المتكلسون يأكلون عظام التاريخ!
الاسلام دين حضاري لا سياسي !
دعوني هذا الأسبوع، أنطلق لمواصلة العمل على مشرحة النقد.. ذلك إن الإسلام دين حضاري لو استطاع المسلمون أن يطوّروا فهمهم تجاهه، وهو قد أفصح عن يسره دون عسره، ومرونته قبل تعقيداته ، وتجلياته قبل تدنياته ، فهو ابعد ما يكون أداة سياسية بيد هذا أو ذاك .. وإن المسلمين في كل زمان ومكان، قد تعايشوا مع غيرهم من أبناء ديانات أخرى ، بل نجحوا في خلق آليات حضارية مع الآخرين، وبرز منهم رجال علم وفقه واجتهاد وإصلاح.. دعوا إلي التكامل والمرونة والانفتاح.. وبنفس الوقت، ظهر هناك من دعا إلي الانغلاق والتكلس والماضوية والانقسامات والكراهية والبغضاء.. هناك من قال بالمعروف والتوادد والتراحم والمحبة والإحسان والعدل .. وبالعمران البشري، وحسن المقاصد، والاستحسان، والرأي، والتأويل، والتقارب والخلق، والاجتهاد، والتجديد علي أسس حضارية وفلسفية.. وهناك من دعا إلى الانقسام السياسي، والنفرة، والمقاتلة، وسفك الدماء ، وقداسة الأشخاص باسم العصمة ، ثم بث الكراهية والأحقاد والضغائن والصراع بين أبناء المجتمع ..
المتكلسون ضد اللامعين
المجددون هم من اللامعين دوماً ، ويتبعون خطى حضارية، وهم مسلمون من دون أن يكفّرهم أحد، والمتكلسون دوماً يتبعون خطى سياسية، وهم أصوليون من دون أن يقنعهم أحد! حالتنا اليوم، لم نجد لها شبيهاً عبر تاريخنا الطويل.. حالتنا اليوم، زرعها المتشددون الذين لا يتقبلون الرأي وما يقوله العقل.. وكانوا ومازالوا يدعون إلى القطيعة مع أي فكر يخالفهم، بل زاد الأمر سوءاً بتكفير مخالفيهم.. من دون أن يسمعوا للآخر، ومن دون أن يكتشفوا ثقل المتغيرات التي حدثت في كل الوجود.. إن حالات التكلس، قادت إليها عوامل عديدة منها: الهروب من الواقع، وجعل الدنيا بعيدة جداً عن الدين، أو أنها في صراع معه، وهذا من أشد العوامل خطورة.. فضلاً عن سوء السياسات والإيديولوجيات التي سادت في القرن العشرين.. ناهيكم عن سوء المناهج الدراسية التربوية والتعليمية التي كانت ولم تزل تأخذ الأجيال قاطبة لتسجن عقولها، وتغسل أدمغتها، وتطلقها عقيمة عن فهم مغزى الحياة ! إن الإسلام، دين حضاري كما تخبرنا كل أولوياته ومصادره، ولم يكن أبداً ديناً سياسياً في التاريخ علي الإطلاق!
التفكير المتكلس لا يقبل بالحريات ولا الديمقراطية!
لقد أصبحت حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، مأساوية للغاية، بفعل استشراء التكلس كي نرى هياج أرتال الناس وقد سحقتهم عواطفهم، ونخروا مثل العظام وهي رميم! متكلسون مع الماضي ولا يرون إلا أنفسهم وحدهم في الميدان كونهم من المخلصين الذين سيشيدون الدولة المثالية والأمة المجيدة والدنيا السعيدة.. إلخ من التعابير التي يسّوقون بها أنفسهم، وما كان لأحد أن يهتم بهم سياسياً أو اجتماعياً، لولا استخدامهم الدين بضاعة لهم، وهو حمّال أوجه لا تعد ولا تحصي.. توضحها كثرة الاتجاهات والتيارات والأحزاب والجماعات التي تتحدث باسمه! وكان عليهم أن يعيشوا فكرهم وممارساتهم وأدبياتهم مع الزمن القديم الذي مهما حاولنا صبغه أو تلوينه أو تلميعه، فهو لا يستقيم مع آليات هذا العصر كونه لا يصلح لحل مشكلاته ومعضلاته الجسيمة، إنني أسأل: إذا كان الإسلام- كما يريدونه- لا يقبل بالحريات، فكيف به يقبل بالديمقراطية؟ وإذا كان كذلك، فبأي وجه حق يستخدمون الديمقراطية في الإسلام السياسي المعاصر؟
إنهم ليسوا أحراراً، إذ لا يعرفون معني الحرية، ولا يدركون قيمة الإنسان عندما يكون حراً من كل القيود السياسية والاجتماعية التي يكبلونه بها.. إنهم يعيشون ليل نهار مع عظام التاريخ دون استقامة المنهج والتفكير، فإما تراهم يجعلون التاريخ حدائق وارفة الظلال وساحرة الأطلال وزاهية المعاقل وترديد العنتريات والنصوص والأقوال، وإما تراهم يجعلون التاريخ ميادين ندب وضرب وعويل وبكاء ولطم وحكاية من البكائيات علي فواجع ومقاتل وشتائم وقذف وأساطير.. التاريخ لم تتعلم منه مجتمعاتنا شيئًا ذا بال! إن من يتقمصّه ذلك في مجتمعاتنا يغدو جزءاً لا يتجزأ من الماضي، فيحكي باسم الماضي، ويفكر بأشياء الماضي، ويردد أقوال الماضي.. لقد غدت مجتمعاتنا ماضوية التفكير من خلال كل النخب التي دمرّت قيم الحرية والانفتاح علي الحياة! الأمل مفتقد في النفوس، مادامت الرحلة عابرة لا تستلزم التوقف عندها.. فالهدف ليس أن تعمل وتنتج في الدنيا، بقدر ما تقدمه للآخرة! وعليه، فإن الماضي يتقمص الحاضر في مجتمعاتنا بكل ما له وما عليه.. لقد غدا الماضي يسيطر علي المجتمع بأكمله، وبطريقة ساذجة، ونسي الحاضر، وأشاح المجتمع عن حلم المستقبل! إن الإنسان في مجتمعاتنا قد غدا كالروبوت، لا يستطيع أن يصنع قراراً حراً لنفسه، إنه يبدو مسحوق الإرادة، وقد محقوا نفسيته منذ سنوات طفولته وتكوينه الأول.. زرعوا فيه الخوف وأرعبوه بالشكل الذي جعله مكبلا بانعدام الثقة.
سايكلوجية الخوف والرضوخ
لقد مضي زمن طويل علي هذا الأسلوب الذي غداً يترسخ في الضمائر والوجدان، لتغدو عاطفته شبه ميتة لا تعرف أن تعبّر عن جذوتها وحرارتها أو برودها.. وأصبحت المخيلة متيبسة، كيلا تخلق الصور المبدعة والألحان الجميلة والطرب الأصيل.. هكذا، بدا الفن في أزمة.. فالإنسان أصبح علي امتداد الثلاثين سنة الأخيرة مطوقاً من كل الأطراف، وسط هياج كائنات بشرية أسموها بتسميات معبّرة عن الأخوة والمحبة، أو تلك المعبرة عن الحرية والانعتاق، أو تلك الموصومة بالعدالة والإحسان.. إلخ! وإذا كانت البدايات الأولي منحسرة، وكانت تعمل لأغراض اجتماعية منذ قرون، لكنها غدت القضايا الروحية والعقدية مسائل سياسية، وهي تنتقل عبر موائد عريضة وهي ممتدة من زمان إلي زمان.. أو من مكان إلى مكان.
إن التفكير أصابه التكلس بسبب حرمانه من التعبير عن كل المكنونات والأحاسيس.. وأن التبلد قد قتل كل النخب الحية والذكية في مجتمعاتنا.. وأن العوارض التافهة حلّت محل الجواهر والأشياء المركزية في حياتنا! لقد أصبح الإنسان صنماً كأنه واقف جامد لا يتحرك في متحف، أو أنه انتقل من عالمه الحر كما ولدته أمه إلي أن يكون عبداً راضخاً للقسوة والأصوات المنكرة والتشوهات.. وهو يتنقل إلي جغرافيات الألم ومساحات الخوف، وأن يعيش مع صور الماضي المتعب التي تبدو موحشة لمن يمتلك ذرة من المشاعر والإرادة الحرة.. ولكن من دونها، فالإنسان يشعر بسعادة مزيفة، وهو ينغمر شيئاً فشيئاً وسط التكلسات.. أو تطربه الأصوات ذات الصدي التي تجعله مفتوناً بهذا العالم.. أو تسكره الأحاديث المنمقة عبر الفضائيات، فتأسره أسراً شديداً.
إن ماضينا يأسر مجتمعاتنا بشكل كامل، ويكبّل عقولها، ويقفل علي إبداعاتها.. ويجعلها متكلسة في صناديق مغلقة! والماضي غير التاريخ.. الماضي هو عظام التاريخ، لا كل لحمه ودمه! كم كنت أتمني أن تغدو مجتمعاتنا مثل بقية مجتمعات الدنيا، لا تجد في ماضيها إلا تاريخاً يقبل التأويل والتحليل والمقارنة والنقد والتشريح ومختلف القراءات.. ولكن مجتمعاتنا لا تقرأ التاريخ، بل تّقدس الماضي، وهي لا تعرف من الزمن إلا إياه، فهي تكاد تكون مغيبة عن الحاضر ومستلزماته، وهي لا تفكر بالمستقبل ومشروعاته البتة! ولا تكتفي بأن تجد القداسة عند صاحبها الحقيقي، بل إنها غدت اليوم توزع القداسات علي كل من تحيا في محاريبهم ليل نهار!
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً!؟
يولد الإنسان حراً، ولكنه يكبّل بالأغلال يوماً بعد آخر.. وينقسم المجتمع بين أحرار وعبيد، الأحرار قلة وندرة من الذين يدفعون أثماناً باهظة من حياتهم وكرامتهم.. وعبيد ليس شرطاً لسادة ورجال دين، بل عبيد لأفكار وحكايات وخطب وأحاديث تليفزيونية ونصوص فقهية ونزوعات طائفية مقيتة لم تعد تصلح لهذا الزمان.. فالحر ينزع عن عقله أردية القداسة مهما كان نوعها، ومهما صرخت ألوانها.. الحر بالضرورة سيبدع في عنفوان حياته، بعد أن ينتصر لإرادته.. ويعبر إلى الضفة الأخرى حيث يرى الماضي جثة هامدة لا حراك بها.. إنه مادام قد عبر إلى الضفة الأخرى ، فقد انتصر لنفسه وروحه وعقله، وحتى لدينه الحنيف.. لقد نجح في انطلاقته لتحقيق الحلم الذي قد يصله بعد نضال طويل، أو تكبحه مشكلات المتكلسين، فلا يصل لا إلى حلمه، ولا حتى إلي هدفه، الحر، لا يرى في الماضي عظاماً، بل يجد تاريخاً وحضارة.. يجد ما هو صحيح وخاطئ.. يجد ما هو يصلح لهذا العصر وما لا يصلح أبداً.. الحر من يتحدث ليترجم ما يقوله عقله إليه، لا هياج عواطفه، أو بلادة أحاسيسه.. الحر من يثق بالحياة والمستقبل كي يقدم للدنيا ما تحتاجه منه، لا أن ينتظر متكلساً وليس له إلا الاتكالية والخمول.. الحر من يسعي في الأرض جاهداً ومنتجاً ويعلم الأجيال علي نهجه.. لا أن يبقى يعتمد علي الآخرين.. الحر يحترم زمنه قبل الأزمان الأخرى، ويثمّن كل دقيقة يعيشها كي يبدع فيها أو يتعلم منها.. لا كغيره ممن ليس لهم إلا أن يضيعوا وقتهم في التفاهات والقيل والقال وفي التعاويذ واجترار الخرافات والبكاء على الماضي ولطم الخدود وشق الجيوب .. دعوة صريحة للأجيال الجديدة أن يكون التفكير والعقل سبيلها نحو بناء مجتمعاتنا على أسس جديدة.. فهل ستنتصر في مخاضها العسير؟ هذا ما ستجيب عنه الأزمان القادمة.
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4251 السبت الموافق - 28 نوفمبر 2009
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة المرفقة من عمل الفنان محمد سامي .