Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

السبيل الافضل

مع اوائل هذا القرن يكون الشعب الاشوري قد طوى مائة عام أو اكثر من العمل القومي الجاد المقرون بالعمل السياسي في احيان كثيرة، حيث كان معظم هذا الشعب يقيم في وطنه متشبثاً بأرضه رازحاً تحت نير العثمانيين والفرس من اورميا الى لبنان ومن بحيرة وان الى بغداد. ما يهمنا في هذا المقال ليس سرد تاريخ هذا الشعب ولا الخوض في تفاصيل معاناته واخفاقاته، وهو محارب دينياً وعرقياً في عقر داره، بقدر المحاولة لتوضيح وتسليط الضوء على اسلوب قادته الدينيين والمدنيين في التفاعل مع الجار المحتل والتعامل مع السلطان المستبد خلال القرن الماضي.

كما هو معلوم، هناك طرق واساليب عديدة للتعامل بين القوي والضعيف، بين المحتل والخاضع لنيره وجبروته. ولكن في معظم الحالات يمكن حصر مجالات هذه العلاقة بخطين أو اسلوبين اثنين. الاول يتمثل في الرضوخ ومهادنة القوي والتهافت على مكرماته الملوثة بالغدر والدسيسة والمكر. والثاني يتجسم في اتباع اسلوب الرفض لكل ما يتعلق بالمحتل أو المتسلط وأزلامه مهما كان وأي كان مصدره ونوعه وبغض النظر عن نتائج هذا الرفض!

والاسلوبان واضحان في النظرية والتطبيق للمتتبع لمسيرة العمل القومي والسياسي للاشوريين طوال القرن الماضي، حيث انقسم أهل الشأن والقرار من الاشوريين الى مجموعتين، كل منهما اتبعت احد الاسلوبين. وبالتجربة والملموس كانت النتائج غير متوقعة ومخيبة للامال طوال تلك الفترة ولحد الان، وللفريقين معاً.

هذا الواقع المرير والميؤوس منه لم يكن حال الاشوريين وحدهم، فهو في الغالب كان ومازال حال كل أمة محتلة اراضيها، مصادرة قراراتها، ومشتتة في وطنها بين الشيع والمذاهب، كما لم يكن حال الاشوريين هكذا في القرن العشرين فقط بل امتد الى خمسة عشر قرناً خلت. وعلى سبيل المثال نذكر كيف ان قائد الامة الاشورية المسيحية المشرقية الشهيد مار شمعون برصباعي إبان محنته مع الفرس الساسانيين اختار خيار الرفض والصمود بوجه المحتل والمتسلط. وكيف ان شعبه وقادته الدينيين والمدنيين التفوا حوله رافضين المداهنة والخضوع. وكانت النتيجة الكثير من التضحيات بالنفس والمال ـ مشهور هو الاضطهاد الاربعيني الذي واجهته الامة وكنيستها وهي صامدة صامتة امام بطش شابور الثاني! ـ . أما نتائج هذا الموقف فكانت ـ ولو بعد حين ـ انتعاش الامة والكنيسة معاً، وبشكل وطّد اقدام الاشورية المسيحية في وطنها وفي هذا الشرق كله ولقرون طويلة.

وبالمقابل لابد من ذكر مثل عن حالة الخضوع والمداهنة والتي مارسها البطريرك مار يابألاها برطركايي (ابن الاتراك) رئيس الكنيسة الاشورية بعد مرور الف عام على موقف برصباعي. ان البطريرك برطركايي وهو الزعيم الروحي والدنيوي للاشوريين اختار اسلوب الخضوع والمهادنة والقبول بكل شيء من أجل كل شيء. ومارس هذه الطريقة دون تردد، وبشكل مفضوح مع سلاطين وخانات المغول، وكانت النتيجة هلاك ملايين الانفس الاشورية المسيحية من اواسط آسيا والى بغداد والشام، ودمار كل شيء من أديرة وكنائس ومدارس وبلدات وقرى آشورية وبالكامل. أما هو فكان منهمكاً في التنقل بين معسكرات المغول لاستمالة قلوب بعضهم للعطف على هذه الامة وشعلة حضارتها "الكنيسة المشرقية" ولكن دون جدوى، الى أن أقر واعترف بنفسه ولكن بعد زوال كل شيء حين قال: "لقد تعبت وخارت قواي في خدمة المغول"

أما في مطلع القرن العشرين موضوع البحث، فكان الوضع مختلفاً حيث نجد وفي آن واحد من يرفض التعامل والتعاون والمهادنة مع المتسلط والاستسلام للوعود والعهود التي يعرضها، ومن يركض وراء السراب ويؤمل نفسه ويتأمل بقطف الثمار من الشوك. أما ضمير الامة ولسان حالها فكانا مع الصامد والعصامي لان تجربتها الحضارية أملت عليها الكثير من الخبرة كنتيجة للممارسة الميدانية في مثل هذه الحالات. وكانت تسأل وهي غير منتظرة الجواب: "ما العمل مع الزعماء الروحانيين والقادة المتقاعسين والراغبين في العيش المسالم الهاديء المؤطر بفتافيت ونعمات السلطان" ؟

فعندما كان البطريرك مار شمعون بنيامين يستشهد في ساحات النضال لاجل الامة وعنوان حضارتها المسيحية، كنيسة المشرق الاشورية. كان بالمقابل الكثير من المطارنة وبعض البطاركة يتأملون خيراً في السلطان وهداياه، وهم قابعون في صوامع المهانة والنيران تأكل من كل صوب بالشعب الاشوري ـ رعيتهم المؤمنة المطيعة ـ اذا كانوا حقاً رعاة صالحين!. النتيجة واحدة دوماً لاصحاب الموقفين المتناقضين والتاريخ شاهد صادق على ذلك، فالذبح والقهر والاضطهاد والطرد والابعاد كان شاملاً ومتساوياً في حجمه وقسوته للصامدين الرافضين والخاضعين المطيعين! لم ينجو المناضل المؤمن بالوجود الاشوري لانه معارض للطغاة المستبدين. وهلك الذليل المتملق شرّ هلاك لانه مرتزق خان قومه وابناء جلدته، فكيف لا يخون ولي نعمته السلطان؟

واليوم وبعد أن طوت البشرية القرن العشرين، قرن الموت والمذابح، والمآسي والانسحاق القومي بالنسبة للاشوريين بكافة مكوناتهم وحيثما وجدوا في الوطن او خارجه. يمكن القول ودون تردد أو تحفظ بأن الوضع الاشوري هو نفسه، بل وأكثر تشتتاً وتخبطاً فيما يخص اختيار السبيل الامثل للتعامل مع الاوضاع والمجتمعات والمجاميع المحيطة به بالاضافة الى فقدان النظرة السياسية الثاقبة لقراءة وتحليل المستجدات قراءة صحيحة ومن ثم تحديد المواقف. اذ يلاحظ المتتبع للشأن الاشوري هذا التخبط وبشكله الواضح وبدرجاته العليا مستشرياً بين معظم الفئات القيادية في المجتمع، دينية كانت أم سياسية، اجتماعية أم تربوية... الخ.

فهناك الضعيف المنتفع الذي يمكن وصفه بأنه "مع الكل وفي كل الظروف"، ونقصد بالضعيف هنا من لا أمل له في آشوريته ووجود ذاته القومية وخصوصيته الحضارية. وهناك الانتهازي المتربص، فهو القابع المنكمش في ذاته حال وجود القوة وساعة وجوب اتخاذ القرار، ويزأر كالاسد الهائج لاهثاً وراء مكاسبه الشخصية والفئوية عندما تسنح الفرصة لذلك، ناكراً ارتباطه القومي، لان سجل اعماله ومواقفه ليست مشرفة في هذا المجال. وهناك المتنقل من زاوية الى أخرى والمتحول من لون الى آخر، فهو مع الكل وضد الكل في الوقت عينه شريطة تحقيق مصالحه الآنية والذاتية ولا يعنيه الشأن القومي كلياً رغم الادعاء والتبجح المفضوح في هذا المجال.

وهناك القومي العصامي الصامد الصامت الرافض للانخراط مع الفئات الاخرى في مساعيها غير القومية، ناكراً عليها مواقفها الفئوية، وتنكرّ بعضها للمفهوم القومي والحضاري الاشوري، واستغلال بعضها الاخر لهذا المفهوم بشكل يسيء بالامة ويخدم مصالحها الآنية والذاتية.

هكذا فأن هذه الفئة (القومية المغيّبة) هي عرضة للانتقاد والتشويه والتشهير بها من الداخل والخارج. ونعني بالداخل البيت الاشوري بالمعنى الشمولي له. أما الخارج فيقصد به من هم خارج الامة الاشورية، وهم في الاحتكاك معها بحكم تقاطع المصالح وتداخل ميادين الطموحات المشروعة وغير المشروعة أحياناً!

وأمام هذه الحالة المهبطة للعمل القومي برمته ومبددة الامال، يأتي السؤال الجوهري، السؤال الذي طالما تهرّب منه الكثيرون، الا وهو :" ما السبيل الافضل؟" الذي يجب اتباعه من اجل المحافظة على وجود الامة ووحدة كيانها ومن ثم صون وتطوير آليتها الحضارية في وطنها الام ـ العراق ـ .

للاجابة على هذا السؤال لابد من القول لكافة ذوي الشأن والعلاقة بالمسألة الاشورية: "أيها الاخوة، الماضي كتاب مفتوح ودروسه بليغة في هذا المجال فكل الذين ساروا مع التيار كانوا خاسرين! وكل الذين فضلوا المصالح الآنية وسعوا الى مكافئات السلطان ونالوا الوظائف بسبب المهادنة والمداهنة وعلى حساب الامة ومصيرها كانوا خاسرين! وكل الذين تطرفوا (ابتعدوا الى طرف ما) من ساحة الامة وتستروا تحت مسميات وعناوين وخطابات فئوية بعيدة عن درب الامة كانوا خاسرين!.

واليوم ومع وجود كل هذه الفئات والاصناف والجماعات ورغم ممارستها نفس الاساليب لتحقيق نفس الغايات أو غيرها، نجدهم بل هم ايضاً يجدون انفسهم خاسرين"!

هكذا ايها الاخوة فلا بديل عن العمل القومي المترفع عن المكاسب الحزبية والفئوية والطائفية، والمقرون بالوطنية الصادقة. ولا سبيل أمام كل ابن بارّ لهذه الامة إلا الاعتصام بقضيتها الجوهرية، والمطالبة بحقها الجليّ في الوجود داخل وطنها العراق. فلا بديل عن الاشورية كهوية ولا بديل عن وجود الاشورية كقومية حضارية انسانية معاصرة تعيش في العراق أسوة بالاخرين معززة مكرّمة من قبلهم لانها قبلهم ولانها الاصل هنا في الجبل والسهل لهذا الوادي العظيم "وادي الرافدين".

عن موقع كتابات
Opinions