الطائفية والعراق
لا تصلح الفتنة الطائفية للعراق, ولا يصلح العراق للفتنة الطائفية. والذين يخططون لترسيخ الطائفية في العراق يخلطون بينه وبين الدول المستحدثة الهشة, ويقفزون على حقائق التاريخ والجغرافيا. فأن تكون عراقياً يعني أن تكون ذلك السومري الذي اخترع الكتابة, وذلك البابلي الذي سن أول الشرائع, وذلك الأكدي الذي سير الجيوش, وذلك الآشوري الذي خلف للعالم أقدم المكتبات وأغناها.وأن تكون عراقياً يعني أن يكون في عروقك حد من سيف سعد, وإيقاع من خيل المثنى,ونبض من عنفوان المنصور, ودفق من حمية الرشيد. وأن تكون عراقياً يعني أن لك من المرضعات بابل ونينوى و الوركاء والكوفة والبصرة وأم العواصم بغداد, وأن تتساكن في وجدانك ترانيم عشتار, وملاحم كلكامش, وقصائد المتنبي, ومراثي كربلاء. فيك وفي ملامح وجهك يلتقي التاريخ وتتعرف الأقوام على أصولها. فكونك عراقياً يعني أن تكون أباً لكل تلك الشعوب التي شادت إمبراطورياتك, وأقامت صروحك, وأطلقت خيلك ما بين بوابات الشرق والغرب. وكونك عراقياً يعني أن تكون ابن كل هذا التنوع المجيد ووريثه الشرعي الباقي. كيف يتعصب العراقي ولمن يتعصب ومن بابل انطلقت كل اللغات وفي برجها تداخلت جميع الألسن؟
ومن أين تدخل الطائفية قلب العراقي وهو ابن كل هذه الحضارات وخلاصة كل هذا الإرث الإنساني المترامي? وكيف يرضى العراقي بالطائفية انتماء بديلاً عن عراقيته وهو الذي رأى الطوائف والأقوام تولد عند بابه وتموت ويبقى العراق؟
إن ترفع العراقي عن الطائفية لا ينطلق من شعارات حقوق الإنسان المعاصرة ودعوات التسامح والقبول بالآخر. إنما هو محصلة ذلك الاتساع الشاسع الذي اجتمعت تحت سقفه كل تلك الأجناس والملل وتفاعلت في ظله كل تلك التجارب والقناعات.
قد لا يستطيع كل العراقيين التعبير عن هذه الحقيقة بهذا الوضوح, لكنها حقيقة يدركونها, ويعيشونها, ويمارسونها بالفطرة. وما يدور في العراق اليوم ليس مواجهة بين طائفة وطائفة إنما هو معركة بين السجية والقسر, بين الاستنكاف المتكبر والترويج المبتذل, وبين ما هو متأصل في العراقيين وبين ما هو مصدر إليهم. ولا بد أن لا يبقى في العراق في النهاية إلا ما هو عراقي أصيل.