العقدُ الضائع
العام 2010 ، سيمضي عقد كامل من قرن جديد ، هزم خلاله العالم في استراتيجيات معينة ، واشتعلت فيه حروب قاسية ومتنوعة ، وافتقدت دول مصداقيتها فيه .. وحل الغلو والإرهاب لأقصى درجاته ، وانتشر الكساد الاقتصادي لدرجة مخيفة .. ولكن في الوقت نفسه ، صعدت أسهم الصين ودول أمريكا اللاتينية ، كي تعطي أملا للحرية والعمل والإنتاج في العالم . دخل العالم بكل أسراره ، كي يفتتح تاريخ قرن جديد باحتراق برجين توأمين ونمو ظاهرة مخيفة سميت بالإرهاب ، لتتحرك في مناطق متنوعة من العالم .. ولا تعرف خفايا هذه " الظاهرة " الخطيرة حتى اليوم ، وهي التي قادت إلى اندلاع حروب بدايات القرن التي لها علاقاتها مع حروب نهايات القرن الفائت .لقد نتجت عنها أربعة تغييرات حاسمة خلال عشر سنوات مضت ، وهي فرض الولايات المتحدة هيمنتها كأول إمبراطورية تضرب ضرباتها القاصمة كي يغدو العالم في قبضتها ، بعيدا عما كانت تسوقّه من مبادئ العولمة منذ عشرين سنة .. فضلا عن سيطرتها ، ليس على الطاقة ، بل على قدرة الطاقة في المستقبل .. وخلق البدائل الهشة لإيجاد فراغات كبرى في أمن دول ومجتمعات العالم بازدياد التوحش والغلو إزاء انعدام القانون ، مع زيادة المافيات ، ونشر الفساد وانهيار القيم ، وبث الانقسامات ، وإحياء التخلف .. مع شمول التخلص من الذرائع الغربية بحماية حقوق الإنسان العالمية ، أو حتى تطويرها لما فيه نشر السلم العالمي وتطبيق القانون الدولي .
إن سيطرة الجمهوريين على إدارة متغيرات العالم خلال ثماني سنوات من الحكم ، سيكون له تأثيره الكبير على مجريات العالم لزمن طويل قادم ، خصوصا إذا علمنا أن ردود الفعل على ما حدث لم ينته دورها حتى الآن .. وربما ستشهد المجالات الحيوية في العالم متغيرات ساخنة من نوع آخر خلال العقد الثاني من هذا القرن .. سيكون لها أثرها على المجتمع الإنساني كله ! إنها نتائج طبيعية لإفرازات تاريخ العقد الأخير من القرن العشرين الذي سقطت فيه الثنائية القطبية ، لتغدو الولايات المتحدة سيدة الاستقطاب العالمي . لقد قادت كل المتغيرات بما فيها المتقدمة منها كحرب العراق منذ العام 2003 ، إلى انتخاب باراك اوباما على أساس برنامج الانسحاب من العراق ، والتعامل مع روسيا في الرد على الهجوم على اوسيتيا الجنوبية .. فهل تؤذن نهايات هذا العقد الأول بنهاية الانفرادية الاميريكية دون رادع ؟ وهل أن لحظة القطب الواحد قد مرّت من هنا .. ؟؟ هذا ما ستجيب عليه أحداث العام 2010 والعقد الثاني القادم .
إن ظاهرة الكساد الاقتصادي التي تعم الولايات المتحدة اليوم ، وما حدث من انهيارات في كل من عامي 2008 و 2009 ، هي في جملتها من نتائج ما حدث في كل من عامي 2002 و 2003 ، لنشهد حالات لم يعرفها العالم منذ ثلاثينيات القرن العشرين ، وهي نتيجة طبيعية للتكلفة الهائلة للحروب المتعددة . إن المشكلة تكمن في خلق فوضى كبرى مع أسواق العولمة ، وفساد الشركات ، واختفاء أموال لا تعد ولا تحصى ! إن الكابيتالية العالمية قد غدت نموذجا للرأسمالية النهمة في كل العالم ، وقد بدأت تعمل على مدى السنوات العشرين الماضية باعتبارها الشكل الوحيد المقبول للإدارة الاقتصادية التي يبدو أنها آخذة بالاتساع ، على حساب حقوق الناس ، وتدمير العالم ، وتدهور البيئة مع ازدياد الفقر ، وتفاقم الإرهاب والصراعات الطائفية والعرقية .. الخ
والسؤال : هل أدرك المحافظون الجدد ما سيحدث من مخاطر التدمير في العالم ؟ أم أنهم قد خططوا لذلك كله في اقل من عشر سنوات ؟
لقد كانت الصين ذكية جدا كونها بقيت تسارع في تصاعدها ، وأنها تجاوزت واقعيا كل مشكلات الفجوة الاقتصادية ، وأنشأت لها مركزا جديدا للقوة في عالم سوف يغدو متعدد الأقطاب ، وستكون المناورات بتبلور ذلك على حساب الدول الأصغر ، والتي ستكون ضحية للخروج من أزمة الركود . ويشعر الساسة الغربيون بقلق متزايد من الصين ويلومونها نتيجة إخفاقاتهم في أشياء كثيرة ، بدءا بالخلل في التوازن التجاري ، إلى الفشل الذريع في مفاوضات كوبنهاغن حول تغير المناخ . ثمة تحولات في التغيير الاجتماعي التدريجي الذي اجتاح أميركا اللاتينية ، مقارنة بفشل تجارب الدول التي مرّت بالاشتراكية وإخفاقاتها اليوم ، مع تفكك أوصالها وبشاعة الحياة فيها .. مقارنة بجمود التقدم في مجتمعات الشرق الأوسط ، وإخفاقات النظم السياسية فيه ، التي لا تتقبل الإصلاح ولا التغيير .
إن الأبعاد الايجابية للعقد الأول ، تأتي مع جرعات كبيرة من التغيرات التي تحمل جملة كبرى من المؤهلات ، ولن تبقى أميركا طويلا أغنى وبدرجة ساحقة كقوة عالمية مهيمنة .. مع وجود عسكري في معظم بلدان العالم . إن بقاء الشرق الأوسط في رعايتها لم يجد أي فرص حقيقية للتقدم ، بل أصبح عرضة للانقسام والصراع والحروب الداخلية ! إن نجاح الصين قد تمّ شراؤه بسعر مرتفع في الحقوق المدنية وعدم المساواة .. وهكذا بالنسبة إلى متغيرات أميركا اللاتينية الأكثر ايجابية في العالم . إن مفكرين أميركيين يصفون السنوات العشر المنقضية بأنها " العقد الضائع " و " صفر كبير على الشمال " . من المؤكد أن العالم كله قد خسر الكثير خلال عشر سنوات مضت ، وبالرغم من كل السلبيات والحماقات والانهيارات والمشكلات ، إلا أن ثمة تطورات مهمة جدا قد حدثت في العالم . وأبقى أتساءل دوما : هل ثمة استراتيجيات خفية تطبق اليوم في بدايات هذا القرن ، ويدفع العالم كله فواتيرها اليوم ؟! ولكن بالتأكيد أن من يخطط لوضعها وتطبيقها .. سيجني ثماره منها بعد سنين !
نشرت في البيان الإماراتية ، 3 شباط / فبراير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com