Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الفاشلون هم أكثر الناس تمجيدا للحروب

ربما قراءة بسيطة لتراثنا الشعبي وموروثاتنا الأدبية والفنية كافية جدا لتكشف لنا عن الدرجة المتقدمة التي وصلنا أليها في قياس مستوياتنا وقدراتنا بالماضي سواء كان موضوع التفاخر إخفاقات أو نجاحات ففي الكثير من الأحيان نعود أليه ونمجده دون أن نتفحصه بشكل جيد ونقارنه بموازين اليوم لأن النظرة الإنسانية للأمور اختلفت وربما نظن خطأ بأننا ندعم يومنا الضعيف بأمسنا القوي والحقيقة قد تكون مخالفة لذلك فنفشل مرتان في أثبات وجودنا عندما ننشئ مقارنات خيالية لا تجدي نفعا في عالم اليوم المتحرك .

فلو تأملنا قليلا في أبيات معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي الشهيرة . تأخذنا الدهشة من أسلوبه الرائع في وصف مكانة قبيلته المرموقة ومفاخرها الكثيرة ولا
سيما في خوض الحروب وإنزال الخسائر بالعدو إلى أدنى المراتب المعروفة وعندما نتفحص المقارنات التي تحتويها المعلقة تثار فينا عدة تساؤلات حول مدى صحة الأمجاد التي يصورها الشاعر لقومه والخسارة لأعدائه ؟ وماذا لو كان كل ذلك الكلام مجرد رد فعل على واقعة أو حادثة هزم فيها قوم الشاعر أو قبيلته ولا سيما بأن التهديد والوعيد في بداية المعلقة يدعم هذا الافتراض والشاعر هنا يحاول تخفيف الشعور بالضعف بأن يسرد على مسامع أعدائه الانتصارات الكبيرة التي حققها أسلافه وخصوصا الدموية منها . هذا فيما يخص الشعر العربي قبل مئات السنين. وانعكاس ذلك حاضر طبعا في الواقع الذي نعيشه اليوم عندما نسمع الكثير من الجمل الرنانة التي يطلقها الكثير من الكتاب القوميون ورجال الدين والسياسة وحتى بعض زعماء التيارات السياسية والمنظمات الفاعلة على صعيد المجتمع وفي بعض الأحيان يتم تبني هذا النهج أصلا من قبل الأنظمة الحاكمة نفسها التي تبدو ميالة إلى غرز المبادئ الحربية في نفوس أبنائها وتشجع
الأطفال والفنانين ليغنوا للحرب وليرقصوا لإراقة الدماء وتصبح الدعاية الحربية والتفاخر بالنصر الدائم وتوجيه الأجيال إلى نمط من التفكير يشجعهم على حمل السلاح وهم صغار جزءا من خطتها الاجتماعية وأحد أهم الطرق التي تتوجه به إلى شعوبها الجاهزة لمثل تلك الأفكار لأن الشعور بالضعف موجود والهزيمة لا تفارق الواقع اليومي وفي كل مكان تقريبا . فمثلا النظام السابق كان له ممارسات تعتبر الأكثر فتكا ببراءة الفتية الصغار والأطفال عندما كان يجمعهم في مجموعات يطلق عليها (( الفدائيون )) يجبرون فيها على خوض تدريبات صعبة وتجارب قاسية كتقطيع حيوان مكروه وهو حي كالجرذ والأفعى إلى أشلاء بأسنانهم وتناول قطعا من لحمها النيئ وهو ما نعتبره مكروها أو غير مستحبا بالعادة .

أليست كل تلك الممارسات تدل على فشل هو واقع حال يعترف به كل من
يطبل ويزمر للأساليب الخشنة في التعاملات الإنسانية.

وماذا عن واقع حالنا نحن ككلدو أشوريون سريان نشترك في جذورنا التاريخية ألسنا متشابهين تقريبا في تمجيدنا للماضي ولكن بدرجة أقل فمثلا نسمع من أجدادنا من باب الفخر بأسلافهم بأن ملكا أشوريا جمع ملوك الأمم المعادية له وأجبرهم على طحن نباتات شوكيه بأرجلهم الحافية وأجسادهم العارية وإذا أستغل الأحفاد مثل هذه الحادثة التي لم تؤكد بعد صحتها التاريخية في موضوع فخر وتمجيد للماضي فبالتأكيد يكون المتفاخر والمجتمع القابل لمثل هذه المواقف قد وقع في كارثة إنسانية كبيرة لأنه يتفاخر بالظلم ويمجد العتاة ولو راقبنا اليوم ما هو شائع في أشعارنا وكلمات أغانينا من مصطلحات مثل كبارا (( جبار )) وبلاشا (( محارب )) ودمانا (( دموي )) وغيرها الكثير من الصور الكلامية التي تشبه إلى حد بعيد المقارنات التي أقامها شاعرنا الكبير عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته سالفة الذكر . والتي يراد منها تغطية الفشل الذي يشعر به المجتمع اليوم بما نعتقد بأنه نجاحات سابقة أو من خلال دفعه إلى النهوض وبث روح الحماسة بين أبنائه وإيقاظهم من الصمت المطبق الذي يلتزمون به من خلال تذكيرهم بتاريخهم العظيم وجبروت أسلافهم المرعب . . . . والأجدى من كل هذا وذاك هو أن نعيش الفشل بمرارته ولا نحاول الهروب من أثاره النفسية ليشكل ذلك لنا دافعا للنهوض بالواقع أو عدم الوقوع في الخطأ. وخير لنا أن نعتذر مرارا للشعوب عن أخطاء أقترفها أجدادنا بحقهم من التفاخر بها والتعلق بكبريائنا وزهوتنا الفارغة وأن نتعلم الانحناء
أمام ضحايا الحروب التي كان بلدنا سببا في افتعالها بدل تحمل عوقب الانتقام .

ومن يشعر بالفشل لن يخرج من دائرته إذا مجد النجاحات أو الإخفاقات الهمجية لأجداده الذين عاشوا قبل ألاف أو مئات السنين وحكمتهم مبادئ وظروف بالتأكيد تختلف عن تلك التي نعيش فيها اليوم والتي اختلفت فيها موازين الثناء والتفاخر فلم يعد السيف شيئا أمام القنبلة النووية وربما القوي هو من يملك أكثر ويفكر أكثر وليس من يقتل الكثير.
عصام خبو بوزوة – تلكيف
Opinions