Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الكتابة العصّية !

المعاني الأولى :
كنت استمع القول ، أيام الصبا ، لاستحسنه وأفكّر فيه ، وقد سمعت وأنا ابن عشر سنوات عبارة تقول " أن الأسلوب هو الرجل " ! فكرت مع نفسي متأملا ، وسألتها : طيب ، لماذا هذا الوصف ؟ ولماذا الرجل وليس المرأة ؟ عندما كبرت ، وجدت بأن لا احد يعير مثل هذه الفكرة الفرنسية أي أهمية ، ولم أقع على من يقنعني بذلك .. ولكنني اكتشفت أشياء كثيرة في كتاب " المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" لابن الأثير ، وتصانيفه للكتابة ، وبدأت أميز منذ بداياتي الأولى بين الأساليب الكتابية .. وكلما مضى الزمن ، أتعلّم شيئا جديدا ، ثم بدأت اقرأ بالانكليزية ، فوجدت كم نحن بحاجة إلى تجديد الكتابة العربية والتخلص من اطناباتها وانشائياتها الفضفاضة . إن العربية من أجمل اللغات التي تمتلك جماليات واسعة، وكل كلمة عربية لها تأثير (هرموني) معين ، ولون مختلف ، وطعم مختلف . هنا ، لا أريد أن اكتب عن أصناف الكتابة وألوانها ، ولكنني وددت أن أقدم رؤية فلسفية عن الكتابة العربية العصية الحديثة ، خصوصا ، وان الكتابة العربية ـ بشكل عام ـ ، تبدو أنها في طريقها إلى الابتذال من خلال وسائل الاتصالات والإعلاميات المعاصرة ، وبأيدي أناس غزوا ميادينها من دون أن يتسلحوا بأدواتها أولا ، وأنهم لا يفقهون فلسفة الكتابة ثانيا ، ولا يمتلكون فن الكتابة ثالثا ، فهم من فاقدي الموهبة والسليقة ، ناهيكم عن ضبابية الرؤية لديهم كونهم يكتبون ولا يقرؤون رابعا . وأخيرا ، فهم ليس باستطاعتهم أبدا الوصول إلى مرتبة الاحتراف .. ومما أساء إلى الكتابة الحقيقية وأصحابها ، هم المتلقون ( ولا أقول القراء جميعا ) أنفسهم ، فكثيرا ما تسمع أحكاما تطلق من هذا المتلقي ، أو ذاك المتلهف ، أو هذه المتطفلة وكأن الكتّاب ـ في عرفهم ـ كلهم صنف واحد في سلة واحدة .. وتبقى هناك نخب المهتمين والدارسين والقراء الحقيقيين ، ممن يميزون بين هذا الكاتب أو ذاك .. وبالنتيجة ، سيبقى الأذكياء والمحترفون والكتاب الحقيقيون هم الباقون .

نقد مسؤول :

كثيرا ما تصلني رسائل من مثقفين وكتّاب لأسباب شتى ، وأدرك كم هي حاجة المثقفين والكتّاب إلى أن يفهم احدهم الآخر ، أي بمعنى : أن يفهم احدهم نتاج الآخر وقلمه ، وان يكونوا حضاريين ومتواضعين في معاملاتهم وأخذهم وعطائهم واحترام كل المبدعين حسب مراحلهم الزمنية ، والقدرة والكفاءة والاحتراف .. أي لابد أن تتأسس جسور بين الأستذة والتلمذة ، كالتي كانت قبل مائة سنة وأكثر من الأجيال .. اليوم تتنافر العلاقات ، وتنعكس مؤثرة على تقييم الإبداعات والأساليب.. ربما لأسباب سايكلوجية أساسا بحيث يرى احدهم نفسه اكبر من الآخرين ، وهو لا يمتلك قدراتهم نفسها ، فضلا عن أسباب سياسية وفكرية وأيديولوجية أجهضت النقد الأدبي الذي نفتقد اليوم منجزاته وإبداعاته ، وبعد تاريخ رائع من انبثاقه ، وجذوره التي عرفها تراثنا العربي قبل أكثر من ألف سنة !

كتب لي احد الأصدقاء الشعراء بعد أن أثنى على جهدي الفكري ـ كما وصفه ـ .. ولكنه رأى أنني قد ذهبت بعيدا في مبالغة مديح احد المثقفين الراحلين .. ويقول بأنه يفهم جيدا حرصي الجاد على وضع مبدعي العراق ومنتجي الثقافة العراقية في دائرة الضوء والاهتمام والعناية . لكن ذلك لا يبرر مديح تلك الكتابات ، فصاحبها يفكر ، هذا صحيح ، ولكن كتاباته أدنى مستوىً بكثير من تفكيره ( ويقصد به الكاتب الراحل أمير الدراجي ) ، وأضاف قائلا : أنه لو كان يقدّر أفكاره حقاً لتنازل عن طلاسمه ، وسعى إلى إيصال هذه الأفكار إلى أعرض مساحة من القراء ليفهموا ما يريد قوله ، لا أن يحشر نفسه في زاوية ضيقة . ويتابع قوله : أوَلا ترى يا صديقي الجميل أنك ذهبت بعيداً في المبالغة بقولك عن صاحبنا الراحل : انه ( غير مستعد أن ينزل من مستواه إلى الأدنى ، فكيف به يتدانى إلى الحضيض ليكتب كتابة إنشائية بلهاء .. ) ؟ ، ثم تذهب أبعد في مبالغتك حين تقول : ( كان كاتباً ناضجاً في عالم من المبتدئين الذين لا يفقهون قوة الكلمة لا عند الأولين و لا قرب الآخرين ) .... ما هذا التعالي غير المبرر و غير المفهوم ؟ أهكذا يـُفهم التميز عن الآخرين ؟ فالآخرون لديهم وعيهم الذي لا يقبلون الاستهانة به عن طريق هذا ( النمط ) من ( الكتابة ) .. الآخرون يسعون إلى التواصل وتلاقح الأفكار ( عبر مختلف ميادين الإبداع و الإنتاج الثقافي ) وصولاً إلى صياغة وعي متجدد و متقدم في المجتمع بهدف خدمة البشرية في نهاية الأمر . والاّ لماذا تقرأ أنت و تكتب و تبذل كل هذا الجهد الفكري و الثقافي ( مثلاً ) ؟ لماذا لم تلجأ أنت ، أيضاً ، إلى الكتابة ( العصية ) ؟ . الكتابة العصية هذه ليست امتيازاً ولا تشرف كاتبها ، إنها تعزله ، في حين يغرق هو في وهمه ، ويوهم الآخرين ، بأنه كاتب من الطراز الذي لا يـُدانى ( انتهى ) .

إشكالية الكتابة العصّية :

ربما اتفق تماما مع هذا القول الحسن ، ولكن دعونا نفكّر بأسلوب آخر :علينا أن نفرق بين أنواع الكتابات : عادية ، سطحية ، إنشائية ، فكرية ، رومانسية .. الخ وسواء كانت رفيعة وراقية ، فهي إما تكون سهلة ممتنعة ، أو غنية دسمة ومختزلة ، أو صعبة وعصية عن الفهم .. وليس مطلوبا مّن أي كاتب محترف أن يتنازل عن الأسلوب الذي اختاره لنفسه ، ويجده هو الأنسب لملكاته وقدراته .. إن مشكلة الكتابة العصية التي يختلف عليها العديد من النقاد هي مشكلة كاتب يبدع فيها ، أو مشكلة متلق لها ، أو قارئ نصوصها ؟ إن تجارب عديدة ، علمتني أن الكتابة عند المحترفين تتنوع بتنوع أساليبهم ، مما يجعل أي ناقد ذكي التمييز بين الكتابات ، منذ قراءته الأسطر الأولى ، فما أن يقرأ سطرا ، أو فقرة معينة ، حتى يدرك أنها لفلان أو تلك لعلان ! وإذا كان البعض ينفي قبول الكتابات العصية كونه لا يفهمها ، فليس من حقه أبدا أن يجعل صاحبها ، سوى كونه كاتبا موهوما ، يزعم انه لا يريد النزول إلى مستوى المبتدئين أو السطحيين ، إذ ليس من المعقول البتة أن العصي يكتب كتابته بعيدا عن أي عمق ثقافي .. إن المجتمع الثقافي ليس متجانسا بالضرورة ، انه يحتوي على أنواع عدة من القراء والمتلقين ، ومن المتقدمين والمبتدئين . صحيح أن صاحبي يقول معاتبا بأن المبتدئين في حقيقتهم متلقون ومنتجو ثقافة محترفون غير معنيين ولا يقبلون أن يكونوا ميدان اختبار لكاتب ٍ ( عصي ) على الفهم .. كاتب ٍ هو ، في الحقيقة ، عصيٍ على فهم نفسه . فالآخرون ـ هؤلاء ـ قد يجدون صعوبة في فهم ما يكتبه ، ولكنهم يكتشفون بسهولة ( طبيعة ) هذا الكاتب ( العصي ) الذي سيكون ، في النهاية ، هو الخاسر الوحيد بسبب وهم التعالي عليهم تحت عنوان : عصي .

ندرة الكّتاب العصاة :

إنني لست معهم ولست منهم ، ولكنني أرى بأن قلة جدا هم الكتّاب العصاة ، بل وأنهم من النادرين ، أولئك الذين يلتزمون صنف الكتابة العصيّة ، وينبغي الاعتراف أنهم من أقوى المثقفين ! نعم ، قليلون هم الذين يقفون في أبراجهم العاجية ، ويريدون من الناس أن تصعد إليهم متمثلين دوما قول الشاعر أبو تمام الطائي مجيبا سائله : لماذا تقول ما لا يفهم ؟ فأجابه : ولماذا لا تفهم ما يقال !.. قلت مرة للكاتب التونسي الراحل محمود المسعدي عندما التقيت به مرة واحدة بتونس قبل أكثر من عشرين سنة في تونس ، وكنت قد قرأت بعض نصوصه العصّية في " السد " أو في " حدث أبو هريرة قال .. " : ما الذي يجعل بعض نصوصك طلاسما عصية على الفهم ، وعندي أن الأدب الحقيقي ينبغي إدراكه من كل المجتمع .. أجابني : هذه هي قدرتي وإمكانيتي ولا استطيع التخلي عن ذلك .. واستطرد قائلا : من أصعب الأشياء عندي أن أخاطب الناس العاديين خطابا عاديا .. إنني تعودت العصيان ! فشكرته فليس لي ما أقول ! ويقرأ ادونيس بعض قصائده ، وأحاول جاهدا فك الألغاز التي يريدها .. ثم اخرج بنتيجة مفادها ، انه هو نفسه ، لا يدرك ما الذي يريده ، ولكنه أسلوب عصي يجعلك تفكر .. هذه الحالة قديمة في الأدب العربي ، ونجدها عند البعض من المثقفين الأقوياء جدا ، ولكنهم يسكنون أبراجهم ولا يريدون التخلي عنها .. اتهم ملتزمون ولكنهم غير متفاعلين أبدا .. وعندما اقصد أنهم في الأعالي ، فليس معنى ذلك أن كل المثقفين الآخرين في الحضيض ( كذا ) ، ولكن ثقافتنا غدت مليئة بالمبتدئين والسطحيين الذين لا يريدون أن يطوروا أنفسهم أبدا .. إنني أسأل : كم الساحة مليئة بكّتاب وأشباه مثقفين ، وهم لا يفرقون بين الظاء والضاد ؟ كم منهم لا يدركون معنى الكتابة والإملاء والقراءة والرؤية ؟ كم من المئات الذين يتوزعون في سوق الثقافة وهم أغراب عنها تماما .. ربما يحاسبني البعض أنني اهتم بالمثقفين الملتزمين وحتى من ذوي الكتابات العصّية ، وأنا لست بكاتب عصّي ، ولكن لا يستطيع أحد محاسبتي على ما أجده ويجده غيري من كّتاب درجة هابطة يريدون أن يكونوا في الصفوف الأمامية بكل الوسائل .. كّتاب ليس مهمتهم إلا أن يكتبوا ( أو بالأحرى يضربون على الكي بورد ) وهم لا يعرفون كيف يمسكون القلم ، إنني عنيت مجاميع هذه المخلوقات التي لا تقرأ حتى كتابات عادية ، فكيف لها أن تستوعب كتابة عصيّة ؟ وليس من مهمتنا أبدا أن نعلم هؤلاء ألف باء القراءة ، فكيف بالكتابة ؟ هذا ليس سرا ، بل حقيقة مفضوحة .. وربما هذه لم تكن مشكلة كتاب عصاة ، بل واحدة من مشكلات ثقافتنا العربية ..

الحصيلة .. الامنيات

إنني أهيب بنخب رائعة من القراء والكتاب العرب اليوم ، وأتمنى أن يتربى جيل جديد على التفاعل بين ثقافته العليا ومجتمعه .. إنني من خلال تجربتي الخاصة ، وجدت إن كتبت كتابا منهجيا للطلاب الجامعيين المبتدئين ، هو أصعب عندي بكثير من كتابة فكرية ، أو فلسفية اخصصها للنخبة .. وان عملية التنازل صعبة جدا على كتّاب محترفين يجدون أنفسهم مع السوريالية ، فهل باستطاعة أحد ازاحة بيكاسو او سلفادور دالي عن تجربتيهما ؟ أتمنى أكون قد أوضحت فلسفتي حول الكتابات العصية .. متمنيا أن يتبلور جيل جديد في الثلاثين سنة القادمة .. يطّور قدراته ، وينمّي تفكيره ، ويجدد أساليبه من اجل إثراء الثقافة العربية في المستقبل .



تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 23 فبراير / شباط 2009

www.sayyaraljamil.com

Opinions