Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الرجعيون... الترويض والترويض الآخر...

ستبقى طويلا هذه الأزماتُ... إذا لم تقصِّر عُمرَها الصدماتُ

تحكم باسم الدين كلُّ مُذمَّم........ ومرتكبٍ حفَّت به الشبهاتُ

وما الدينُ إلا آلةٌ يشهرونها....... إلى غرضٍ يقضونه وأداة ُ

 

.....

 

 

 

غالبا ما يتمسك المجتمع بعاداته وتقاليده بغثها وسمينها رافضا للتجديد..

 قد يبدو الجديد مخيفا لمجرد كونه جديد،والدعوة للتجديد قد تبدو دعوة للتجريد ولإحداث قطيعة معرفية مع الموروث الأجتماعي،وكثرما يُغَض النظرعن مدى صلاحية الموروث  وعمق امتداده النافع والفاعل بموازاة متغيرات الحياة ومتطلباتها..بل قد تكرس كل الطاقات لإضفاء هالة ايجابية على البالي منه لضمان ديمومته! ،فقد يرفض المجتمع ما يفيده لمجرد انه يتعارض مع  بعض مكنوناته المتوارثة وتقاليده المتبعة، اما الطاقات التي تكرس (بضم التاء وفتح الراء) او تكرس(بضم التاء وكسر الراء) ذاتها،فغالبا ما تكون طاقات عقائدية دينية وبرواد من رجال العقيدة الذين يمتلكون النفوذ وسطوة التأثيرعلى قطاعات كبيرة من المجتمع.. رجال الدين هم الأكثر التصاقا بالموروث سواء كان موروثا بملامح دينية صرفة  او موروثا اجتماعيا بمنعرجات تتقاطع مع الدين او حتى تناهضه!، فديمومة الخزين الأجتماعي المتوارث بغثه وسمينه تصب في ديمومة رجال الدين وتشحذ سطوتهم وتغلغلهم في البنى الأجتماعية كمصادر معلوماتية لشؤون الحياة العامة والخاصة لا يعلى عليها في القياس والحكم..

ربما خير مثال على ما اوردته هو  اعتراض رجال الدين في نهاية العشرينات من القرن المنصرم على فتح اول مدرسة للبنات في النجف الأشرف.. والذي تحول من موجة اعتراض ونفور الى موجة مقاومة عارمة  ومتوشحة برداء الدين وبقيادة الميامين من رجاله ،رغم انه لا توجد اية عقيدة دينية تناهض تعليم البنات (ولو وجدت افتراضا فلها ان تكون في سلة قمامة..اقولها يقينا) إلا ان رجال الدين قاوموا وبكل نفوذهم الأجتماعي انشاء مثل تلك المدرسة ..ولا تبرير ديني ممكن ان نستشفه  لتلك المعارضة فهي نابعة من التشبث الأعمى بالموروث الأجتماعي  السائد ليس إلا، والذي  يرى ان المدارس ونيل العلم والمعارف من حق الذكور فقط ، لذا اعتبر فتح مدرسة للبنات آنذاك قفزة على السائد تستحق المواجهة ، ورغم انها قفزة ايجابية ولصالح النهوض بالمجتمع ولا تتقاطع مع الدين إلا أن النظر اليها كان بعين آحادية الثقافة تحدق في الموروث المتداول فترى كل جديد تطاولا وخروجا عن المألوف الذي أضحى يقينا بحكم التداول والتقادم الزمني، ودنما النظر الى قيمته وآهميته الأجتماعية او حتى الرجوع الى  النصوص الدينية للمعالجة والقياس للخروج بموقف لا يتعارض مع روح الدين، فروح الدين بمنظورهم تلتصق بروح الموروث غالبا وإن كان الموروث بروح سمجة ينفرها  المنهج الديني الصحيح...

الشرائح الأجتماعية التي تقاوم كل جديد وعلى النمط المذكور ودنما وعي ودراسة يصح ان نطلق عليها ما اطلقه شاعرنا الكبير "الجواهري" على قصيدته الرائعة (الرجعيون) .. - وقد نقلت لكم ثلاث ابيات منها  في المقدمة-، تلك القصيدة  جاءت على اثر تحول الإعتراض على انشاء مدرسة للبنات في النجف آنذاك الى مقاومة عنيفة ضد تعليم الأناث، وبعد قصيدة سابقة للشاعر تخوض في نفس الأفق وكان عنوانها (علموها) والتي كانت ردا أوليا على ما ابدته القاعدة الدينية في النجف من اعتراض صارخ على فكرة انشاء المدرسة وقبل تصعيده الى مقاومة بتأجيج الرأي العام، تلك المقاومة التي قابلها شاعرنا "الجواهري" بقصيدة (رجعيون) فكانت تصعيدا مقابل تصعيد...

 

  .. لا يخلو مجتمع من المجتمعات من الموروث القيم الذي لا يستوجب القفز عليه او يبدو من الإخفاق القفز عليه مثولا لمعايير وقياسات خارجة عن بنية المجتمع وصيرورته التكوينية..إلا ان النظر الى عموم الموروث على انه ذات قيمة وجودة بلا قياسات علمية لفرز ما يصلح  وما ينسجم مع المتغيرات الحياتية ولمجرد كون  افراد المجتمع ألفوا هذا الموروث كما ألفه اسلافهم ،وارتبط وعيهم الجمعي به كونه الأصلح والأنسب للمجتمع عرفا،وبدون تقص للضرر والمنفعة والموازنة بينهما بظلال الحاضر والمستقبل، النظر بهذا القياس ينطوي على جمود فكري ورجعية تنخرط في مضمار الترويض الأجتماعي لعيش الحاضر بأدوات الماضي وبغض النظر عن صلاحية تلك الأدوات.. مثل هذا الترويض الرجعي بحاجة الى ترويض من نوع آخر يُقحم الفائدة  لتصبح عرفا متداولا سائدا بين  افراد المجتمع،بمعنى ترويض الأفراد لقبول فائدة ما خارجة عن العرف العام لتمسي بالتداول عرفا عاما...فمثلا فكرة انشاء مدارس للبنات لم تعد فكرة تقاوم وبجبهة عريضة من رجال الدين مثلما قومت عندما كانت فكرة وليدة خارجة عن المنظور الأجتماعي  والعرف السائد، فقد أُقحِمت ونُفِذت تلك الفكرة، وفعل الزمن فعله لإجتذاب الألفة والقبول، مدارس البنات  امست حقيقة اجتماعية لا بد منها وقد تقاوم بالنار والحديد فكرة اغلاقها في يومنا هذا الذي بات فيه رجل الدين- المعارض في الأمس القريب- هو من يصطحب بناته لتسجيلهن او ايصالهن بأمان حيث مدارسهن ،... مقاومة الجديد لا تنبع من  قياس الضرر والمنفعة ولو كان كذلك لكان عين العقل والتعقل.. فمثلا في المجتمع السعودي تقاوم اليوم فكرة قيادة المرأة للعجلات ،فالمرأة السعودية بالوعي الجمعي الحالي لا تقود عجلة، ليس لكونها غير مؤهلة او  لتعارض القيادة مع منظومة النص الديني، بل قيادتها لعجلة تبدو خارج المألوف الذي روض عليه افراد المجتمع وتقبلوه كيقين وبالكيفية التي توارثوها عن اسلافهم، ولكن سيأتي الجيل الذي يرى ذلك عرفا مقبولا وضرورة اجتماعية لا أمتياز فيها للمرأة  بعد ان  يألف ظاهرة قيادتها للعجلات وبعد ان تترسخ تلك الألفة في باكورة اعداد الوعي الجمعي  للجيل....

.... يبدو لابد من ترويض مضاد لكل من رُوّض ليكون رجعيا لا يألف سوى المألوف وإن كان ضررا.. ويكون الترويض بأقحام الفائدة لتبدو أمرا مألوفا بالتداول...الرجعيون بحاجة لإعادة تأهيل وأنسنة ليطلوا من كهوفهم  فلا يرون الشمس عورة.....

...والسؤال الوجيه هنا هو:

ما الفائدة وما الضرر، ومن هو المخول  بفرز الفائدة عن الضرر واقحامها في مجتمع ما لتمسي مع الوقت من الأعراف المعمول بها في ذلك المجتمع؟ ربما الجواب هو الإنسان الذي يمتلك ملكة عقله ولا يتردد في وضع اليقين الأجتماعي الموروث على طاولة البحث والتقصي وايا كان هذا اليقين وبلا أستثناء فلابد ان يفكك بعيدا عن التعصب للوقوف على مدى صلاحيته  في ميدان الحاضر وماهية قيمته الأجتماعية المنظورة على المديين القريب والبعيد.. والمجتمعات لا تنهض إلا بتواجد مثل هذا الإنسان في سوحها وبالكم الكافي..

 

ملكة العقل غالبا ما يقتلها التراكم اليقيني للمعارف بلا وعي ودراسة ودنما تمحيص فتمسي ملكة للجمود وللصراع من أجل الجمود والمضي قدما نحو الخلف لإبراز كل موروث على انه يقين سرمدي لا يجوز خرقه.....

 

  ....لنبقى مع" الجواهري" وابيات أ ُخريات من قصيدة (رجعيون)..

 

 

ستبقى طويلا هذه الأزماتُ..........إذا لم تقصِّر عمرها الصدماتُ

اذا لم يَنلها مُصلحونَ بواسل ٍ................جريئون فيما يدّعون كفاةُ

سيبقى طويلا يَحمل الشعب مُكرها.... مساويء من قد أبْقت الفتراتُ

قيودا من الأرهاق في الشرق أ ُحكِمتْ ..... لتسخير أهليه لها حلقاتُ

ألم تر أن الشعب جُلِّ حقوقه................هي اليوم للأفراد ممتلكاتُ

مشتْ كل جارات العراق طموحه........سراعا،وقامت دولة العقباتُ

ومن عجب أن الذين تكفلوا....................بأنقاذ اهليه هم العثراتُ

 غذا يمنع الفتيان ان يتعلموا... ..........كما اليوم ظلما تمنع الفتياتُ

 

 

"كما اليوم ظلما تمنع الفتيات"... ميادين المنع كثيرة،وفي ميدان التعليم تحديدا مازال الظلم قائما..فتيات القرى والأرياف لم ينلن نصيبهن من التعليم ..فتيات المدن قد يمنعن من اكمال دراستهن الجامعية او حتى المتوسطة والاعداية ،....وبعض دساتير الدول ومن ضمنها العراق،سُنّت ليكون التعليم الأجباري بمداه الأقصى.." المرحلة الأبتدائية".!.. ربما العلوم الضرورية لبناء مجتمع متحضر تنتهي بتلك المرحلة عرفا!!!...

Opinions