Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

القوش بعد ان ولّى زمن ( اللنكَات )

في أواخر عام 2003 كنت في القوش وكانت تجارة الملابس العتيقة ( اللنكَات ) رائجة ، فهنالك محلات وبيوت تزاول بيع الملابس المستعملة والتي كانت تأتي وهي مكبوسة في بالات ، وعادة ما ترسل هذه الملابس للدول الفقيرة ، فكان العراق يصنف مع هذه الدول رغم ثرواته الطبيعية والنفطية والمائية .
وإذا قبلنا القوش كمقياس للوطن العراقي سنلاحظ ان ظاهرة بيع هذه الملابس قد اختفت من هذه المدينة وحل بدلها محلات لبيع الملابس الجديدة التي تمتاز بالجودة والموديلات الحديثة ، ولا ريب ان هذا مؤشر على تطور الحياة نحو الأفضل ، فاليوم ليس هنالك من يرضى بارتداء الملابس المستعملة مهما كان منشؤها .
وهذه حالة صادفتها في المدن التي زرتها مثل اربيل وعنكاوا ودهوك .. واعتقد ان هذه الحالة دليل تطور نوعي في الحالة الأقتصادية للبلد ، وهي بعين الوقت دليل تطور ونمو طبقة متوسطة توطد مكانتها في المجتمع ، او بالأحرى خروج طبقة فقيرة من فقرها وانتقالها الى طبقة متوسطة ، وكما هو معروف إن هذه الطبقة ( المتوسطة ) تشكل العمود الفقري في تطور ونهوض البلد ومتى ما كانت هذه الطبقة واسعة منتعشة ، كانت سيرورة البلد نحو النهوض والتقدم ، ومتى ما يصار الى تحطيم هذه الطبقة ، يختزل المجتمع بطبقة غنية جداً وأخرى فقيرة جداً وهنا تكون الكارثة ، حيث يسير البلد نحو تخوم الفقر .
نعود الى القوش التي تعاني من مشاكل عامة مزمنة كانقطاع التيار الكهربائي وضعف الخدمات العامة وتفشي البطالة ، إن هذه المشاكل وغيرها تعبد الطريق وتخلق المبررات لاستفحال داء الهجرة الذي ينخر بجسد مجتمعاتنا في بلداتنا الكلدانيــــــة وهي تعاني اصلاً من خلل ديموغرافي خطير .
ثمة علاجات سطحية او آنية لهذه المعضلات ، فمشكلة الكهرباء تبدو عاصية على الحل ، والحكومة العراقية تبدو عاجزة حيال هذه المشكلة ، ورغم امكانيات الحكومة الهائلة من العملات الصعبة والقوى البشرية والكادر الفني اللازم ، هذا إضافة الى كون العراق دولة مصدرة للنفط المادة الأساسية في توليد الكهرباء ومع كل هذه الأمكانات تبدو الحكومة عاجزة عن توفير الطاقة الكهربائية للعراقيين ، وهي لا تخطط الى خصخصة هذه الطاقة ليتسنى للقطاع الخاص حل المعضلة كما هي الحالة في دول متقدمة كثيرة .
وإذا توجهنا بأبصارنا الى مشكلة اخرى وهي مشكلة البطالة ، والتي ليست وليدة اليوم ، فإنها لا زالت قائمة وإن كانت هنالك بعض المحاولات لاحتواء هذه المشكلة بتشغيل عدد لا بأس به في جهاز الشرطة والبلدية وفي صفوف احزاب تتمكن من الدفع ، ويمكن اعتبار هذه الحالات بمجموعها بأنها بطالة مقنعة ، وهذه الحالة منتشرة في مدن العراق حينما جرى توظيف واستخدام الأشخاص الذين انخرطوا في الميليشيات .
في القوش لا تتوفر مشاريع استثمارية باستثناء الأعمال الزراعية التي تبدو محدودة امام شرائح الشباب وطوابير الخريجين الذين يتطلعون الى العمل والوظائف الحكومية . وهناك جانب آخر وهو السكن فإذا أخذنا بنظر الأعتبار ان القوش لم تنل نصيبها في حملة البيوت السكنية التي شيدها السيد سركيس آغاجان ، فإن مشكلة السكن بقيت قائمة في القوش وهي من الأسباب الرئيسية التي دفعت ببعض العوائل ان تفضل خيار الهجرة والسفر على البقاء تحت رحمة المؤجر وفي ظل انعدام الأمل في العثور على فرص العمل .
لكن المفارقة ان هذه الحالة لم تكن قاعدة تسري على الجميع ، فخلال وجودي في القوش لاحظت استثناءً لهذه الحالات فثمة عدداً مهماً من العوائل المهاجرة هم من ميسوري الحال ومن مالكي بيوت جيدة ومريحة في القوش ، فهؤلاء ليسوا من الفقراء ، وبدلاً من ان يفتحوا لهم مصالح في القوش ، لجأوا الى اختيار طريق الهجرة المحفوف بالمخاطر ، لكن لا بد من الأعتراف بالحقيقة القائلة بأن تسهيل ظروف الهجرة عن طريق تركيا قد اغرى الكثيرين لاختيار هذا الطريق لقربه من المنطقة ولقلة تكاليفه . ومن المؤكد ان هنالك عوامل اخرى لهذه الهجرة التي طال الحديث عنها .
أجل اختفت ملابس ( اللنكَات ) من القوش ومن مدننا وقرانا الأخرى وكان البديل ملابس جديدة وموديلات حديثة جميلة ، لكن ثمة معاناة أخرى لم توضع لها الحلول ، فلا زال هنالك اعداد كبيرة من الوافدين من بغداد والبصرة والموصل وقد تركوا بيوتهم وأعمالهم في هذه المدن وهم يتلقون بعض الأعانات المالية والمساعدات العينية من هذه الجهة او تلك ، وهذه الأعانات لا تتناسب مع ما يدفعونه من ايجارات وتكاليف الحياة المعاشية العالية ولهذا لا يمكن ان تشكل هذه المساعدات حائلاً دون نضوب مدخراتهم المالية .
وقبل نضوب مدخراتهم يفكر هؤلاء بالعودة الى بيوتهم في المدن العراقية او يختارون طريق الهجرة . وحسب ما لمست اثناء معايشتي في بلداتنا فإن ابناء شعبنا لا زالوا بحاجة الى الدعم ليس من اجل ان تخليصهم من ملابس ( اللنكَات ) فحسب إنما من اجل تحسين اوضاعهم بشكل عام . وبرأيي الشخصي ان منح الحكم الذاتي لشعبنا في سهل نينوى سيشكل مفتاح حل القضية برمتها للمستقبل القريب والبعيد . ونأمل الا يعود شعبنا الى زمن ( اللنكات ) إنما ان يكون شعباً عزيزاً موحداً مرفهاً سيداً لنفسه في وطنه العراق .

بقلم : حبيب تومي / اوسلو
habeebtomi@yahoo.no

Opinions