الصباح تلتحق بشبكة الإعلام الطائفية - أهلاً بمثقفي العراق وهم يصنعون ويرضخون للدكتاتورية الجديدة
في أول دخول لي لقناة العراقية الفضائية، صادف يومها مرور مناسبة دينية شيعية... صافحني موظف الاستعلامات وهو يقول بحزن بالغ: «عظم الله أجرك ((مولاي))».ارتبكت..
لحظتها تهشمت، ثم وبعد فترة وجيزة استجمعت أجزائي وقلت: وما الغريب في ذلك، ألست في العراقية حيث الشيعة وحدهم يتكلمون.
تخيلت بعد ذلك موقفي لو لم أكن شيعياً. ثم وفي مثل هذا الجو الطائفي الصارخ، أدخل للعراقية ويستقبلني أحدهم بهذا الشعار التمييزي الفاقع، تخيلت ذلك فاغرورقت عيناي بالدموع، لأنني شعرت بالغربة والدونية والحقد.
يفترض بالعراقية أنها تمثل الحكومة، ويفترض بالحكومة أنها منتخبة من قبل كل الشعب، وينتظر هذا الشعب من حكومته التي انتخبها أن تمنع منتسبين دوائرها من أهانته، أو تعريضه للإحساس بالغربة وهو في وطنه.
لحظة قال لي موظف الاستعلامات تلك الجملة تمنيت أن أفعل شيئاً.. أنتصر من خلاله لإنسانيتي، أثأر لاحترامي لنفسي، كذلك أنتصر فيه لشركائي في الوطن والمصير. لكن شجاعتي خانتني.
لا أعرف كيف يمكن للمكون العراقي الشيعي الذي أرهقته الطائفية طوال ثلاثين سنة، أن يكون بارعاً بارتداء أسمالها البالية والتباهي بنتانتها. كما لا أعرف كيف يمكن لقناة فضائية يجب عليها أن تمثل كل أطياف الشعب أن تملأ مكتب الاستقبال فيها بثلَّة طائفية لا تتقن أكثر من استقبال زوارها بالشعارات التمييزية.
أقل كفاءة أو لياقة يجب أن يتمتع بها موظف الاستقبال هو أن يجيد الابتسام بوجه الداخلين وأن يميز بين بيوت العبادة والفضائيات، فبيوت العبادة يدخلها أبناء دين واحد وطائفة محددة، وكثيراً ما يدخلها أبناء قومية واحدة. أما الفضائية فيدخلها جميع أصناف البشر ومن مختلف ملل أهل الأرض، ووظيفته أن يستقبلهم باحترام يحافظ فيه على كرامتهم، ولا يمسَّ بأي شكل من الأشكال أحاسيسهم. لكن من الجدير بي أن أسأل هل يعرف مدير العراقية نفسه الفرق بين الفضائية وبيت العبادة قبل موظفيه؟ أعتقد بأن أي متابع للعراقية وخاصّة أيام المناسبات الدينية يستطيع ببساطة بالغة أن يجيب على هذا السؤال.
يمكن لنا أن نتنازل عن شرط تمتع موظف الاستعلامات بالقابلية على التكلم بأكثر من لغة ـ باعتبار أن الوظائف في مندرجة في المحاصصة ـ ولكننا لا نستطيع أن نتنازل عن كونه يحسن التعامل مع أكثر من طائفة وجنس ودين. خاصَّة في بلد مثل العراق وفي هذا الوقت بالذات.
المهم لم أمتلك الجرأة ولا الشجاعة لأقف موقفاً وطنياً إنسانياً وأرد اعتباري كوني تعرضت لإهانة تمييزية لا تقل شأناً عن الإهانات التي يوجهها لنا الذبّاحين على الهوية أو مصاصي الدماء تحت عناوين الدفاع عن المذهب والدين.
لم أمتلك الشجاعة.. طأطأت رأسي ودخلت.. وربما لأنني فعلت ذلك فقد تعرضت لإهانة أكبر وأكثر مرارة ومبعثاً على الشعور بالدونية، فما أن خرجت من مبنى الأستوديو في طريقي لمغادرة القناة حتى سمعت ملء أذني مجموعة أخرى من (موظفي) القناة وهم يرددون بصوت عال وبشكل سافر وعلني ((علي وياك علي))..!!
يا لله ويا لهذا الشعب البائس الذي يذبح نفسه بنفسه، ويشحذ بيديه السكين التي ستحز عما قريب رقبته..
صدقوني لقد تذكرت كلاماً للإمام علي(ع) وهو يقول: عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه. ففي هذه الحكمة يدلنا هذا الحكيم على الأسباب الموضوعية التي تدفع ببعض الفقراء لقطع الطريق ويطالب برفع هذه الأسباب قبل مطالبتهم الكف عن جرائمهم.
نعم وأنا أعجب لمن يدخل العراقية ويسمع هاتين الجملتين كيف لا يرتدي حزاماً ناسفاً ويخرج به على الناس وهو يصيح ((الله أكبر)).
عموماً خرجت من القناة جريحاً كسيراً مهزوماً إلى أبعد الحدود، وعرفت يومها علَّة تحول العراقية من قناة فضائية إعلامية إلى حسينية دينية شيعية.
ما يجعلني أتذكر هذه المعركة الخاسرة التي خضتها في العراقية، هو هزيمة أخرى لي في دائرة أخرى من دوائر شبكة الإعلام العراقية.
في الصباح، في الصحيفة العراقية، الصحيفة التي تمول من ثروات العراق، كل العراق، الثروات التي يملكها جميع أبناء هذا البلد، هذه الصحيفة هزمتني بطائفية أخذت تترعرع فيها شيئاً فشيئاً.. التمييز العنصري والطائفي أخذ يبسط هيمنته على هذه الصحيفة بشكل سافر وبشع. من خلال ضغوط شتى وأساليب مختلفة، الأمر الذي سيدفع بها ـ وهي التي كانت ولوقت قريب عراقية صرفة ـ للإلتحاق بركب شبكة الإعلام (الشيعية).
أربع مقالات منعت من النشر فيها، بحجة أنها تثير الحساسيات، وفي الحقيقة كانت جميعها كذلك لكن المشكلة أنها تثير حساسية جهة واحدة فقط من جهات شعبنا الكثيرة. ما أثار حفيظتي هو أن الأربع مقالات كانت تتعرض لجهة واحدة، لا تريد الجريدة أن تتعرض لها، الأمر الذي يشعرني بالدونية. نعم لقد شعرت بأنني كنت مغفلاً لدرجة أنني استُخْدِمتُ طائفياً وبشكل غير مباشر، فبما أنني أتعرض لجميع السلبيات التي ألاحظها، ما يعني أنني أنتقد أخطاء جميع المكونات، وبما أن مقالاتي تنشر بشكل انتقائي، أي بشكل طائفي، فهذا يعني أن مقالاتي التي تنتقد المكون الذي أنتمي إليه هي التي لم تنشر، أما تلك التي أتعرض بها لأخطاء المكونات الأخرى فقد نشرت. وهذا يعني أنني اسْتُخْدِمْتُ ضد المكونات الأخرى بالرغم مني ودون أن أشعر.
للأمانة فإن هذا السلوك بدأت بملاحظته منذ أشهر، أي أنني كنت أنشر بهذه الصحيفة كل ما يحلوا لي، وكانت هي ـ بالنسبة لي ـ ميداناً مفتوحاً لإبداء الرأي بلا مواربة وخوف.. لكنَّ أمراً ما تغير في هذه الصحيفة ما جعل عيني تتوجه لموضع الدفة في سفينتها.
مقال تناولت فيه الأزمة اللبنانية، وخدشت من خلاله الحياء الإيراني، ألقي به في سلة المهملات، لئلا يثير الحساسيات عابرة الحدود. آخر تعرضت فيه للذكورية المفرطة في التوجهات الإسلامية الشيعية العراقية، منع من النشر حفاظاً على حساسية المتدينين (وليس الدين). وثالث غامرت فيه بالكلام عن الميليشيات تعرض لنفس المصير.
وكان الفصل الأخير في مسلسل هزائمي مع الصباح، هو مقال كتبته عن الفدرالية، حيث تعرضت فيه (للحرافيش) الذين ينوحون عليها.
أنا حقاً لم أحذّر من الفدرالية باعتبارها شكلاً من أشكال التعامل مع السلطة، لكنني فقط كنت أريد التحذير ممن يجيدون استغلال المواقف والفرص لتعبئة كروشهم بالمصالح الأنانية، التي لا تكترث لشلال الدم الذي سيغرق العراق عما قريب. المقال أعيد لي مع إعجاب الأخوة في التحرير وأسفهم البالغ على عدم تمكنهم من نشره، وكان لسان حالهم يقول (قلوبنا معك وسيوفنا..). أهلاً بمثقفي العراق وهم يصنعون ويرضخون للدكتاتورية الجديدة.
لا أعرف وأنا أكتب هذه الكلمات حقيقة الدافع الذي يجعلني أكتب. وهل أن كتابتي لها بدافع من الانتصار للعراق أم لذاتي الجريحة ولمصالحي التي مسَّت من قريب، كما أنني لا أعرف إن كانت هناك أسباب أخرى موضوعية حالت دون نشر مقالاتي غير هذه الطائفية. ولا أعرف أيضاً إن كنت سأتصرف بغير ما تصرف به الأخوة في التحرير لو كنت مكانهم (موظفاً في الصحيفة). لكنني أعرف ولا أشك بمعرفتي بأن نسبة كبيرة من عمليات الذبح والتفجير والنسف والتهجير التي يتعرض لها شعبنا الآن تتحملها قناة العراقية الفضائية بإدارييها وموظفيها صغيرهم وكبيرهم. وسيتحملها معهم كل من يسلك سلوكاً تمييزياً وتحت أي شعار كان.
مهما كان هذا السلوك بسيط وغير فاقع فإنه مؤذ، خاصَّة إذا تبناه النخبة من مثقفينا، الذين نفترض بهم النزاهة.
كنّا نتمنى أن يستطيع الإعلام الممول من قبل السلطة الديمقراطية أن يلم فرقاء هذا الوطن تحت راية واحدة، وإذا به يصرخ بينهم بالويل والثبور، وإذا به يصنع راية فاقعة بعنجهيتها وينزوي تحت ظلها اللاظليل. وكانت نتيجة هذا التصرف الطفولي غير المسؤول أن امتنع أبناء شعبنا من مشاهدة برامج قناة العراقية، وصنع كل منهم فضائيته الخاصَّة، وهكذا... فبينما تغرق العراقية باللطم والبكاء، تنبري بمقابلها أخرى لتغرق بلعن الصفويين وتحذر العراقيين من الريح الصفراء القادمة من قم وطهران بلبوس شيعة العراق.
قلما شعرت بالفخر أو الاعتزاز وأنا أشاهد برامج العراقية، بل كثيراً ما شعرت بالعار. كثيراً ما أيقنت وأنا أشاهدها بأن طائفية أزلام صدام كانت أهون بكثير من طائفيتنا نحن أزلام الدين أو التحرير أو الديمقراطية.
أخيراً أنصح كل من لا يجد في نفسه الكفاءة في التصدي للمسؤولية وتحمل ثقلها من كوادر جريدة الصباح بأن يبحثوا عن قوتهم في مكان آخر ويتركوا المسؤولية لمن يستطيع تحملها، حتى لا يشتركوا في جريمة صناعة صدام آخر برداء عراقي جديد.
عن كتابات