المسيحيون ليسوا أقلية في العراق
حينما بدأ النبي محمد ( ص ) دعوته إلى الإسلام في مكة المكرمة , آذاه أهلها من قريش ومن تحالف معهم من القبائل في أحلافٍ جاهلية , وتصدوا لرسالته الإسلامية السمحاء , ووقفوا للدعوة بالمرصاد , فخرج الرسول إلى الطائف ليدعو أهلها إلى الحق والعدل والجمال والدين الحنيف , وفيها وقف أهلها من ثقيف ومن تحالف معهم من القبائل وأولياؤهم الذين كانوا يعتنقون الشرك دينا يؤذون النبي وضربوه بالحجارة وغيرها , وحرضوا عليه صبيانهم , وشتموه وقذفوه بالشوك وغيره , واسمعوه الكلام البذيء , في حين كان يسمعهم الكلام الحسن ويدعو إلى سبيل ربه ( بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) , فلجأ إلى بستان هناك ليدعو دعوته الشهيرة (( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا ارحم الراحمين )) لكنه لم يدع عليهم , بل دعا لهم بالهداية , وفي تلك الساعة جاءه البستاني بقطيف من العنب , فسأله الرسول الأعظم :-ما اسمك ومن أي بلد أنت ..؟ فأجابه البستاني : اسمي عّداس ومن أهل نينوى , فقال له الرسول الكريم " ص " أنت من بلد أخي الصالح يُونس , وقد كان نبياً وانأ نبي , والحمد لله تعالى فقد أصبح قطيف العنب جزاءا عزيزا من النسيج الاجتماعي المنسجم والمتآخي بأديانه وطوائفه ومذاهبه وقومياته , وصارت أور مسقط رأس أبينا مركزا دينيا مشعا , لان من عباءتها خرج النبي إبراهيم أبو الأنبياء عليهم الصلوات والسلام , وفي العراق أضرحة الأئمة الأطهار وعتباتهم المقدسة ومراقد الصالحين والأولياء , تباركت هذه الأرض التي تستحق القداسة والتضحية والفداء لأنها ارض الأنبياء والمؤمنين , ولم يكن إبراهيم الخليل فردا صالحا بل كان كما وصفه القران الكريم ( إن إبراهيم كان امة ) ومن هنا يتجلى لنا بوضوح أن مفهوم الأمة لا يكون بالمفهوم الكمي أو العددي , بل بالمفهوم النوعي وقد تكون الأولية العددية نسبيا بنوعيتها وصفاتها المثمرة أكثرية بعطائها وكفاءتها وحسن أدائها وولائها الوطني والإنساني وتجذر أصولها للوطن , وكان لها أياد بيض – الأمة - في وضع حجر الأساس لحضارته, ومن هنا نستطيع أن نقول :
إن المسيحيين في العراق لم يكونوا أقلية , بل هم من اعرق أهل وادي الرافدين والحضارات العراقية الأصيلة في العراق , وأنهم يشكلون مع المسلمين وبقية الأديان والقوميات والطوائف والمذاهب مجتمعا عراقيا متآخيا في السراء والضراء كما أورد أبو الفتح الشهرستاني في كتابه ( الملل والنحل ) في القرن السادس الهجري , وتاريخا فان أول كنيسة بنيت في الشرق هي ( كنيسة اليعاقبة ) في القرن الأول الميلادي قبل أن تنتشر الديانة المسيحية على أيدي المبشرين في الغرب ولم تصل إلى روما ويعتنقها قياصرة الدولة الرومانية ورعيتهم ولم ينعقد بعد مَجمعا نيقية المسكونيان في أسيا الصغرى في العام 325 ميلادي الذي أعلن فيه قانون الإيمان والثاني في عام 787 ميلادي التي أصبحت عاصمته الإمبراطورية البيزنطية وهو ما يعرف اليوم ب (أزنيق ) أما الكلدوأشوريون وبقية القوميات التي اعتنقت الديانة المسيحية في بداية انتشار المسيحية بعد بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام وهي من أقدم من وَطئت أرجلهم بلاد الرافدين , وانتشرت المسيحية في قبائل عربية ومستعربة كقبيلة ( إياد ولَخم ) والمناذرة الذين كانت عاصمتهم الحيرة قرب الكوفة التي كانت عاصمة السياسة والشعر والثقافة والتجارة في العالم , في حين كانت إمبراطوريتان تحكمان هما الإمبراطورية الرومانية في الغرب والإمبراطورية الساسانية في الشرق , ولم يكن الا إمارة كندة في الجزيرة العربية وأميرها الملك الضّليل امرؤ ألقيس أمير الشعراء الذي استنجد بقيصر ملك الروم بعد أن نازعه بنو جلدته إمارته في القرن السابع الميلادي , في زمن ذهبت إمارات عربية أدراج الرياح وزالت كسبأ وحِمير ومَعين وتدمر وغيرها , فقال في ذلك امرؤ ألقيس : من قصيدته المشهورة ..
بكى صاحبي لما رأى الدرب دوننا
وأيقن أّنا لاحقانِ بقيصرا
فقلت له لا تبكِ عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
لقد شهد القران الكريم للمسيحيين بشهادة حسنة , و شهدت الآيةُ للذين قالوا: إنا نصارى، بأنهم أقرب الناس مودة للمسلمين ، ونبيِّن السبب مباشرة، فنقول: ذلك لأن بينهم ومنهم رجال دين - من قسيسين ورهبان - أصحاب مواقفَ إيجابيةٍ تجاه الإسلام وأهله ((وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ {82} وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) المائدة / 83 )) . ولهذا جعلهم الإسلام أهل عهد وذمة من آذاهم فقد آذى الله ورسوله والذين امنوا وأولي الأمر .
ولكي لا تمر جريمة العدوان الإرهابي الآثم على كنيسة سيدة النجاة , ومن خلال هذا الاستعراض , ومن خلال الدروس والعبر يتضح بان دهاقين الإرهاب العالمي يتبعهم أما الغافلون أو السيئون الذين يكيدون للعراق الجديد كيد الماكرين , لهم نوايا شريرة ابعد من خطف رهائن مسيحيين والهجوم على كنيسة في وقت إقامة قداس أو اغتيال أفراد منهم , والتلويح بالورقة المسيحية العراقية ما هي إلا جزء صغير من نوايا سيئة ذات أهداف إستراتيجية خبيثة بعيدة علينا الانتباه إليها , ومن هذه النوايا الخبيثة العمل على إفراغ العراق من جذر من جذوره , وشل عضو من أعضاء جسده المتواد المتراحم الذي إذا اشتكى منه عضو تدعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. ويذكرنا هذا العمل الإرهابي الدنيء بما قام به قادة في الحركة الصهيونية في أربعينيات القرن الماضي حينما قاموا بافتعال أحداث شغب وإثارة المشاعر الدينية مع المواطنين العراقيين من اليهود وكان من ابرز من اعترف بهذه الأعمال الخبيثة هو " بيغن " الذي اعترف في مذكراته التي نشرها في ثمانينيات القرن العشرين , والتي يؤكد فيها انه لما كان في الهاغانا في الأربعينيات عمل هو وبعض أعضاء المحفل الصهيوني على افتعال الضرر بيهود العراق وافتعال ما يسمى حينذاك بظاهرة ( الفرهود ) لكي يشيع الرعب في قلوبهم وينسلخوا من جلد العراق ودمه ويغادروا العراق تحت باب أنهم ( أقلية يهودية ) غير مرغوب فيهم عند أغلبية المسلمين في العراق ,كل ذالك قام به الصهاينة الذين انتزعوا اليهود العراقيين انتزاعا من الجسد العراقي والنسيج المنسجم الجميل الموحد لا فرق فيه بين المواطنين , بل توحدهم الهوية الوطنية لا الدينية ولا الطائفية ولا القومية ولا الاثنية ولا العرقية ولا المذهبية ولا الحزبية , وهناك أصبح اليهود العراقيون والشرقيين في دولة إسرائيل مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة , ليست لهم الحقوق التي يتمتع بها يهود الغرب ولا اليهود سكان فلسطين الأصليون , وإنما أصبحوا هناك شبه بالجالية , كما ينظر إليهم حاخامات الدولة العبرية وساستها وقادتها ومستوطنوها بازدراء , وكأني بهم يحنون إلى شاعرنا اليهودي العربي الذي ضرب العرب والمسلمون به مثلا في الوفاء فقالوا : أوفى من السمؤال ابن عادياء الذي قال :
تعَّيرنا أنّا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرامَ قليلُ
وما ضَّرنا أنّا قليلُ وجارنا عزيز
وجار الأكثرين ذليل
سلي إن جهلتِ الناسَ عنا وعنُهمُ
فليسَ سواء عالمٌ وجهولُ
إذا المرءُ لم يدنس من اللئوم عرضه
فكل رداء يرتديه جميل
إذا المرء لم يحمل على المرء ضيمها
فليس إلى حسن الثناء سبيل
نعم يا إخوتنا مسيحيي العراق , إن قلبي زاخر بالتهاني لكم والأمنيات إليكم والتضرع لله بهذه المناسبة السعيدة , عيدنا وعيدكم المبارك الذي تتجرد فيه النفوس من كل الرواسب السلبية والأنانيات الضيقة وتعانق ضمائرنا الحية اشراقة أمل جديد , وتعانق حياة حالمة بالآمال السرمدية والأحلام الوردية , فقد مللنا الكآبة والقهر والتوجس والحرمان , ولنتطلع إلى غد مشرق يزهو بخمائل السعادة والهناء , ويستحم تحت شلالات اليمن والانشراح والارتياح , ونتضرع لربنا القادر المقتدر أن يجعل حياتكم رافلة بحلل العافية والاطمئنان والهناء , ولننطلق سوية نشدوا بأناشيد المحبة والأمان والوئام ونغني أغنيات المجد والنهوض والازدهار , ونشمر عن سواعدنا كي نصنع قناديل التقدم والرخاء ونركل كل تراكمات الماضي البغيض , ونقف بشموخ وإرادة لندرأ عن عراقنا الجديد الناهض كل رياح الغدر والإرهاب والتفخيخ والإجرام , ونصوغ قلائد الشموخ والزهو لعراقنا المتطلع إلى حياة آمنة هادئة سعيدة ترفرف في أفاقها ألوية العدل والمساواة والقوة والمنعة والصمود .
إخوتي الكرام .......
إن عيد الاضحى المبارك يجب أن يجدد في نفوسنا الأمل والاندفاع والانطلاق صوب الأهداف الوطنية والإنسانية الكبيرة المتبلورة بالوحدة والتلاحم والوفاق والاتفاق والألفة والائتلاف , ونسير كرجل واحد والى الأمام وبكل همة وإقدام , لصناعة مسلسل الوئام والسلام والاخاء والرخاء والولاء , فعراقنا أحوج ما يكون إلى صفاء النوايا وتوحيد الرؤى والأهداف والمنطلقات كي نستحم في بحيرة العز والكرامة والاستقرار , فقد مللنا الدمار وما يصنعه الأشرار , ولنحمل أنفسنا على الصبر ونقف بثبات أمام زعانف الشر والوقيعة وإنها لمنحة سوف نتحداها ونتجاوزها , لأننا أهل لذلك وبصبرنا وتحملنا وانشدادنا لأرضنا وبحبنا لوطننا العراق سنجعل من المعاناة والمنغصات والآلام تمر علينا بسلام , فقد عشنا ألاف السنيين نأكل من ماعون واحد , ونشرب من كاس واحد , ونتقاسم الهم والفرح الواحد , ويشهد على ذلك الله الواحد , , أدامكم الله كل عيد , وجعل كل أيامكم أعيادا , وعيدا متجددا على مر السنين والأعوام والسلام .
ماجد الكعبي
majidalkabi@yahoo.co.uk