الصراعات العرقية في الجزيرة السورية: "لا عرب ولا سريان، هذه كردستان"
تعرف المنطقة الواقعة ما بين نهري دجلة والفرات في شمال شرقي سوريا بـ (الجزيرة) وهي جزء من بلاد ما بين النهرين. وتشتهر الجزيرة السورية بانهارها (الفرات، دجلة، الخابور، جغجغ، وبليخ)، وكذلك بمدنها الاثرية التي تشكل حلقات وصل مهمة ما بين المدن والبلدات العراقية والمناطق السورية الممتدة على طول وعرض رقعة الجزيرة السورية. فمثلا، لعبت مدينة ماري الاثرية (تبعد 11 كم شمال غربي البوكمال السورية مقابل منطقة القائم العراقية) دورا مهما في ربط بلاد ما بين النهرين بسوريا الداخلية (بلاد الشام)، كما اصبحت منطقة تل براك الواقعة نحو 50 كلم جنوب غربي مدينة القامشلي، (وتعني تل براك بالسريانية تل السجود او التبرك والعبادة) محطة مهمة للامبراطورية الاكدية في طريق توسعها باتجاه الغرب، حيث بنى له الملك الاكدي (العراقي) نرام سين قصرا ضخما ما زالت اثاره باقية في تل براك. وكذلك جعل الملك الاشوري شمشي ادد احدى عواصمه في تل ليلان او كما تعرف بـ "شوبات إنليل" (تبعد عن مدينة القامشلي السورية 25 كم). ولعبت ايضا الممالك الارامية (مملكة آرام النهرين، بين نهري الفرات والخابور) ومملكة (بيت بخياني في تل حلف) دورا ثقافيا وجسرا للتواصل ما بين مناطق شرق الفرات وغربه. اما مدينة الرقا فقد كانت مركزا مهما من مراكز كنيسة المشرق السريانية، وفيها عقدت اهم المجاميع الكنسية كما يروي لنا العلامة السوري "السرياني" مار ميخائيل رابو (1126 - 1199 م)، وعلى رقعتها تنتشر اثار الاديرة والكناس السريانية، وفيها ايضا جامع اثري جميل وقصرا للرشيد، وظل السريان محافظين على تراثهم ولغتهم في الرقا لحين تدميرها على ايدي الشعوب التترية الوافدة (1258 – 1401). وعلاوة على الميراث الرافديني الضخم والعريق في الجزيرة الفراتية، فانها تحتوي على ثروة نفطية لا بأس بها في منطقتي (رميلان وديرالزور)، كما انها تعتبر غنية بزراعة القطن والحنطة
الجزيرة السورية والعشائر العربية!
ظلت العشائر العربية التي قدمت للمنطقة قبل الفتوحات الاسلامية (كقبائل طي وعقيل وتغلب ..) محافظة على دينها المسيحي حتى مطلع القرن الثالث عشر، وهناك من يقول حتى الرابع عشر. وكان لهؤلاء مدينة تقع في حوض الخابور وهي مدينة عربان، ويعتقد انها ربما تكون بالأصل مدينة (باعربايا) المذكورة بالمصادر السريانية، والى هذه المنطقة كان مفريان منطقة تكريت السرياني العراقي يرسل مطارنته لخدمة القبائل العربية المسيحية لأجل تحريضها على التوطين والاستقرار في المنطقة المسماة (باعربايا) الواقعة ما بين رأس العين السورية مرورا بمدينة نصيبين (موقع القامشلي الحالي) حتى مدينة الموصل العراقية، وجنوبا كانت تمتد مساحة باعربايا (أي ديار ربيعة) لتشمل اجزاء مهمة من محافظة الانبار العراقية الحالية بالقرب من حدود محافظة ديرالزور السورية. ويقول المؤرخون ان مدينة (عربان) كانت في الماضي منطقة اشورية تدل الاثار المكتشفة فيها على ذلك. واقام الرهبان السريان في مدينة تل تنينير صلاوتهم ورتلوا ترانيمهم بلغة سوريا القديمة (السريانية) الى ان دمرها الطاغية المغولي تيمورلنك (1336 – 1405) اثر مروره بالمنطقة عام (1401) حيث حاول تطهير الارض من سكانها السوريون، ومن نجى من هول المذابح وحملات القتل لجأ اما الى جبال الجزيرة (هكاري وطورعبدين وسنجار) او الى عمق بادية الشام. ومنذ تلك الغضون حتى مطلع القرن العشرين تحولت معظم مدن وقرى الجزيرة (نصيبين، راس العين، دارا، عامودا، تنينير، عربان، ليلان، عين ديوار ، بارابيتا...) الى مناطق فقيرة غاب عنها وجهها الحضاري الذي طالما اشتهرت به على مر العصور اذ تشهد الاثار والاوابد وكثرة التلول الاثرية على ذلك. وتلاشت بعد حملات المغول والتتر الهمجية الكثير من اسماء المدن والمناطق الرافدينية في سوريا وظهرت بالمقابل أسماء لمدن جديدة في مطلع القرن العشرين.
ويبدو ان القرن الثامن عشر شهد عودة مجاميع كبيرة من السكان (الناطقون بالعربية والسريانية) الى ربوع منطقة الجزيرة السورية بحدودها الحالية، كما قدمت للمنطقة موجة جديدة من العشائر العربية مثل شمر، وبكارا والجبور.. واعاد قسم من هؤلاء بناء قراهم التي دمرت مثل: بيازا، ليلان، حلوا، خويتلا، تل اريون، عامودا ... بالقرب من مدينة القامشلي الحالية (أي نصيبين)، وقرى: برابيتا وتل دارا وقصرو وغيرها بالقرب من مدبنة ديريك السورية. وللاسف الشديد ان معظم العائدين من السريان تعرضوا مرة اخرى للقتل والتهجير ولكن هذه المرة على ايدي بعض العشائر الكردية القادمة من تركيا. مثلما جرى لسكان قرية حلوا السريانية (1907 – 1915) حيث اباد بعض الاكراد سكانها وابقوا على الاطفال الذين سبيوا ومنحوا الى حريم الاكراد لتكريدهم! كما ابيدت قرى سريانية باكملها في محيط مدينة ديريك السورية، حيث كانت تتبع هذه القرى ابرشية ازخ التي تكردت هي الاخرى (تقع اليوم ضمن الحدود التركية). وفي ظل الاستعمار الفرنسي الذي نهج سياسة فرق تسد، قام الاكراد في عامودا سنة 1937 بارتكاب مذابح فظيعة بحق السريان مما ادى الى هجرتهم منها وبالتالي تكرديها. وايضا قاتلت العشائر العربية بعضها البعض حتى ان فخوذا منهم ابيدت عن بكرة ابيها في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، كما حدثت اشتباكات عنيفة ما بين العشائر العربية والكردية في منطقتي عامودا والدرباسية. وما يزال المعمرين من السريان والفئات الاخرى يتذكرون تلك الاحداث المؤلمة، التي نذكرها هنا لا بهدف الاساءة لهذا او ذاك بل بغاية التعلم منها كدروس وعبر تاريخية لكي تتجنب اعادة تكرارها الاجيال المقبلة.
طرد السريان من الجزيرة العليا (تركيا)
بعد اتفاقية سايكس بيكو (1916) ازدادت وتيرة تهجير السريان باعداد ضخمة (واعداد مهمة من الارمن) من مناطق الجزيرة العليا السورية التي ضمت الى تركيا اثر المذابح التي ارتكبها الاتراك وبعض العشائر الكردية بحقهم، نحو الجزيرة السورية بحدودها الحالية، كما تزايد عدد الاكراد القادمين من تركيا بعد هروبهم من وجه العثمانيين اثر فشل حركاتهم المسلحة في الاستحواذ على اراضي السوريين في الجزيرة العليا من ايدي الاتراك، حيث استقرت عشيرة الهفيركان الكردية في منطقة قبور الببض، وتوزعت عشيرة الدقورية الكردية في عامودا، اما عشيرة المرسنيين فقد استقرت بالقرب من مدينة القامشلي، بينما شكلت القبائل العربية والى يومنا هذا اغلبية في جنوبي الجزيرة
واثر بروز بوادر جدية ومهمة في طريق العملية السلمية والتعايش الاخوي ما بين مختلف فئات ومكونات الجزيرة السورية: (العرب – السريان – الاكراد – الارمن ..)، اوقد السريان في الجزيرة شعلة الحضارة مرة اخرى، (كما فعلوا في عصر الاسلام الذهبي) فقاموا بتأسيس المدارس والاندية الثقافية والرياضية والاجتماعية واهتموا بالبيئة والتشجير وأدخلوا للجزيرة ادوات الزراعة والصناعة الحديثة بواسطة عائلتي اصفر ونجار السريانيتين، وشهدت المنطقة ما بين اعوام (1948 – 1963) نهضة حضارية فعلية على مختلف الاصعدة والميادين وكان السريان (الى جانب الارمن) قادتها الفعليين. وشهدت الجزيرة وقتذاك الكثير من المهرجانات الرياضية والاعراس الثقافية في عموم المنطقة، ويتذكر البعض كيف قويت وتمتنت روابط المحبة والاخوة ما بين سكان الجزيرة واهل الموصل العراقية من خلال عمليات الزواج والزيارة والتجارة والمباريات الرياضية التي كانت تجري لحين اغلاق الحدود ما بين البلدين (العراق وسوريا)، وفجأة تحولت الروابط الى فراق وقطيعة وضعفت العلاقة الاخوية شيئا فشيئا ما بين أبناء منطقتي الجزيرة السورية والجزيرة العراقية، الى ان قامت اجيال جديدة لم تعد تتذكر من اواصر الاخوة الماضية شيئاً!
اغلاق المؤسسات السريانية!
لكن هذا التطور الايجابي الذس شهدته منطقة الجزيرة، للاسف قد تم ايقافه، هذه المرة من قبل المد القومي العروبي (البعثي والناصري) الذي سيطر على مقاليد السلطة في سوريا منذ نهاية الخمسينات. لقد اوقف هؤلاء عجلة التطور والازدهار بعد أن شنوا حملات واسعة لتعريب المنطقة بهدف طرد السريان والاكراد من الجزيرة، فاصدروا قوانينا جائرة تتضمن اغلاق كافة الاندية والمدارس السريانية في القامشلي والحسكة وديريك والخابور، مثلما حدث لنادي الرافدين الشهير الذي تحول (فيما بعد) الى نادي الجهاد الرياضي بعد تعريب الاسم. وباتت الفرق الرياضية في سوريا منذ ذاك الحين تحمل اسماءً توحي بالقتل والدم والعنترية مثل: الفتوة، حطين، اليرموك، الجهاد، الجيش، الثورة، بدل ان تحمل اسماء المدن والمناطق السورية مثلما هو جاري في باقي البلدان. ولقد تعقدت المشكلة اكثر، عندما التقت مصالح القوميين العروبيين والقوميين الاكراد، بمكافحة الوجود السرياني (ربما لاسباب دينية)!؟ لقد تحول السريان في الجزيرة الى ضحية سهلة للايديولوجيات المتصارعة، مما ادى الى هجرتهم صوب مختلف اصقاع الدنيا. وكان من ابرز نتائج هجرة السريان من الجزيرة اختلال موازين القوى اذ حصلت تغييرات واضحة بالخارطة السكانية واللغوية التي مالت لصالح الاكراد في مدن القامشلي وقبور البيض وديريك (وسابقا في عامودا والدرباسية).
الواقع الحالي في الجزيرة!
يعيش اليوم في الجزيرة السورية (محافظات الرقا وديرالزور والحسكة) ما يقارب الثلاثة ملايين نسمة، اغلبيتهم من القبائل العربية. ويشكل الاكراد ثلث السكان في محافظة الحسكة، ويقل وجودهم في محافظتي الرقا وديرالزور. ويبلغ تعداد السريان (الاشوريين، الكلدان، والمحلميين) في الجزيرة ما يقارب (200) الف نسمة (الى جانب 350 الف سرياني جزراوي في بلاد المهجر) يتوزعون في محافظة الحسكة وخصوصا على ضفتي نهر الخابور حيث لهم ما يقارب 35 قرية، وكذلك يتواجدون في مدن القامشلي والحسكة والمالكية وقبور البيض وقلة قليلة في ديرالزور والرصافة، ويكاد ينقرضون من الريف بعد ان كان لهم فيه حضورا مهما. وهنالك اعداد قليلة من الارمن واليزيديين وبعض التركمان والجركس.
ان الجزيرة السورية في ظل المتغيرات السريعة التي تحصل بضغط من ابناء العم سام، وانعدام الديمقراطية، تعيش في حالة اضطراب كبير بعد تنامي حدة المنافسة العرقية بين سكانها: العرب والاكراد والسريان والارمن، ولقد استغلت الاحزاب العنصرية هذه الحالة وقامت بتأجيج حالة العداء بين الناس وطرح اثناء القلاقل التي جرت بمدينة القامشلي في الاونة الاخيرة شعارات انفصالية مثل: (لا عرب ولا سريان، هذه كردستان)!؟ وبات اكراد سوريا يطلقون تسمية (كردستان الغربية) على منطقة الجزيرة السورية ويشوهون تاريخ منطقتنا بغية تبرير شعاراتهم كـ (الحكم الذاتي، الفيدرالية وحق تقرير المصير) مما يوحي بان المنطقة مقبلة على صراعات عرقية ربما تكون اكثر قساوة ودموية مقارنة مع ما جرى في العامين المنصرمين! وما يفاقم الوضع اكثر هو التدهور الشديد بالحالة الاقتصادية نتيجة تزايد السكان بشكل لا يتناسب مع المشاريع والخطط الاقتصادية الحالية للحكومة السورية. هذا عدا الاضرار الواسعة والضخمة التي الحقت بالبيئة، فقد اختفت غابات الاشجار التي كانت منتشرة بكثافة في محافظة الحسكة وتكاد تنقرض اغلبية انواع الطيور والحيوانات البرية التي كانت تشتهر بها الجزيرة، وتناقصت كذلك وبشكل مخيف موارد المياه وجفت بعض الينابيع والانهار. والمرعب اننا مقبلون على كارثة بيئية ضخمة ربما تقتلع الانسان الجزرواي من جذوره وقتها لن تسعف الافكار القومجية والدينية والايديولوجية المسيسة احدا بشيء!؟
ويبقى ان نقول ان الاحزاب القومية الحاكمة في سوريا تتحمل مسؤولية ما الت اليه الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في بلدنا الغالي من تدني وتدهور نحو الاسفل. وازاء هذه المخاطر والتحديات نقول ان الجميع مدعون اليوم لنبذ كل اساليب العنف والقهر في معالجة المسائل والقضايا السورية الشائكلة مهما كانت. كما اننا مدعوون لبناء ورشة عمل جديدة ينضم اليها كل الفرقاء من عرب واكراد وسريان وارمن ويزيديين وتركمان للبدء بعملية بناء الهوية السورية الجديدة التي تستطيع بالتأكيد ضم كل فئات الوطن السوري تحت جناحيها.