. أن مفهوم التكيف أصلا هو مفهوم بيولوجي, وكان حجر الزاوية في نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح, فالحيوانات التي استطاعت التلاؤم مع بيئتها الطبيعية استمرت في البقاء كالحرباء التي تغير لونها ليتناسب مع البيئة الطبيعية, وهجرة اسماك السلمون, ونوم الدببة في الشتاء. أن الإنسان يعمل باستمرار على التكيف مع بيئته الطبيعية عن طريق ارتداء اللباس المناسب وشكل البناء ونوع الطعام. وقد استعار علم النفس المفهوم البيولوجي للتكيف والذي أطلق عليه علماء البيولوجيا مصطلح تلاؤم أو توافق, واستخدم في مجال علم النفس تحت مصطلح التكيف, وحيث أن الإنسان يتلاءم مع بيئته والاجتماعية مثلما يتلاءم مع بيئته الطبيعية, من هنا شدد علماء النفس على ما يسمى البقاء السيكولوجي والاجتماعي, مثلما شدد علماء البيولوجيا على البقاء الطبيعي البيولوجي !!!!.
واستنادا إلى المزواجة بين هذه المفاهيم وسلوك الأحزاب والحركات الاسلاموية التي تفتقد إلى مستلزمات بقائها في ظروف العصر من خلال توجهاتها لبناء دولة الخلافة الإسلامية أو لدولة ولاية الفقيه سواء إن كان على المدى القريب أو البعيد, ولا يعنيها معالجة الفقر أو الشروع بالنهضة الاقتصادية والاجتماعية, بقدر ما يعنيها العمل على تمثيل أو النيابة عن سلطة الإله في الأرض برؤيتها الخاصة, وتقوم بشرعنة الفقر والتخلف وإعادة توليده على خلفية الفهم السيئ للنصوص المقدسة, وتشكل حاضنة آمنة للفساد الإداري والمالي من خلال حماية رموزه لاعتبارات ولائهم المذهبي والطائفي والديني, في ظروف يضعف فيه الانتماء للوطن والمواطنة وتشتد فيه الاستعانة بالحليف الخارجي المطابق لها ليتدخل مستميتا وبشروطه لإشاعة الفرقة والعبث بالوحدة الوطنية وفرض أجندته, ويشتد الخطاب المتأسلم الغير المتسامح بطبيعته والذي لا يستند إلى تعاليم الدين السمحاء بل مشبع بعوامل الفرقة والانتقاء والتحيز التعصبي " وهو ليست الدين " ليشيع مزيدا من الفرقة المبنية على مبدأ إقصاء الآخر وتكفيره ونفيه بل وقتله. ومن هنا تنتقل العداوة, من عداوة للفقر والجهل والظلم والحرمان, إلى عداوة مع من يختلف معي في الاجتهاد والرأي والفكر, ومن هنا نفتقد إلى ترتيب سلم الأولويات في معالجة المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والحضارية, وبين إدارة الخلافات المذهبية والطائفية والدينية على أسس مشروعية الاختلاف في الرأي !!!!.
وإذا كانت الحركات الاسلاموية اليوم تتشدق بقوة " المثل التاريخي " المتمثل في الإمبراطورية الإسلامية سابقا, فيكفي لهذا المثل أن يكون ضعيفا اليوم على خلفية ما أريقت فيها من دماء وسبي للأطفال والنساء والممتلكات طيلة عهد الإمبراطورية, والناتجة من الصراعات السياسية على الحكم والتي تحولت إلى صراعات دينية. يشير الدكتور السيد القمني في مقال له بعنوان: " لكي لا يخدعنا بعضهم: هل كان تاريخنا ماضيا سعيد ", واكتفي هنا بذكر بعض من المعلومات الإحصائية الواردة في المقال المذكور وبتصرف ـ ويمكن للقارئ العودة إلى التفاصيل في ذلك ـ يقول القمني بعد أن يشرح بداية الصراعات السياسية ـ الدينية في زمن أبو بكر إلى الحديث عن التفاصيل فيما بعده, بقوله: "..... تم قتل عثمان ابن عفان بيد صحابة وأبناء صحابة. ومن بعدها خرجت الفرق الإسلامية تحارب بعضها, حتى مات حول جمل عائشة خمسة عشر ألف مسلم, ومن بعدهم مائة ألف وعشرة من المسلمين في صفين .... أما عن زمن معاوية وولده يزيد فحدث ولا حرج عما جرى لآل بيت الرسول, وكيف تم جز رأس الحسين ليرسل إلى العاصمة, وكيف تم غرس رأس زيد بن علي في رمح ثم غرسه بدوره فوق قبر جده رسول الله !..... وفي وقعة الحرة التي هي من كبرى مخازينا التاريخية, إذ استباح الجيش نساء المدينة أياما ثلاث حبلت فيها ألف عذراء من سفاح واغتصاب علني وهن المسلمات الصحابيات وبنات الصحابة والصحابيات. أما زياد بن أبيه, والي الأمويين على العراق على إقليم العراق, فقد شرع القتل بالظن والشبهة ...... أما نائبه الصحابي " سمرة بن جندب " فأن يديه قد تلوثتا فقط بدماء ثمانية آلاف من أهل العراق على الظن والشبهة ....... وقد سار الحجاج بن يوسف الثقفي على سنة سلفه زياد بن أبيه في إعدام النساء والقبض على أهل المطلوب حتى يسلم نفسه, ومنع التجمهر, وإنزال الجنود في بيوت الناس ووسط العائلات يلغون في الشرف كيفما شاءوا إذلالا للناس وكسرا لإنسانيتهم, حتى انه اعدم من العراقيين في عشرين سنة هي مدة ولايته مائة وعشرين ألفا من الناس بقطع الرأس بالسيف أو الذبح من القفا أو الرقبة ..... وعندما وصل العباسيون إلى السلطة بدأوا حملة تطهير واسعة شملت من مواطني دمشق خمسين ألفا تم ذبحهم, وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلا لخيولهم. ولما استقام لهم الأمر استمروا على النهج الأموي في ظلم العباد وقهر آدمية الإنسان.... " . ثم يختتم القمي مقاله ببعض التساؤلات المهمة, حيث يقول: " إذا قيل هنا أن ذلك كان منطق العصر, فلا خلاف أبدا حول قول القائل. وإذا قيل انه لا يصح محاكمة ذلك الزمان بذوق زماننا الأخلاقي, أيضا ليست ثمة خلاف. لكن الخلاف ينشأ فور القول باستعادة هذا الشكل من الحكم والأنظمة بحسبانها الأمل والمرتجى. هنا لابد أن نحاكمها بذوق أيامنا .......".
أن قراءة السيد القمي المتخصصة للتاريخ واستنتاجاته وأسئلته تدور أيضا هي الأخرى في ذهن المواطن العربي العادي, ولكن بعموميات الحرص والقلق الشديد على مستقبل الثورات الشبابية وبدائلها المستقبلية, خاصة عندما تحصل الثورات في عالم نوعي آخر يختلف جذريا عن عالم المئات من القرون الغابرة, واقل ما يقال أنها تجري في ظروف التقدم التقني والتكنولوجي والمعلوماتية وفي عصر التواصل الاجتماعي العابر للقارات من خلال شبكات التواصل الاجتماعي, متجاوزة فيه الحدود والقوميات والجنسيات, مما أسهم بشكل كبير في تغير الصورة النمطية والسلبية للشعوب العربية وعجل في إنضاج الخيارات صوب الديمقراطية من خلال التأثر بقوة المثل في المجتمعات المتقدمة, وأسهم بشكل كبير في رفع سقف مطالب الشباب الثائر في الحرية والديمقراطية الحقيقية وتحسين ظروف الوجود !!!!.
وجميعها عوامل تثير من حدة التساؤل المشروع, هل يستطيع الإسلام السياسي والذي يتمتع بزخم خلف الثورات أن يحتوي هذه التغيرات ضمن مساراتها الطبيعية ويحولها إلى مشروع نهضة قادمة في الفكر والحرية والديمقراطية والسياسة والاقتصاد والمجتمع, أي أن يتحول الإسلام السياسي من طبيعته " البيولوجية " التكيفية منعا لانقراضه من الوجود الشكلي في زحمة الأحداث الجارية إلى طبيعة تكيفية ـ توافقية على نسق ما يجري في التكيف النفسي والاجتماعي التوافقي للوحدة الإنسانية, من خلال الإشباع المتواصل والمتصاعد للحاجات الإنسانية وإرضائها تبادليا بين الأفراد والمجتمع بمختلف مكوناته الفكرية والسياسية والدينية والمذهبية !!!!.
إلى وقتنا هذا كما هو الحال في التاريخ الغابر لا توجد أدلة تؤكد صحة هذا التحول, ومؤشراته كثيرة ولا حصر لها, فالاقتتال بين الأخوة في الدين وطوائفه على أشده, وتكفير الآخر الديني وإقصائه تجري على مسامع وأبصار العالم في مجازر يندى لها الجبين, وسلوكيات التربص والاستحواذ والخلط الأعمى بين السياسة والدين وإدعاء الأفضلية على الآخر تجري على قدم وساق, والحروب الأهلية والإقليمية تأخذ مأخذها في عدم الاستقرار في المنطقة وفي العالم متلبسة بلباس الدين..... الخ.
وغدا بالتأكيد سوف تفتح صناديق الانتخابات الحرة في معظم الدول العربية على خلفية نتائج الثورات الشبابية والشعبية, ومن الأولى والاهم والأجدر أن يكون التصويت لصالح البرامج ومشروعات النهضة الاقتصادية والاجتماعية, وإذا كان التصويت للدين الخالص فيفترض أن تذهب نتائجه إلى رب العالمين خالق الدين, وليست للمتلبسين به, أما عدا ذلك فالخير فيما اختاره الله, فالدين لله والوطن للجميع !!!!!.

Opinions