القديسة جنفياف
القديسة جنفياف: ولدت نحو سنة 422 في مدينة ننتير جوار باريس فرنسا, والدها يدعى سفيرس ووالدتها تدعى جيرنتيا. سمياها جنفياف أي " ابنة السماء ". وعنيا بتربيتها، فأظهرت منذ نعومة أظفارها أجمل الخصال وأكملها.مر يوماً في ننتير الأسقف جرمانس في طريقه إلى بلاد بريطانيا لأجل محاربة بدعة بلاجيوس. فلمح جرمانس بين جمهور المؤمنين جنفياف فأُخذ بطلعتها السماوية، وعرف بإلهام إلهي ماذا يكون من عظيم شأنها في أعمال القداسة، وفي تاريخ الكنيسة. فاستدعاها ووضع يده على رأسها وقبلها، وأوصاها بأن تخصص للرب يسوع بتوليتها وحياتها. فأجابت تلك الفتاة الملائكية: هذه هي رغبة قلبي منذ أيام حداثتي. فهل تتعطف وتسمح لي بأن أبرز بين يديك نذوري ؟ فرضي الأسقف وقبل نذورها، ثم قال لها: تشجعي يا ابنتي وضعي ثقتك بالله، فإنه يكون ملجأك الحصين وهداية أيامك. ثم باركها وأوصى أبويها بها وسافر.
وما أن بلغت الرابعة عشرة من عمرها حتى ذهبت إلى باريس، وأبرزت نذورها الرسمية بين يدي أسقفها، ولبست ثوب العذارى. وقامت تمارس أعمال النسك بعيداً عن الأنظار، وتقضي أيامها بالصوم والصلاة ومناجاة يسوع. فأفاض الفادي نعمه السنية ومواهبه الغزيرة على تلك النفس الزكية، ومنحها صنع العجائب، حتى صارت تشفي المرضى وتخرج الشياطين برسم إشارة الصليب المقدس. واجتمع حولها عدد من العذارى، فقامت ترشدهن في طريق الكمال.
إلا أن الشيطان عدو الله والإنسان اتقد غيظاً، لدى رؤيته تلك الفتاة القديسة تفيض من حولها النعم على النفوس والأجساد. فسلح عليها الألسن الكاذبة الشريرة، ليثبط همتها ويثنيها عن عزمها. فقامت بعض النساء الثرثارات وأخذن يشيعن عليها الأكاذيب، وينلن من سمعتها ومن آدابها، وينسبن تلك القداسة المتلألئة إلى الإفك والاحتيال. فصبرت البتول وسكتت وصفحت. وعندما عاد المطران جرمانس من بريطانيا، فمر بباريس وسأل عن فتاته المحبوبة. فأخبروه بأمرها وشكوا إليه سوء سلوكها. فلم يصدق ما سمعه عنها. فذهب بنفسه إليها وزارها في بيتها، وشاهد طغمة العذارى اللواتي كن حولها يسرن بإرشادها. فمجد الله وقام في الشعب خطيباً، ودافع بقوة وفصاحة عن قداسة جنفياف، وعن جمال عملها. فسكتت الألسن وتوارى المنافقون، وعادت فضائل جنفياف تلمع أمام عيون الجميع.
وفي أواسط القرن الخامس أقبل أتيلا على رأس جيوش جرارة من الهون البرابرة. وكان يسمي نفسه " ضربة الله "، فيحرق المدن ويهدم الكنائس والأديار، ويذبح السكان ويفتك بلا رحمة بالأساقفة والكهنة والرهبان. وكان الناس يفرون من وجهه. وقام سكان باريس بترك بيوتهم وحمل أمتعتهم والهرب من أمام الموت الشنيع المقبل. فقامت جنفياف تدعو الناس إلى التوبة، وتقوي العزائم، وتثبت القلوب الهلعة، وتعظ الناس أن يثقوا برحمة الله ويعودوا إليه، فلا ينالهم ضر ويبتعد عنهم الأذى. فأخذ البعض منهم يجتمعون معها ومع بناتها للصلاة والتكفير.
أما الآخرون فثاروا عليها وكادوا يفتكون بها. فوصل رئيس شمامسة المطران جرمانس يحمل إليها الخبز المقدس من لدن المطران هدية بركة ورضى قبل موته، عربوناً لعطفه عليها، وتقديراً لفضائلها. فدافع عنها الشماس وأخمد الثورة القائمة عليها. فسكت أهل باريس عنها، وقاموا يشاركونها في التضرع والتكفير وأعمال التوبة، ولبثوا في بيوتهم متوكلين على الله وشفاعتها. فلم يصل أتيلا إلى باريس ولم يحاصرها، بل وقف مكتوفاً أمام مدينة أورليان بفضل غيرة وشجاعة أسقفها القديس أنيان. ثم تحالف عليه كل من ميروفيه ملك الفرنجة وثاودوريك ملك الغوط وأمير البورغندة، وجعلوا قيادة جيوشهم بيد القائد الروماني ائيسيوس واندفعوا عليه، فدحروه بالقرب من مدينة تروايا سنة 451، فكسروه شر كسرة، وانهزم من أمامهم وترك البلاد.
وهكذا سلمت باريس من شره بفضل جنفياف وشجاعتها وشفاعتها. وبعد أربعين سنة جاء كلوفيس وحاصر باريس وضيق عليه. ولما طال الحصار جاع الناس وتفشت الأوبئة في المدينة وصارت تفتك بهم فيموتون. فقامت جنفياف تنهض الهمم، وتدعو الجموع إلى الصلاة والتكفير والتوبة. فسمعوا لها، وتعالت أصوات الصلاة من كل الأنحاء، تتضرع إلى الله لكي يرأف بشعبه بشفاعة تلك الفتاة.
وقد أعدت جنفياف أحد عشر مركباً شراعياً وراحت رغم كبر سنها، تمخر عباب نهر السين وتطوف المدن والأرياف، تجمع القمح لتغذي به جموع المساكين الجائعين. وبقيت جنفياف بركة لتلك المدينة كل أيام الحصار.
ثم تنصر كلوفيس سنة 496، ففتحت له حينئذ باريس أبوابها، واستقبلته بمعالم الفرح، فحل الفرح بعد الضيق بغيرة وشفاعة جنفياف البتول. وأكرم كلوفيس جنفياف، وتتلمذت لها زوجته الملكة كلوتلدا، فعظم شأنها جداً لدى الملوك والأمراء. فكانت كلمة منها تطلق المعتقلين في السجون، وتحمل الملك على تشييد الكنائس، وفتح الخزائن الملكية لإعالة المحتاجين والفقراء.
وهكذا كانت البتول جنفياف الباعث الأكبر على إنعاش وإنماء الروح المسيحية في باريس وفي بلاد فرنسا كلها جمعاء. فهي فتاة تلك البلاد الطيبة المجيدة، وزعيمة جيش العذارى القديسات، اللواتي سوف ينبتن في تلك الأمصار الفرنسية الكريمة، كما تنبت الزنابق في الحدائق الغناء، وتعطر جميع البلاد والأنحاء.
وقضت هذه البتول النقية سني حياتها الطويلة في أعمال البر والقداسة، حتى صارت ابنة تسع وثمانين سنة. ثم رقدت بالرب رقود القديسين سنة 512. وطارت نفسها إلى الأخدار السماوية لتنضم إلى الطغمات الملائكية، وإلى أجواق البتولات الحكيمات اللواتي يتبعن على الدوام الختن الإلهي في النعيم السرمدي.
وصار ضريحها مزاراً مكرماً، وينبوعاً فائضاً بالعجائب والبركات. فأضحت جنفياف في حياتها وبعد وفاتها شفيعة باريس. وكان أبناء المدينة يركضون في الملمات إلى رفاتها وذخائرها كلما ألمت بهم ضائقة، فتعود بشفاعتها الأفراح والمسرات إلى قلوبهم وبيوتهم. وفي أيام الثورة الفرنسية حولت كنيسة القديسة جنفياف إلى البانتيون حيث تدفن فرنسا عظماء رجالها فيه.
أما دخائر القديسة جنفياف فقد أحرقها الثوار وذروا رمادها في مياه نهر السين. فحملتها المياه إلى البحر حيث تعانقت مع رفات فتاة فرنسا الثانية البطلة جان داراك البتول القديسة.
إلا أن أهالي باريس لا يزالون يزورون ضريحها ويطلبون شفاعتها، ولا سيما في الكوارث الكبيرة والملمات الوطنية الشديدة. ولما هددت المدافع الألمانية باريس سنة 1914 هرع سكان المدينة إلى ضريح شفيعتهم يبتهلون ويستنجدون. وقد سمح البابا بيوس العاشر لكل كنائس فرنسا سنة 1914 أن تعيد للقديسة جنفياف فتاة باريس وشفيعة فرنسا.
وتحتفل الكنيسة الجامعة بعيد القديسة جنفياف في 3 كانون الثاني.