Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

القديس يوحنا ذهبي الفم

مدينة انطاكيا

تقع مدينة أنطاكيا على نهر العاصي على مسافة خمسة عشراً ميلاً من البحر الأبيض المتوسط. وقد أسس هذه المدينة سلوقس نيكاتور أحد قواد جيش الاسكندر الاكبر، أسسها عام 300 ق.م . ودعاها انطاكيا نسبة إلى أبيه انطيوخس. وقد اسس سلوقس أيضاً سلوقية على مصب نهر العاصي لكي تكون ميناء لانطاكيا، وقد صارت انطاكيا عاصمة السلوقيين، وهم نسل سلوقس واتباعه الذين صاروا حكام سوريا من بعده.
نمت انطاكيا في عهد السلاقسة، فأصبحت أربعة أحياء كل منها محاط بسور منيع منفصل عن الآخر. ومن هنا نعتها باللفظ اليوناني tetrapolis ومعناه المدن الأربع. وقيل انها دعيت تترابوليس لانها كانت احدى المدن الأربع الكبيرة التي بناها سلوقوس. وهي انطاكية، وسلوقية، وابامية، واللاذقية .
أخذ المدينة بومباي القائد الروماني، وأصبحت عاصمة اقليم سوريا الروماني. وكانت أنطاكيا مركزاً مهماً للتجارة، والتبادل الثقافي بين الشرق والغرب. وكانت ثالث مدينة في الامبراطورية الرومانية ( بعد روما والاسكندرية )، وكانت الالهة ( تيخى )، أو ( الحظ ) هي الهة انطاكيا الخاصة، وكانت تقوم عبادة ( ابولو ) في ( دفني ) بالقرب من انطاكيا على كثير من الرجس، والنجاسة، والممارسات الجنسية الجامحة .
وقد أصبحت انطاكيا أهم مركز للمسيحية بعد اورشليم، وانتشرت المسيحية من هذه المدينة إلى الغرب، وقد دعي التلاميذ مسيحين في انطاكيا أولاً ، ومن اوائل الشمامسة في المسيحية في اورشليم رجل يدعى نيقولاوس من انطاكيا، وقد اهتدى من الوثنية إلى اليهودية ثم صار شماساً مسيحياً . وبعد موت استفانوس الشهيد هرب المسيحيون من اورشليم إلى انطاكيا، وبشروا بالانجيل لليهود، واليونانيين هناك . وقد أرسلت الكنيسة في اورشليم برنابا ليقود العمل التبشيري في انطاكيا، ودعا بولس معه ليعاونه في الوعظ والتعليم . وقد أرسل المسيحيون في انطاكيا عطايا، وتقدمات إلى المسيحيين في اورشليم اثناء المجاعة . وارسلت كنيسة انطاكيا الرسول بولس في ثلاث رحلات تبشيرية .
وقد رأت الكنيسة في انطاكيا ان المسيحيين من الامم غير ملزمين ان يحفظوا الشريعة الطقسية. ولذا فقد ارسلت الكنيسة في انطاكيا بولس وبرنابا إلى مجمع للقادة المسيحيين في اورشليم، وقرر المجمع ان المسيحيين الداخلين إلى المسيحية من الامم غير مرتبطين بمطالب الشريعة الفرضية والطقسية . وقد وبخ بولس في انطاكيا بطرس لرفضه ان ياكل مع المسيحيين من الامم . وقد جعل مبدأ التحرر من الشريعة الطقسية والفرضية، التبشير بالانجيل ممكناً على نطاق واسع بين الامم.
وقد ظهر في انطاكيا بعد ازمنة العهد الجديد اثنان من أعظم قادة الكنيسة المسيحية شهرة وهما : اغناطيوس الانطاكي اسقف انطاكيا الذي استشهد في روما، ويوحنا الذهبي الفم الواعظ المسيحي الشهير.
في القرن الرابع بعد المسيح، أي في العصر الذي عاش فيه يوحنا الذهبي الفم، كان العالم يخلع على انطاكيا القاباً عدّة، من بينها ( مدينة الذهب )، و ( جوهرة الشرق )، و ( أنطاكيا الجميلة ).. تضم داخل أسوارها ما يضاهي نصف مليون من السكان، وتزدان بالاضاءة الرائعة، والمدرّجات الرحيبة، والمسابح والأبنية الفخمة، حاوية كل ما تستطيع العواصم في ذلك العهد أن تتباهى به. وفي مدينة انطاكيا دعي تلاميذ المسيح مسيحيين سنة اثنتين وأربعين، وفي هذه المدينة كذلك كرز القديسون برنابا وبطرس وبولس.
أسس كنيسة أنطاكيا رسل المسيح أنفسهم، واليوم تعتبر أنطاكيا مدينة صغيرة في الاراضي التركية، لا يتجاوز عدد المسيحيين فيها بضعة مئات وحسب.


نبذة عن حياة يوحنا الذهبي الفم

إقترن الجنرال سيكوندس Secundus بالآنسة أنثوزا Anthusa ، وهي في السادسة عشرة من عمرها، فأنجبا في البداية فتاة رائعة الجمال لا يذكر التاريخ اسمها، وراح الجنرال يتحرّق اشتياقاً إلى أن يُرزق صبياً ذكراً يخلفه في المهام الجِسام، ويرفع اسمه عالياً بين الأمة، فأشبع الله رغباته وأنعم عليه بيوحنا.
لا نعرف بدقّة في أي سنة أبصر يوحنا النور، إلاّ أن المؤرخين يجمعون على أن ولادته انبثقت إلى حيّز الوجود بين سنة 345 _ 349 م. ولم ينعم يوحنا وأخته بدفء محبة أبيهما، توفى والده بعد مولده. وكانت والدته أنثوزا على إيمان عميق جداً. في سنها العشرين بقيت أرملة مع ابنة وصبي. ماتت الابنة بعد قليل، فنذرت أنثوزا نفسها لتربية ابنها يوحنا .
ولما ترمّلت أنثوزا بابنها مع النساء الأرامل لتقضي حياتها بينهنَّ، إلاّ أنها لم تعش مثلهنّ من الصدقات، إذ كانت ذات ثروة واسعة. فعكفت علىممارسة أفعال التقوى والرحمة. وصرفت كل عنايتها إلى تربية ولدها على الأخلاق الحسنة منذ حداثته، بل كانت له مثال الفضائل. وقد عنيت بتعليمه، كما كانت العادة جارية بين أغنياء أنطاكيا، وسلمته إلى معلمين وثنيين. فشغف بأشعار الأقدمين. ولشدة وَلعه بايقاع الأصوات والأشعار ملأ ذاكرته من أشعار اليونانيين وأقاصيصهم.
اتم يوحنا علومه، في مدرسة ليبانيوس، فعول على الأنضمام إلى عصبة المحامين، طبقاً لعادات ذلك العصر. وأضحى يوحنا محامياً من الطراز الأول، وينهض بأعباء مهمته على أحسن وجه، رافضاً الرشوة، ومدافعاً عن الحق والعدالة .
وكان ليوحنا صديق اسمه باسيليوس تعلم معه في مدرسة ليبانيوس وكان من النوابغ، غير أنه هجر العالم وعكف على دراسة الكتب المقدسة، فأثَّر اعتزاله الدنيا في نفس صديقه، لشدّة ما كان بينهما من روابط الألفة، وبقيت صداقتهما ثابتة الأركان. وصار باسيليوس يتردد على يوحنا، حتى إن الشابين لم يقدرا في ما بعد أن يفترقا ولو ساعة. فحذا يوحنا حذو صديقه باسيليوس وهجر العالم، وأقبل على الله بكل همّته، وخصص نفسه بكليتها لعبادته، وغيَّر اخلاقه وثيابه، كما فعل باسيليوس، ولبس رداء أسود، وتجرد لممارسة فلسفة سامية، ولزم الصمت وعكف مع صديقه على مطالعة الكتب المقدسة.
اقتبل يوحنا سر المعمودية المقدس، وبعد معموديته ( 369 م ) قضى ثلاث سنوات في الأسكيتيريون ( 369 _ 372 م ) برفقة شلّة من الشباب الراغبين في التروّض على حياة مسيحية أشد ورعاً، وكانوا يمارسون فيه نمطاً من الحياة التوحيدية. كان العماد بالنسبة له هو باب الدخول إلى الكنيسة، وباب التعرف إلى رجالاتها. فقد اكتشف آنئذٍ يوحنا ملاتيوس بطريرك أنطاكية المناضل القديس . واندفع يوحنا في مدرسة معلمه الجديد بكل زخم سنّه، وأصبح تلميذاً خاصاً له، يعايشه، وتنساب نظراته على وجهه غير مرة في النهار، وتسكر شفتاه بخمرة القداسة الطافحة من قلبه. وأوكل ملاتيوس أمر توجيه يوحنا إلى أشهر، وأقدر أستاذ لاهوت في أنطاكيا، وهو ثيودوروس، الذي عرف، وهو تلميذ مدرسة أنطاكيا، أن يغرس حب الكتاب المقدس في قلب يوحنا، ويطلعه بعمق على اسرار الدين المسيحي، وأن يقود خطواته في طريق تعليم الناس، وإرشادهم إلى طريق القداسة .
قليلاً فقليلاً اشتهر يوحنا الذهبي الفم، وأخذ الشعب يطالب بيوحنا وباسيليوس للكهنوت، وبعد ذلك بلغ مسمعَي يوحنا خبر انتخابه وصديقه باسيليوس للكهنوت، فحزن لذلك وشق الأمر عليه جداً، لاعتقاده أنه غير أهل لهذا الشرف السامي أستشاره صديقه في ذلك فنصحه بالقبول، وكتمه قصده، مخافة أن يحرم كنيسة الله كاهناً ورِعاً تقياً فاضلاً. وفي اليوم المعين ذهب باسيليوس وارتسم، أما يوحنا فاختبأ، فلامه صديقه وعاتبه. وهام يوحنا في الصحراء، لم يجد مكاناً أكثر أماناً من القفر، وإلتجأ أولاً إلى أحد أدياره يريد أن يعيش عيشة القداسة، ويتأمل في معاني الكهنوت والأسقفية، وعكف على ذلك من 374 إلى 380 م، وقد قضى أربع سنوات تحت قيادة راهب، واثنتين حبيساً، وحيداً في منسك فقير.
اضعفت التقشفات جسد يوحنا، وأنهكت قواه، فاصيب بصداع شديد، وألم في معدته، وسببت له وجعاً، فاضطر إلى العودة إلى أنطاكيا، على أمل نيل الشفاء العاجل. ولما كان موقناً أن عناية الله تدعوه إلى الرجوع إلى وسط إخوانه، عاد ظافراً بجسده المقهور، وحاملاً قلباً مطهراً من كل عاطفة دنيوية، إلى شاطى العاصي، يكرز بمغفرة الخاطايا، كما فعل شفيعه القديس يوحنا المعمدان على شاطئ الأردن . ولما اشتهر أمر يوحنا كان قد مات الأسقف ملاتيوس وخَلفه فلابيانس، فبادر هذا إلى رسامته كاهناً سنة 386م . على أن القديس مع كونه بلغ السنة الثانية والاربعين، ما زال يحسب نفسه فتيّاً بعد، لا يستحق هذه الرتبة الجليلة، ولو لم يلجأ فلابيانس بعد الإلحاح على يوحنا، إلى الأمر الصريح لما استطاع إقناعه بقبول هذه الدرجة السامية. وبقي يوحنا الذهبي الفم يخدم كنيسة أنطاكيا اثنتي عشرة سنة، يعلم الشعب ويبنيه بفضائله ويعزيه بمحبته. ولما شاخ فلابيانس الأسقف وضعف صوته، وَكَل إلى القديس يوحنا الوعظ، فكلل الله أعماله بالنجاح. وكان من عادته أن يعظ في ايام السبت والأحد، وكل يوم من أيام الصوم الكبير إن لم يمنعه المرض .

إنتخابه لكرسي القسطنطينية :

كان هناك شخص اسمه أُتروب وزير الملك أركاديوس قد عرف يوحنا كاهناً، حين زار عاصمة المشرق، فقرَّ رأيه على انتخابه أسقفاً. إلاّ أنه خاف أن يمتنع القديس لتواضعه، وخشي هيجان الشعب الانطاكي، فعمد إلى الحيلة التالية : في أحد الايام استدعى نائب الملك يوحنا إلى الكنيسة في ظاهر المدينة، ثم دعاه إلى الركوب معه ليتسنى له أن يحادثه طويلاً على خلوة. فسار به إلى المنـزل، وأسلمه إلى الجنود فساقوه بسرعة إلى القسطنطينية فتعجب القديس يوحنا من هذا العمل، واعترض عليهم ولكن دون جدوى.
ولما وصل إلى العاصمة رُسم أسقفاً في 26 شباط عام 389م في محضر عدد كبير من الاساقفة وأعوان الدولة والملك، وكان فرح الشعب القسطنطيني شديداً براعيه الجديد ، ترأس الاحتفال ثيوفيلس بطريرك الاسكندرية . وقف يوحنا في أول يوم في الكنيسة الكبرى أمام الشعب، فرأى فيه قطيع المسيح الذي سُلم إلى رعايته. فمن واجبه أن يرعاه بحرص ويعلّمه، ويحافظ عليه كحدقة العين. يوحنا كان قد تعود على محبة الشعب من كل قلبه وفكره، فلم يصعب عليه في أول خطاب له أن يفصح أنه الراعي والأب العارف بمسؤوليته الجسيمة.
وكان يوحنا الذهبي الفم يرى في رتبته الأسقفية عبودية محبوبة، ويطلع شعبه على مقاصده وأعماله، وكان كلامه يعرب عن تواضعه، وعن محبته لأولاده، كم من مرة طلب منهم أن يذكروه في صلواتهم، وناشدهم أن ينبهوه إلى نقائصه.
كان يوحنا يخطب في الجماعة القليلة، كما يخطب في الجماعة الكثيرة، ويحب أن يعزي سامعيه ويشجعهم، ويزيدهم صلاحاً، ويعلمهم، ويقوي الإيمان ويرسخه في قلوبهم .
اعطى يوحنا الله كل شيء بإيمان، والآن الله راضٍ عنه، ولن يطلب منه أكثر من هذا. لقد بلغ الثامنة والخمسين من العمر، هو جلدٌ على عظم. وكان مستعداً لمتابعة الجهاد، لكن محبة الله رأت أن يرتاح هذا القديس المناضل، وتوفى القديس يوحنا الذهبي الفم في 13 أيلول سنة 407 م . Opinions