الطوباوية : بحر خيال ومتاهة اوهام
الطوباوية : المعنى والمضموننعم ، انها امتداد مخيال في الافق البعيد ، ورسوخ اوهام ، وهو مصطلح من اليونانية u-topos، أي "ليس في أيِّ مكان" . وهو التعبير الذي استخدمه بالمعنى نفسه توماس مور (في كتابه يوطوبيا) ليصف مدينة مثالية وخيالية ، أول ما نستنتج، أنه ليس بوسع هذا البنيان اليوطوبي أن يقوم إلا على جزيرة محمية ومنعزلة في الوقت نفسه. اما إن وسَّعنا المفهوم، فإنه يشمل كلَّ مجتمع خيالي غير قابل للتحقيق ـ على حد توصيف جيرار دوروزوي وأندريه روسيل في معجم ناثان الفلسفي ـ . انني لم اقف عند اول من استخدم مصطلح " الطوباوية " في الثقافة العربية التاريخية والسياسية ، ولكنها بكل تأكيد احدى مولدات بدايات القرن العشرين التي قام بنحتها أحد المترجمين العرب الاوائل .. وهي ترجمة محرفة لفظيا ومعنويا لمصطلح " اليوتوبيا " Utopia ومعناه كما جاء في ( ويبستر العالم الجديد في اللغة الامريكية ) : توصيف لجزيرة التصورات في كتاب تحت نفس العنوان لمؤلفه السير ثوماس مور (1516) ممتلكا لافضل نظام سياسي واجتماعي .. وثمة معنى يقول بالمكان المثالي ، وآخر يقول بالحالة التمام ، ومعنى ثالث ينصّ على الرؤية التصورية الخيالية للمجتمع المثالي الكامل .. ومن المصطلح تولدت الصفة والموصوف ( ص 825 ) . ان الطوباوية غدت اليوم توصف لكل من يحلق بعيدا في الخيال ليرسم لنفسه وللآخرين حقائق وهمية لا اساس لها من الصحة والواقع .. ان اليوتوبيا هي التصور ورسم الافكار غير القابلة للتطبيق ، كما انها الانشاء ورصف الكلمات لاشياء لا اساس لها من الصحة ..
ولقد راج المصطلح كثيرا في اوروبا ابان القرن التاسع عشر ، اذ وصف الفكر الاوروبي التعاوني الاشتراكي بالفكر الطوباوي الذي يجسد الاشياء التي لا وجود لها الا في الخيال .. فارتبطت الطوباوية لدى البعض بالخيالية . وببساطة نستطيع فرز من يمتلك تفكيرا طوباويا من خلال كلامه او كتابته او طبيعة تفكيره .. انه يطنب كثيرا ويهذي طويلا وتقرأ له صفحة كاملة عسى تقف على " فكرة " محددة ، فلم تستطع ! انه خيالي يسبح في الانشائيات والاوهام من دون ان يشعر ان ما يقوله او يعتقده لا اصل له من الصحة .. نعم ، انه يتوهم الخيال حقيقة ، ويؤمن ايمانا حقيقيا بما يمكن البرهنة عليه .. انه يجعل من تصوراته التي يبنيها حقائق ثابتة ويعتقد ان الناس كلهم مثله يؤمنون بما يؤمن .. فيذهب في شططه ويقدّم احكاما ويعلن عن حدود فصل .. ولا يتحرّج ابدا من تصديق الاوهام وبما يتفق وعقليته هذه ! انه اقرب ما يكون للتعميم منه للتخصيص ، بل والمعروف ان اي طوباوي لا يتحمّل التدقيق في الامور ، بل يأخذ الامور على عواهنها .. ولم يتراجع ابدا عن اخطائه لأنه لا يعتقد تفكيره الطوباوي بها مهما كانت كبيرة . وعليه ، فان امثال هؤلاء لا يمكن ان يتلاقى تفكيرهم ابدا مع اصحاب التفكير البراغماتي ، اي الناس العمليين او حتى اولئك الامبريقيين التجريبيين من اصحاب النزعة التدقيقية والتفكير العلمي .. اذ نجدهم دوما على طرفي نقيض ، والفاصل بينهما كبير جدا فتنعدم لغة الحوار تماما بينهما
بماذا نفّكر ؟ وبماذا نعيد التفكير ؟
لابد من إعادة طرح سؤال قديم يتجدد باستمرار : لماذا تأخرنا وتقّدم غيرنا ؟
ومن أجل الاجابة على هذا السؤال الذي ازعم ان فيه نوعا من الغباء عندما يسأل ونحن في غمرات مكونات التاريخ الحديث ، او بمعنى ان تقدما قد حصل في بيئاتنا وطالنا التأخر والتراجع في حين كانت الصورة معاكسة عند الغربيين كما يتصورون ! واعتقد ان ابتعاد التفكير العربي المعاصر عن التعمق في فهم التاريخ البشري وسوء استيعابه للتحولات الحديثة في العالم خلال القرنين الاخيرين قد سبب رواجا لقناعات غير صحيحة ابدا في ذلك التفكير الطوباوي وخصوصا في التربويات المدرسية والثقافة الجماعية الشعبية والاعلاميات الرسمية وكتب الايديولوجيا والسياسات المفبركة والخطابات العاطفية والحماسيات الثورية والشعارات الساخنة .. الخ بعيدا عن المعرفة والمنهج والعقل والنقد والتقييم وتبيان أوجه الضعف والقوة في المجتمع والدولة ، فضلا عن عدم تأسيس اي تمفصل عربي حقيقي بين مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع .
اختلاس التفكير : الاردية الممزقة
بالرغم من أن الأسباب القوية للتشاؤم الذي نجم من تجاربنا السياسية والايديولوجية العربية خلال النصفين الأول والثاني من القرن العشرين باختلاف احداثهما وشخوصهما ، إلا أن أحداث النصف الثاني تشير إلى اتجاه مختلف تماماً وغير متوقع عما كان يألفه المجتمع في النصف الاول منه . وإذا بتنا الآن في العقد الأخير من القرن العشرين وعند بدايات العقد الاول من القرن الواحد والعشرين ، نرى أن نخبنا ومثقفينا ككل لم يكشفوا عن شرور وآثام اقترفت بحق تكوينات اجيالنا التي تبلورت حياتها وتفكيرها بعد الحرب العالمية الاولى ، وإنما طرأ عليه تحسن واطراء ومنافع في مجالات واضحة معينة . ومن أبرز المفاجآت التي وقعت في الماضي الغريب ذلك الانهيار التام غير المتوقع للشيوعية العالمية خلال السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات .
وعندما سقط الاتحاد السوفييتي وانهارت معه المنظومة الاشتراكية في التسعينيات ، وهنا لا أجد نفسي إلا متفقا تماماً مع آراء اولئك القليلون الذين فضحوا علاقة الايديولوجية بالتفكير والمعرفة وهيمنة الخطاب السياسي والايديولوجي على الاذهان والعقول ردحا طويلا من الزمن ، وعولوا عليه كثيرا معتبرين اياه المخلص من اطواق الماضي بأسم ترديد شعارات التقدمية والتحررية .. الخ من دون ان يكونوا اقوياء حقا في مواجهة الامبريالية والرأسمالية .. وبالرغم من ادواته ووسائله التي يمتلكها وهي بدون شك مستعارة عن الاخرين في العالم ولا غرابة في ذلك باعتبار ان الجميع قد استعاروا وكانوا من المقلدين ، الا ان الشعارات التي عبرت عن خطاب مؤدلج كانت تستخدم فيه مصطلحات متنوعة ولكنها كانت خالية المضامين ، مثل : الحرية والحقوق والتقدمية والامبريالية والشعبية والصراع الطبقي والتنمية الانفجارية والرسالة الخالدة والوحدة الاندماجية وحرق المراحل والقفزة النوعية ... الخ وهي تعبيرات مفبركة اختلست تفكير الشعوب المتخلفة ولعبت بعواطفهم كما هي كانت ـ مثلا ـ لعبات ما اسمي بـ " الليبرالية العربية " في النصف الاول من القرن العشرين التي وصفت بـ " الرجعية واليمينية " من قبل " اليساريين والتقدميين " ..
واخيرا .. دعوني اقول شيئا !
وإذا ما نظرنا اليوم الى واقعنا نجده قد تخلى بسرعة عن تلك " الشعارات والتعبيرات " عند انهيار مصادر تأليفها في ادبيات المنظومة الاشتراكية التي عمرت عقودا طويلة من القرن العشرين .. واننا لا نجد إلا بنيويات كبرى من الأنظمة الايديولوجية الإستبدادية من كافة الأنواع اليسارية تتهاوى واحدة تلوى الأخرى وبدأت تنشأ عن انهيار هذه الأنظمة دعوات نخبوية وفكرية من اجل تأسيس ديموقراطيات ليبرالية تتمتع بالرخاء و الإستقرار . ولقد تأثرت النخب في العالمين العربي والاسلامي بالدعوات الجديدة لتبدأ تتقمصها من جديد بالرغم من ايمان هذه النخب بكل ما تتضمنه الايديولوجيات على حساب المعرفيات ! ولكن الذي يقف ازاء كل التناقضات اليوم ويشكل بنفسه تناقضات جديدة .. وهذا ما سنعالجه في مقال قادم .
www.sayyaraljamil.com