الموسيقار رائد جورج رائد التجديد في الموسيقى العراقية
موسيقار كبير ومطرب مرهف الحس أنجبته أرض العراق المعطاءة.. إنه الفنان المبدع رائد جورج الذي يُشرفني أنني كنت من الجيل الذي فتح عينيه على موسيقاه الجميلة وعاصرت فنه كما عاصره الألوف من أبناء جيلي في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي وكان بحق ظاهرة فنية متميزة أنتجت الكثير من الأعمال الموسيقية والغنائية الجميلة التي لاتزال عالقة في أذهان الكثيرين منا .أحَب الموسيقى منذ صغره وحصل على شهادة الموسيقى من معهد التدريب الإذاعي تحت إشراف الأستاذ سعيد شابو عام 1980 ثم على دبلوم من معهد الفنون الجميلة قسم الموسيقى عام 1988 وكانت إنطلاقته الأولى رغم صغر سنه كبيرة بحجم إبداعه وذلك عندما قام بتأليف الموسيقى التصويرية لمسرحية " الإنسان الطيب " للراحل الكبير الفنان عوني كرومي في منتصف الثمانينات فكان حينها أصغر مؤلف موسيقي عراقي وإنطلق بعدها مع فرقته الموسيقية في عالم الموسيقى والغناء ليبدع مجموعة من الأعمال الموسيقية والغنائية التي واكبت جيلاً من الشباب كنت منهم.. وفي عام 1994 أبدعت أنامله السحرية موسيقى أوبريت " الملكات الخمس " الذي كان إفتتاحية مهرجان بابل الدولي لذلك العام وهو يعد من أروع أعماله الموسيقية وحاز به على جائزة المهرجان التقديرية وعُدّ حينها ولايزال أضخم عمل سيمفوني عراقي ثم حصل على الجائزة التقديرية لموسيقى إختتام مهرجان بابل الدولي عام 1995 بعد ذلك قام بتأليف الموسيقى التصويرية لمسلسل " رجال الظل " والتي حاز بها على الجائزة الذهبية لأحسن موسيقى تصويرية ضمن مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون عام 1997 وفي عام 2002 حصل على جائزة أحسن موسيقي عراقي من الإتحاد الكلداني وكان هذا آخر عهدنا بأخبار رائد جورج .
في نهاية الثمانينات إنتبه الكثير من العراقيين المهتمين والمولعين بالموسيقى الى ظهور موهبة موسيقية متميزة عن باقي أبناء جيلها من الفنانين بموسيقاها وأغانيها وطريقتها في التوزيع الموسيقي إسمها رائد جورج ولقد كانت موسيقاه وطريقته في التوزيع الموسيقي فعلاً ذات طعم خاص ونكهة متميزة لدرجة أنه عندما كان المرء يستمع لأول مرة الى لحن قام هو بتأليفه أو بتوزيعه موسيقياً كان يعرف على الفور بأن أنامله السحرية هي التي صاغته وأبدعته.. كان رائد جورج يمتلك موهبة ومَلَكة غير عادية في الموسيقى كانت واضحة في جميع مؤلفاته وتوزيعاته الموسيقية التي سبقت عصرها أو التي ولدت أصلاً في غير زمانها ومكانها لكنه رغم ذلك ظل ملتزماً بنهجه الموسيقي الرائع وكون شخصيته الموسيقية المتميزة ولم يقايض فنه بالمال أو بالسياسة كما فعل البعض.. إسمه رائد وكان رائداً بالفعل وبكل معنى الكلمة لمدرسة عراقية جديدة في التأليف والتوزيع الموسيقي كما كان من المجددين في الغناء العراقي بطريقته المتميزة في التوزيع الموسيقي للأغاني والتي كانت تجمع بين عظمة الموسيقى الشرقية وإعجاز الموسيقى الغربية وهي مهمة ليس بالسهلة كما نعلم ولم ينجح فيها سوى موسيقيين عرب قليلين يُعدون على الأصابع كان رائد منهم ولو قُدِّر له أن يستمر في عطائه وإبداعه في أحضان وطنه لإستمرت هذه المدرسة تُخَرِّج لنا حتى اليوم أجيالاً جديدة من الموسيقيين لكنه للأسف وكأغلب الفنانين والمبدعين العراقيين إضطر الى مغادرة العراق وهو في قمة هذا العطاء بسبب الظروف التي نعلمها جميعاً.. إن رائد جورج ثروة وطنية لاتقدر بثمن ورمز من رموز الموسيقى العراقية التي لن تتكرر لذا يجب أن ينال حقه الذي يستحقه من التكريم والإهتمام من الإعلام العراقي الذي يغزوا الفضاء وفي الوقت الذي لانعتب فيه على الفضائيات الحجرية التي لاتعرف ولاتفهم أصلاً ماهو الفن ولاتقدر أهله فإن عتبنا شديد على الفضائيات التي نعلم جيداً تقديرها للثقافة وإهتمامها بالمثقفين كالشرقية والبغدادية والسومرية والبابلية والديار لعدم عرضها مقابلة أو حتى بثها لأغنية لهذه القمة الفنية الشامخة !
لقد لحن رائد العديد من الأعمال الموسيقية أبرزها " بين النهرين أو ميسوبوتاميا " , " رجال الظل " , " سميراميس ملكة بابل " , " نفرتيتي ملكة مصر " , " دوشفري ملكة الحضر " و " الملكات الخمس" وقام بتوزيع العديد من الأعمال الموسيقية والأغاني وإعادة توزيع البعض الآخر كنشيد " موطني " على سبيل المثال.. أما أغانيه الشخصية فقد كانت قليلة لأن إهتمامه كان منصباً على التأليف والتلحين والتوزيع الموسيقي أكثر منه على الغناء وكانت أغانيه عموماً عاطفية وتتسم بالبساطة والشاعرية مثل " حيرتيني " , " لاترحلين " , " سمّعني كلمة " , " ذكريات " , " سمعت عنك كلام " , " بغداد " و " يبقا حبنا ".. وكما كانت كلمات أغانيه في الماضي تخاطب الحبيبة سأخاطبه اليوم بكلمات من وحي هذه الأغاني لأنه حبيبنا وسيبقى حبيبنا الذي لم ولن ننساه فأقول له..
سمّعنة أنت كلمة بيها معاني جميلة في زمن لم يعد فيه لكلمات الأغاني معنى وأطربنا بأغانيك الجميلة الأنيقة في زمن بات فيه الغناء ليس بغناء وشنف أسماعنا بمعزوفاتك الموسيقية الرائعة.. وسمعت عنك كلام بأنك تريد الإعتزال أو إعتزلت بالفعل نهائياً عن الغناء والتأليف الموسيقي فأتمنى أن يكون هذا الكلام غير صحيح وبأن ماسمعته لايتعدى كونه إشاعة لا أساس لها من الصحة.. لذا أرجوك أن لاترحل بعيداً وتعتزل الموسيقى والغناء ولاتبتعد كثيراً عن جمهورك الذي عاصرك وأحبك وأحب موسيقاك ولازال ينتظر منك الكثير وأشدوا أسماعنا من جديد بمؤلفاتك الجميلة.. إن حبيبتك بغداد مشتاقة إليك والى كل الطيبين من أبنائها الأصلاء الذين تركوها مرغمين ليعودوا إليها يوماً ويضمدوا جراحها ويعيدوها الى سابق مجدها وعزها.. وسوف يبقى حبنا إليك وشوقنا لسماع أغانيك وموسيقاك كبيراً في نفوسنا.. ولاتزال وستبقى حاضراً في ذكريات شبابنا الذي عشناه برفقة أغانيك وموسيقاك الجميلة ولقد كنت وستبقى مثلاً أعلى للكثير من الشباب العراقي وأنت أهل لذلك .
خلال وجودي في العراق سنحت لي فرصة واحدة يتيمة لحضور حفل للموسيقار الكبير ورؤيته وجهاً لوجه وتحيته لكنني كنت متابعاً جيداً لنتاجاته وأخباره أما ثاني وآخر مرة رأيت فيها رائد جورج فقد كانت في النصف الأول من التسعينات ولم تكن في حفلة موسيقية أو غنائية بل كانت عن طريق الصدفة في مطعم ( بلوتو ) الذي كان يتوسط الشارع المؤدي الى جامعة بغداد بمنطقة الجادرية الحبيبة التي كانت حينها ملتقى الشباب العراقي بطبيعتها الخلابة ونسماتها اللي ترد الروح والتي شوِّهت طبيعتها اليوم ولُوِّثت نسماتها وتحولت الى منطقة للأشباح بدلاً من منطقة للشباب.. وقد كان رائد جالساً لوحده مهموماً يرتشف قدحاً من الشاي فنهظت وتقدمت نحوه ثم سلمت عليه وعرّفته بنفسي وسألته عن أحواله وعن صحة الأقوال التي تحدثت آنذاك عن خروجه من العراق وهجرته الى دولة أجنبية فأجاب وأرجوا الإنتباه الى الجواب.." نعم صحيح لقد غادرت العراق ولكنني لم أحتمل الغربة وفراق العراق فعدت ".. أرأيتم ؟.. هذا هو رائد جورج إبن العراق الأصيل حفيد سومر وأكد وآشور لم يحتمل فراق العراق لأشهر رغم إنه كان حينها في قمة شهرته وعطائه وكانت المغريات مفتوحة له آنذاك على مصراعيها في الكثير من دول العالم وخصوصاً في أمريكا واستراليا حيث الجالية العراقية موجودة هناك بالآلاف وكانت ستحتضنه وتحتفي به حينها بكل تأكيد لو قرر البقاء بينها لكن رائد فضّل أرض العراق وتراب العراق على كل هذا وعاد للعراق ليستمر في عطائه الفني للأجيال التي كانت بحاجة إليه رغم صعوبة الظروف وصَمَد وواصل إبداعه وعطائه حتى ساعة خروجه الأخير من العراق بعد أن بات البقاء في العراق بمثابة إنتحار بالنسبة لفنان كبير ومبدع مثله .
أتمنى ومعي الكثيرين من أبناء جيلي أن يعود الموسيقار الكبير رائد جورج الى جمهوره الذي أحبه رغم علمي جيداً بأن رومانسيته وشفافيته المعروفة تمنعه أن يكون حاضراً وسط دوامة الفوضى والضجيج اللذان يعمان اليوم كل شيء في العراق ويخُص العراق فهو لم يُخلَق ليُبدع وسط هذه الأجواء لكن من أجل العراق الذي أعلم جيداً بأنه لايفارق فكره ومخيلته يهون كل شيء فالعراق اليوم بحاجة الى أمثاله من المبدعين ليعكسوا الصورة المشرقة لبلاد الرافدين وليوصلوا صوت شعبها العريق والذي تمتد جذور رائد الى سلالاته الأولى الى جميع أنحاء العالم.. إن هذه المقالة لن توفي رائد جورج ولاحتى معشار حقه الذي يستحقه من جيلنا بالذات ومن كل العراقيين بشكل عام لكنها أرجوا أن تكون عرفاناً بسيطاً بالجميل من تلميذ متواضع لأستاذ كبير أمتع جمهوره ومحبيه بموسيقاه وأغانيه الجميلة وعَلّم الأجيال التي عاصرته الفرق بين الفن الزائف والفن الحقيقي الذي كان رائد أحد أبرز رموزه .
وحسبنا الله ونعم الوكيل على كل من حرَمنا من رائد وحرَم رائد وباقي العراقيين من وطنهم.....
karadachi@hotmail.com