القاضي .. الجلاد
لعبة نمارسها جميعا دون قصد احيانا وعمدا احيانا اخرى ، والدافع الرئيسي الى ممارستها هو حب الكلام وحب الاطلاع على ما يحكى من قبل الاخرين ونقله الى فئة اخرى .. فبعضنا يتصرف ببلاهة امام الملأ وينطق باحاديث وكلمات غير لائقة على اناس اخرين غير ابه بمشاعرهم ومشاعر الذين يسمعون الحديث والذين قد يستمتعون به احيانا ، وقد يكون في كلامه شيء من الحقيقة ، ولكن اكثره وان لم نقل كله كذب وتلفيق وعار عن الصحة .. فما دام يحكي او يتكلم على الناس امامنا فلنتوقع ان نكون نحن ضحيته المقبلة اذا تكلم امام اناس اخرين وفي مكان اخر . وقد يحدث ان نكون في مجلس فيبدأ احدهم بالحديث عن فلان (وهو غائب طبعا) ويصفه بكذا وكذا .. وهنا تبدأ سلسلة من الاتهامات من قبل شخص اخر يعززها تأييد رجل ثالث وتصديق اخرين ، ثم ينبري احدهم للدفاع عن الغائب .. وتستمر المداولات بين اخذ ورد ، وبعدها يصدر المجلس حكمه على هذا الغائب الحاضر دون مراعاة لإنسانيته وشعوره وحقوقه كأنسان ، وسواء كان الحكم بالمديح او الذم ، فالامر سيان .. اما في مجالس التعزية وخصوصا مجالس النساء فحدث ولا حرج ، اذ ان الكثيرين منهن يحضرن تلك المجالس كي يستمعن الى حديث فلانة وفلانة على فلانة ( الغائبة عن المجلس هي الاخرى) ، فيختلقن قصصا واساطير ليس لها وجود الا في مخيلتهن المرهفة ،وتستمر المحادثات الى ان ينتفض المجلس بصلاة الغائب على روح المرحوم .. وهكذا تجري الامور حتى على المستويات الاعلى ايضا – اقصد المستويات الثقافية – فلو شوهد احدهم يتمشى او يسير مع شخص اخر ينتمي الى فئة او طائفة معينة ، نبدأ حالا بالاشارة اليه بالبنان وننعته بشتى الاوصاف ونعتبره بانه قد انتمى الى تلك الطائفة وانه قد باع روحه رخيصة لها وانه يعمل كجاسوس لتلك الفئة على حساب فئة اخرى .. وهناك من يحكم على الاشخاص من مظهرهم الخارجي او من خلال ما يتملكونه من اموال دون الرجوع الى مصادرها ( مصادر الاموال) او الطريقة التي حصلوا عليها ، كل ذلك لا يهم ، فمثلا رجل يركب سيارة ( بي ام دبليو) الفارهة ويرتدي بدلة انيقة وربطة عنق فاخرة يتوسطها عقد من ذهب ويضع على عينيه نظارة جميلة ويدخن سيكارا كوبيا ويسير خلفه اثنين او ثلاثة من الذين استأجرهم لحمايته .. يحكم الناس عليه بالقول لانه مثقف وابن ذوات وانه يعمل للصالح العام ويلصقون به كل الصفات الحسنة ( وان كانت بعيدة عنه كل البعد احيانا ) متناسين انسانيته الحقيقية المتميزة وعدم الادراك لمجريات الامور وكيف كان اخواله قبل ان يحصل على تلك الاموال ، وفي الكفة الثانية من الميزان نرى هؤلاء الناس انفسهم يذمون الانسان الفقير الشريف عمدا ويواجهونه بتهم قد يكون بريئا منها والتي تسببت في فقره ، فيتهمونه بالبلادة والكسل ويعمل سيل الشتائم عمله في اذلال هذا الانسان دون مراعاة لظروفه وانسانيته ، ثم يبدأ التهكم والازدراء والسخرية ثم ياتي اتهامه الاقوى بالغباء رغم كونه في موقع ثقافي معتبر وذا مقدرة عالية على الخلق والابداع الفكري والقافي .. فيتحمل كل تلك الاهانات لكونه لا يمتلك اموالا يرد بها على امثال هؤلاء .. وهنا لا يسعنا الا ان نشير الى حالات الفرق بين هذا وذاك ..لقد نشرت احدى الصحف الوطنية ( وما اكثرها في الوقت لحاضر) مقالا يتضمن موضوعا تافها غير ذي معنى ، فبمجرد ان نظر الى اسم الكاتب ..وهنا تبدأ المفارقة .. حتى بدأ النفاق واخذ المديح الفارغ طريقهما الى القمة ، واعتبروا المقال بانه تحفة ادبية نادرة وان كاتبه اديب مرموق ولا يعلو عليه كاتب ، فهو في نظرهم طه حسين زمانه واحمد شوقي في شعره وهيغل في فلسفته وافلاطون في جمهوريته وغاليلو في علمه والمهاتما غاندي في سياسته وحاتم الطائي في كرمه وموزارت في موسيقاه .. كل ذلك لمجرد كونه غني فقط .. !! بينما نشرت زميلة ( صحيفة ) اخرى مقالة لكاتب اخر كان لها معناها العميق والمؤثر في بناء كيان هذا الانسان وتكوينه الثقافي والانساني ، كما ان كاتبها يمتلك كل مقومات الكاتب الحقيقي ، والذي من المفروض ان ينال الثناء على ما كتب ، نرى ان الذي حدث هو العكس تماما .. فبمجرد ان نظر الناس الى اسم كاتب المقال .. حتى بدأ سيل الشتائم ينهمر كشلال هادر عليه وعلى الصحيفة التي نشرته ، واتهم بانه غبي لا يفقه شيئا من الثقافة والافضل له ان يلزم داره بعيدا عن الاضواء الثقافية لأنها ( الثقافة ) لها رجالها امثال صاحبنا المثقف الغني .. كل ذلك لكون صاحبنا الاخير فقير الحال من الناحية المادية ، لا يمتلك حتى راتب يعيش منه .. رغم خلقه العالي واحساسه الانساني العميق .. يا لهذا النفاق المطبق ..!! يقيسون ثقافة الانسان بما يمتلكه من اموال .. وهنا اوجه سؤالي الى الذين تهمهم هذه الامور :- كم من مثقف ضاع في ضباب الفقر والبؤس وشظف العيش ..؟ وكم من جاهل برز تحت ستار الغنى والبدلة الانيقة ..؟ اما المثقفون الأغنياء فهم يحاولون دائما طرح افكارهم الخلاقة والمبدعة المليئة بالانسانية والمدافعة عن حقوق الفقراء ، عبر شراء ذمم وعطف بعض الناس من العاملين في بعض الصحف والمجلات لنشر تلك الافكار البناءة ( حسب اعتقادهم طبعا ) وعن طريق اسمه " الدعم المادي" لتلك الصحف والمجلات .. فتبدأ حينها الصحف المعنية بالثناء والمديح وتبني افكار هؤلاء واعتبارها المنبر والقدوة الحسنة في خدمة المجتمع .. وبعدها تبدأ الابواق بعزف سيمفونية القدر يطرق الابواب لبيتهوفن...!! عدا باب الابداع الذي يقفل بوجه المثقف الفقير في كثير من الاحيان .. ولهذا تكون الثقافة عند امثال هؤلاء مجرد مادة .. مادة.. اما تفسير كلمة المادة فاتركه لسادتي القراء الكرام .... / تحياتي