Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

القانون بين الوسيلة والغاية

لايخفى على الكثيرين أن كتابة الدساتير والقوانين الإنسانية وحتى صياغة القرارات واللوائح والتعليمات الخاصة لابد أن تنطلق في بداياتها الأولى من حسابات سياسية تراعي بقدر أو بأخر مكاسب المشرعين أو القائمين على صياغاتها، وهذا الأمر الى حد ما لايعد غريبا أو خروجا عن فطرة الإنسان السوي او المتحضر؛ إلا أن الإمعان في تحصيل المنافع الفئوية على حساب الكثرة الكاثرة ممن يشملهم خطاب الدستور أو القانون أو القرار....الخ؛ سيشكل حتما طعنا في مشروعية تلك الوثائق ويرسم علامات استفهام كبيرة حول نزاهة واضعيها.

إن تقرير حقيقة حدوث تقدم ملحوظ في نسق النظام السياسي العراقي في السنوات الأخيرة ومارافقه من العمل بقانون إدارة الدولة ومن ثم كتابة الدستور الدائم وصولا الى سن عدد كبير نسبيا من التشريعات تحت قبة البرلمان المنتخب تملي على الباحث النظر مليا في ابرز الأسباب التي قادت الى تأخر النظام القانوني العراقي الحالي في مواكبة الأحداث السياسية وعدم ارتقائه الى مستوى التقدم الحاصل في المنظومة السياسية إجمالا، بمعنى أكثر وضوحا فان التغيير في طبيعة الحكم من سمته الدكتاتورية الغالبة الى أخرى ديمقراطية أو أكثر مرونة على اقل تقدير لم يرافقه تغيير مماثل في نمط سن القوانين بشكل عام؛ اذ ان مايقف خلف اقتراح القانون عادة يتمثل في وجود الرغبة السياسية في المقام الاول وليس لتلبية حاجة عامة تقضي تشريع قانون ما، الامر الذي يؤشر بوضوح الى مدى استفحال مبدأ التوظيف السياسي المقصود في بعض التشريعات الجديدة وهيمنة ما هو سياسي مغرض على ما هو قانوني بحت, وإذا كان هذا الأمر مرصود شعبيا في التشريعات البرلمانية بحكم سيادة الطابع العلني في مناقشات أو سجالات مجلس النواب، ويقع في الافق المنظور بالنسبة لبعض نشاطات مجلس الوزراء من خلال الاشهار عن خلق مواقع سياسية أو وظيفية يذهب ريعها لفائدة شخصيات أو قوى معينة؛ إلا أن امرا كهذا يظل بعيدا عن دائرة الضوء في مايجري من إصدار أو تعديل أو إلغاء لجملة من القرارات والتعليمات التي تتدفق بشكل مستمر عن طريق القسم الاكبر من وزارات ودوائر الدولة الاخرى.

وقد يكون السر في قلة الملاحظة الجماهيرية هنا يكمن في ضعف كوادر مكاتب إعلام مجلس الوزراء والوزارات وبقية الدوائر، وعدم القيام بواجبها التبليغي المناط بها على نحو مطلوب، أو بسبب تعمد التعتيم من قبل صنّاع القرار أنفسهم، وفي كلتا الحالتين فان التقصير بيّن لا مجال للإغضاء عنه؛ بالرغم من أن فرض القصدية في التعتيم يحمل بين طياته اتهامات أكثر خطورة مقارنة مع ما ذُكر بالنسبة لمكاتب الإعلام الرسمية، كما انه يثير في النفس الكثير من لواعج الألم والحسرة حينما تكتشف ان ادعاءات بعض المسؤولين بالبراءة من القيم الفاسدة السابقة تتناقض كليا مع النمط العام لسلوكياتهم.

وقد يتفهم المراقب قضية أن يفرط السياسيون في البرلمان ورئاسة الحكومة بفرض رؤاهم الخاصة للقوانين والقرارات العامة فيما يقوم رجال القانون بوضع الصياغات المناسبة لتلك الرؤى تماشيا مع عرف التوافق الذي لازم الحياة السياسية الراهنة للبلاد، ولكن يتعسر هذا الفهم في مستويات الإدارة الادنى أي حينما يصار الى التلاعب في بعض القواعد القانونية الملزمة من اجل غايات خاصة؛ كأن يقوم وزير ما بإصدار أمر أو تعديله أو تعطيله مؤقتا بعيدا عن السياقات المهنية بغية ان يصب في صالح عدد محدود ومقصود من المستفيدين.

إن حل معضلة توظيف او تسييس القوانين في الجهاز التشريعي الرئيسي للدولة (البرلمان) يمر من خلال الإجماع على الالتزام العملي بفلسفة مفادها الانتصار للمصلحة العامة في حال حدوث تقاطع بينها وبين مصالح الفئة او الحزب أو الدائرة الانتخابية الخاصة، واجتماع كلمة سائر الأعضاء على مراجعة أو تعديل بعض بنود الدستور والقوانين والقرارات السابقة التي أبرمت تحت ضغط من الوقت أو بإملاء من قوى أجنبية أو بدوافع الانتقام من الماضي أو الخوف من المستقبل، مستفيدين من الواقع السياسي الذي بدأ منذ أمد يتحرك في مسار بعيد عن تشنجات المرحلة السابقة، وظروفها التاريخية القاهرة ويفترض ان يكون قد بلغ ذروته مع توقيع اتفاقيتي سحب او وضع القوات الاجنبية في البلاد والإطار الاستراتيجي مع الجانب الأمريكي.

وان يجري ذلك وفق الانسيابية الدستورية المتاحة حاليا، وذلك من خلال اخراج اعمال اللجنة القانونية في مجلس النواب من طابعها الصوري ومنحها القدرة الكاملة على فرض الاولويات القانونية من دون وصاية سياسية، وايضا بالاستفادة القصوى من وجود المحكمة الاتحادية العليا التي تحتكر حق تفسير القوانين الصادرة من مجلس النواب في حالات تعدد التفاسير، وترد ما يخالف الدستور من قوانين وقرارات، وعدم الطعن في دستوريتها بدعوى كونها من مخلفات قانون ادارة الدولة المنصرم الى حين انجاز المعادل الموضوعي قياسا الى العديد من قوانين او قرارات مجلس قيادة الثورة سارية المفعول.

وان لاتتجمد ميادين هذه المحكمة الموقرة في مساحات الحركة التي يرسم معالمها السياسيون بين الحين والاخر كما في حالة إبطال قرار لمجلس النواب قضى برفع الحصانة البرلمانية عن احد النواب مؤخرا، او احتمالية النظر في مدى مشروعية تشكيل مجالس الاسناد التي ظهرت الى العلن بارادة منفردة من لدن رئيس مجلس الوزراء، بل على المحكمة ان تمتلك زمام المبادرة المستقلة وتمارس حق الاشراف عمليا على سائر القوانين والقرارات لكي يتسنى لها اجهاض بعض التشريعات التي كانت قد خُلقت في ظروف غير طبيعية وتحت وطأة خنق انفاس الدستور ومن دون الخشية من التهديد بتوجيه الطعون المسيسة.

أما فيما يخص المستويات الوزارية فان علاج ظاهرة توظيف القوانين والقرارات لخدمة نوازع المسؤولين يكمن في تفعيل دائرة المفتش العام ومنحها صلاحيات تفي بحاجات الملفين الشائكين المالي والاداري كيما تحدد هي الاخرى فيما إذا كانت القرارات أو التعليمات الصادرة من قبل الوزارة المعنية كانت مبنية على الحاجات الفعلية أم أنها جاءت بناء ًعلى استقراء رغبات المسؤول أو وفقا لتوجيهات كيفية ما يدخلها في دائرة المحسوبية والعلاقات العامة، وان تتمتع دائرة المفتش العام بفوقية قانونية, وان تكون - وهذا هو المهم – غير خاضعة لسلطة المسؤول قيد المراقبة، فضلا عن كونها محايدة لا تدين بالولاء لجهة ما لكي لاتصبح مجرد ورقة ضغط لطرف سياسي ضد طرف أخر، وبخلاف ذلك فلابد من الاستغناء عن هذه الدائرة تماما اسوة بالعديد من اللجان والهيئات الرسمية التي شكلت بوحي من التكتيكات السياسية المرحلية وقد حان الوقت ألان أكثر من أي وقت مضى للتخلي عنها اذا تعذر أمر اصلاحها بشكل جذري.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net






Opinions