Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

النزاهة ومتلازمة الفساد والفقر والإرهاب

لا يشعر الفقراء عادة بقيمة الانجازات المعنوية على الصعيد السياسي
والدستوري كالانتخابات الحرة وانشاء المجلس النيابي واقرار
الدستور، ذلك ان نتائجها تتجسد في المستقبل البعيد غير المنظور ، الا
انه يشعر بقيمة الانجازات المادية ويقدرها فهو يُقيم الحكومة التي تملأ
بيته طعاماً وخبزاً واطفالاً اصحاء متعلمين يمكن ان يحصلوا على
وظيفة في الحكومة.....

الفصل الاول: النزاهة والفســاد والفقـر
مقدمة حول الفقر في العراق
العراق بلد الحضارات والخيرات بحق ،فعلى ارضه نِشأت اول الحضارات الانسانية ، ومن بين خمس انهار نشأت عليها الحضارات القديمة هي الاشهر تاريخياً ، ، يوجد اثنان منها في العراق ، الفرات العذب ودجلة الخير ، وعلى هذا الحال فان العراق بلد زراعي ، والى العراقي الفذ يعود اختراع ( الكتابة ) و( الدولة ) و ( القانون) و ( فكرة العدالة ) و ( المدينة الحضرية ) و ( علم الفلك ) و( القصة الاسطورية ) و ( العجلة ) واول من انشأ (مكتبة) في التاريخ واول من فتح ( صيدلية ) واوا من وضع تقويم للزاعة كما انه اول من لعب كرة القدم........(1)
ومن جانب اخر فان العراق بلد سياحي ، حيث تتوفر فيه جميع انواع السياحة ، سياحة طبيعية وسياحة تاريخية وسياحة دينية ، فضلا عن ثروة نفطية هائلة ، حتى ان احد خبراء النفط العالميين قال ان العراق يطفو فوق بحر من النفط ، وتشير الروايات الشعبية المتداولة ان الكثير من الناس قد خرج النفط في اراضيهم وهم بصدد حفر اقبية او ابار للماء .
ونظرياً لا يمكن ان يتحقق الفقر والجوع في العراق ، الا انه وكما يقول السياب في انشودة المطر ( ما مر عام والعراق ليس فيه جوع ) ، فمن الناحية الواقعية فان شعب العراق وعلى مدى فترات تاريخية طويلة عانى من الفقر والجوع والمرض والظلم والسبب فساد الطبقة الحاكمة، وضعف دور الرقابة الرسمية والشعبية .
مقومات الاقتصاد العراقي :
- المساحة الكلية: 430820 ألف كيلو متر مربع .
- السكان: حوالي 27 مليون نسمة .
الثروات الطبيعية:
-1 النفـط :يمتلك العراق ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد السعودية حيث يقدر مركز دراسات الطاقة العالمية في لندن أن العراق يمتلك 112.5 مليار برميل من النفط في باطن الأرض لم يتم استغلالها حيث تشكل 11 % من الاحتياطي العالمي ، ويتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 22 % من الاحتياطي العالمي إذا ما تم إعادة الكشف والتنقيب عن البترول والذي توقف منذ عام 1980 .
ويتميز النفط العراقي بانخفاض كلفة إنتاجه حيث لا تزيد على 1.5 دولار مقارنة ب 2.5 دولار في السعودية وهي أدنى التكاليف العالمية على الإطلاق حيث تصل إلى أكثر من 6 دولارات في مناطق أخرى من العالم مثل (روسيا ومنطقة حوض بحر قزوين).
-2 الغاز الطبيعي : تقدر احتياطاته في العراق بنحو 110 تريليونات قدم مكعب أي ما يعادل 2% من الاحتياطي العالمي .
= الناتج القومي : تراجع من 75.5 مليار دولار عام 1989 إلى 26 مليار دولار عام 2002] .
=مستوى دخل الفرد السنوي : تراجع من 3500 دولار أمريكي في عام 1989 إلى 320 دولار فقط في عام 1997 .
- ارتفعت نسبة الإنفاق العسكري حيث بلغت 371% من الناتج القومي الإجمالي في العام 2002
- انخفض الإنفاق على الصحة والتعليم في التسعينات من القرن الماضي الى 2003 إلى 1% فقط من الناتج القومي الإجمالي.
- متوسط العمر المرتقب عند الميلاد انخفض من 62 سنة في عام 1980 إلى 59 سنة في عام 1999 .
- معدلات البطالة وصلت إلى 70% في عام 1999.
- تراجع ترتيب العراق وفقاً لدليل التنمية البشرية بين دول العالم من المرتبة ال55 عام 1990م إلى المرتبة ال 127 في عام 1999 .
- ازدادت حدة مشكلة الديون العراقية حيث بلغت حوالي 450 مليار دولار في عام (2003) ، أي حوالي ال 18 ضعفاً من إجمالي ناتج العراق القومي سنويا (2).
ويمكن القول ان من اهم التحديات التي تواجه العراق ، كدولة وكمجموعة انسانية عريقة، تتمثل بصفة اساسية في الفساد الاداري والمالي . حيث يمكن اعتبار الفساد احد الاسباب الجوهرية في دوام تحديات ماساوية مثل الفقر والتخلف وانخفاض مستوى التعليم والرعاية الصحية ونقص الخدمات العامة ، وما يترتب على ذلك ، من تعميق للظلم الاجتماعي واعاقة جهود التنمية في مجال الأعمار ومجال تنمية قدرات الانسان العراقي ، فضلا عما تشكله هذه التحديات من تهديد أو هدر لحقوق الانسان الأساسية. ومن جانب اخر فان هناك علاقة وثيقة بين الفساد والظواهر الاجرامية الاخرى التي تقوم على تنظيم دقيق مثل عصابات الجريمة المنظمة ومنها المنظمات الارهابية .
كما ويمكن القول ان هذه التحديات تشكل متلازمات او ان كل منها يُعد سببا ونتيجة للآخر ، فالفقر صورة من صور الظلم وتعبير عن اختلال في قيم العدالة الاجتماعية ، وقد يقود الفقر الى الجريمة فيكون الفقراء مادة الارهاب الاولية. بينما لا يستطيع الفقير ممارسة حقوقه الانسانية كاملة .
ويعمق الفساد الهوة بين افراد المجتمع ، حيث يخلق طبقة ثرية ، أثرَت على حساب الشعب ، من خلال سرقة الأموال العامة المخصصة للتنمية والتعليم والصحة والأمن ،فتتدهور الأحوال الاجتماعية في كل المجالات وتنحدر فئة كبيرة من عموم ابناء المجتمع نحو الفقر والحرمان والتخلف والمرض والجريمة ، بينما يتمتع اللصوص ،باعتبارهم نخبة اجتماعية بيدها المال والسلطة ، باسباب الرفاهية.
والحال ان هذه التحديات تمس وجود الانسان العراقي وتحد من خياراته وتطلعاته المشروعة، كما انها ترسم صورة قاتمة لمستقبل الاجيال القادمة ، وتتطلب اهتماما جديا من النخبة المثقفة في المجتمع وحرص حقيقي من قبل القائمين على امور السلطة العامة من اجل معالجتها قبل استفحالها .
ان الطريق نحو معالجة هذه التحديات وازالة تركة الحرمان والتخلف الناشئة والموروثة ، تتطلب ولا شك وقتاً ، ولكن في كل الاحوال ينبغي البدء بالخطوة الاولى في كل مجال من هذه المجالات التي تشكل تهديدا حقيقيا لوجود الانسان العراقي ومستقبله .
المبحث الاول
التجربة العراقية والدولية في مكافحة الفساد
تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني امر متحقق دائما ولذا يبدو انه من مستلزماته بل انه نتيجة طبيعية مباشرة له.
ومن جانب اخر يقلل الفساد من فرص الحياة والتعليم والاعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة ، كما يؤدي الى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة بصورة مؤكدة .
ومن جانب اخر يسهم الارهاب المُنظم ، بانواعه واجنداته المختلفة ، واعوانه المندسين في مؤسسات الدولة ، في تعميق ظاهرة الفقر ودعم وتوطين الفساد لأسباب إقليمية سياسية معادية للعراق، وهكذا انفقت المليارات من الدولارات على اعمار العراق دون ان يكون هناك اثر ملموس على حياة الناس وصحتهم ومستوى تعليمهم.
واذا كانت المرحلة السياسية الراهنة قد شهدت اهتماماً مشجعاً من قبل الحكومة والقادة السياسيين العراقيين في مكافحة الفساد والحد منه ، وجاء في الفقرة الفقرة (25) من مبادئ وأسس البرنامج السياسي للحكومة العراقية والتي تنص على (وضع آليات فاعلة في مراقبة الإنفاق ومعالجة الفساد الإداري والمالي وتفعيل المواد الدستورية الخاصة بذلك والتعهد بالالتزام بها).فضلاً عن التصديق على اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003، كخطوة جوهرية على طريق تنظيم مكافحة الفساد اقليمياً ودولياً ، الا ان الخطوة الاهم تتمثل بتفعيل دور المؤسسات الرقابية الدستورية وخاصة مكتب المفتش العام وهيئة النزاهة ، بعد ان تعثرت جهودهما لاسباب داخلية وخارجية متعددة كان من اهمها التركيز على الجانب التحقيقي ابتداءاً واهمال الجانب الوقائي وهو جانب جوهري يعطل حركة مرتكبي جرائم الفساد كما سنوضح لاحقاً، كما انها باشرت اعمالها دون ان يحصل كوادرها على التدريب العلمي والفني الكافي ، ذلك ان مكافحة الفساد ، علم قائم بذاته يجمع بين المعرفة النظرية العميقة والخبرة الفنية والمهارة التكنلوجية المتطورة واعمال التحري السرية التي اكدتها اتفاقية مكافحة الفساد .
وحسب المعلومات المتوفرة لدينا فان اغلب اجهزة مكافحة الفساد النظيرة في مختلف دول العالم ، لا تقبل تعيين الموظفين فيها الا بعد جملة من الاختبارات العلمية والنفسية المتخصصة والمعقدة تمتد احياناً لمدة ستة اشهر على الاقل.
كما انها لا تسمح لمنتسبيها بمباشرة العمل الا بعد تدريب كاف يمتد احياناً الى سنتين في الداخل والخارج ،وان يعمل بعد قبوله كمساعد للمنتسبين القدماء لنفس الفترة.
وقد اطلعت شخصياً عند زيارتي لهيئة الرقابة المصرية على الاجراءات المشددة للغاية التي تطبق على المتقدمين للتعيين ولفت نظري منها وجود طبيب نفسي يقوم باختبار المتقدمين من الناحية النفسية والقدرات العقلية وكذلك مرحلة الاختبار النهائي حيث يجلس المرشح للتعيين وسط دائرة منضدية واسعة تضم رئيس الهيئة ووكلائه وعدد كبير من كبار الموظفين يقوم كل منهم بتوجيه عدد من الاسئلة اليه منها الثقافية والادبية والفنية والسياسية والتاريخية والجغرافية ..... ليقبل في النهاية او لا يقبل .
وقد فشلت في كثير من الاحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم ، ذلك أن الفساد جريمة سرية يصعب في كثير من الاحيان اثباتها من خلال الوسائل التقليدية للأثبات والتحقيق ، بالنظر لأحتياط الفاسدين بعدم تركهم ورائهم دليلا ماديا يشير الى تورطهم في هذه الجرائم ، بخلاف الجرائم التقليدية كالسرقة والقتل والتزوير وغيرها التي يمكن تتبع الادلة المادية عليها بوسائل متعددة منها البسيطة ومنها المعقدة ، أذ هي تتم في اغلب الاحيان بعيدا عن أعين الناظرين وخلف الابواب الموصدة ،وليس هناك في الغالب مسرح واضح للجريمة ، ويرتكبها في الغالب اشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون وفي تسخير المعرفة التي يمتلكونها لاغرض دنيئة ، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن اثبات دعواه امام القضاء.
وازاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون والعلماء في مختلف فروع العلوم الى ايجاد انظمة قانونية وادارية واجهزة فنية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة الى ابعد مدى ممكن ودراسة اسباب الفشل الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد ، فالتشخيص الدقيق للمشكلة جزء من حلها. وكان من اهم هذه الاساليب هو الوقاية أي مكافحة الجريمة قبل وقوعها وتجفيف منابعها من خلال انظمة دستورية وقانونية وادارية وفنية متنوعة منها:
اولاًـ انشاء هيئات مستقلة للرقابة :
ان فكرة انشاء هيئات مستقلة للرقابة هي نتيجة التجربة الانسانية المرة مع الفساد حقاً ، فقد اثبتت التجارب الدولية العديدة قصور الرقابة البرلمانية والرقابة الادارية ،اي رقابة الادارة على نفسها ، في اداء الاغراض المرجوة منها ، فقد ابتدعت البشرية خلال صراعها الطويل مع السلطة انظمة متعددة للرقابة كوسيلة لكبح جماح القائمين على امرها وفرضتها بثورات دموية تاريخية أخضعت وارغمت الطغاة على الاستجابة لمطالب شعوبها ، وهكذا ابتكرت الرقابة البرلمانية والرقابة الادارية، والرقابة القضائية.
الا ان الرقابة البرلمانية ، وكذلك الحال بالنسبة للرقابة الادارية على اعمال الادارة ، لم يفيا بالغرض المرجو منهما وهو تحقيق مبدأ سيادة القانون لاسباب متنوعة، فقد ثبت من خلال الممارسة العملية قصور الرقابة البرلمانية عن اداء دورها الرقابي بصورة فعالة لاسباب متنوعة منها ان السلطة التشريعية وان كانت تسمو مركزا على باقي السلطات داخل الدولة من الناحية الدستورية ، الا ان كثرة عدد اعضائها وضمها لاتجاهات فكرية وعرقية متنوعة وتميز اعمالها بالمنازعات الفكرية ، جعل من اعمالها متسمة بالبطء والتأخير ، وهكذا تضيع مطالبات الرقابة بين الاجراءات المعقدة والمجاملات السياسية.
كما لم تؤد الرقابة الادارية دورها بشكل فعال لاسباب متنوعة اهما قدرة السلطات الادارية العامة بما تملكه من صلاحيات تنفيذية واسعة لاتملكها اية سلطة اخرى ومنها هيمنتها على اجهزة القهر على تجاوز الرقابة والالتفاف عليها بصورة اخرى فالادارة هنا هي الخصم والقاضي في ذات الوقت ، اذ ينشا في الغالب بين افراد الادارات العامة نوع من التضامن المشوه يؤدي في احيان كثيرة الى التستر او التساهل ازاء جرائم الفساد ، كما ان بعض القيادات السياسية قد تسعى للتستر على فضائح الفساد لانها ذات تأئير قاتل على نتائج الانتخابات وتوجهات الرأي العام . وقد تستخدمها في احيان اخرى لاسباب سياسية كوسيلة للقضاء على الخصوم السياسين وتشويه سمعتهم ، وهكذا نشأت فكرة هيئات الرقابة المستقلة.
، وبالنسبة للرقابة القضائية رغم فعاليتها الاكيدة الا انها لا تتحقق الا بناءا على دعوى ، لان القاضي لا يتدخل لفض المنازعات من تلقاء نفسه ، والقاعدة في هذا الصدد ان القضاء مطلوب وليس محمول ، وقد لا تتحرك الدعوى لأسباب متنوعة من أهمها تردد الناس وعدم الابلاغ عن قضايا الفساد خشية بطش وانتقام رجال السلطة العامة ، ولهذا ابتكرت صلة وصل بين الرقابة والقضاء ، لسد الفراغ الحاصل ، تتولى التحري عن قضايا الفساد وتحريك الشكاوى الجزائية أمام القضاء بعد التحقيق فيها . هي هيئة النزاهة وهي جهة مستقلة محايدة.
ورغم إمكانية وجود الفساد في مختلف السلطات كما تشير التقارير الدولية كما سنوضح ذلك لاحقاً الا ان السلطة التنفيذية في مختلف الدول تعد من اوسع مواطن الفساد من حيث الكم والنوع ، بالنظر للمهات الضخمة الملقاة على عاتقها المتمثلة في ادارة المرافق العامة للدولة وادارة عموم النشاطات الاجتماعية والاقتصادية في الدولة ،وفي ضوء هذه المعطيات نشات الدعوة الى انشاء هيئات رقابية مستقلة عن اية سلطة اخرى ، تتمتع بالاستقلال المؤسساتي الكامل ، اي الاستقلال الاداري والمالي وفي سلطة اتخاذ القرار.
وتخضع هذه الهيئات لرقابة السلطة التشريعية،وذلك لتجنب التأئير السلبي لحساسيات الاجهزة التنفيذية من هيئات الرقابة ومحاولاتها لاسقاطها اوتحجيمها او التشكيك في جدواها، اما من الناحية الادارية فيكون الارتباط محدودا يقتصر على قيام السلطة التشريعية على انتخاب المسؤول الاعلى للرقابة وعزله ودفعا لاحتمال تدخل الطموحات السياسية للاغلبية البرلمانية في هذا التعيين فان الترشيح لهذا المنصب يتم من قبل سلطة اخرى محايدة هي السلطة القضائية وينبغي ان تحصل موافقة السلطة التنفيذية على ترشيحه. وهذا يمثل نوع من الرقابة المتبادلة بين السلطات المختلفة ، فالاستقلال نسبي لا مطلق ، وهذا يمثل افضل الحلول ، ذلك ان الاستقلال المطلق لاي سلطة من السلطات يقودالى الفساد والى نشوء نوع من الدكتاتورية المؤسساتية التي تفقد التعاون اللازم بين هذه السلطات مرونته بعدم اخذ اي سلطة من هذه السلطات الاعتبارات التي تهم السلطة الاخرى بنظر الاعتبار. فالرقابة المتبادلة تمثل الحد النسبي لاستقلالية اي سلطة. وكي لا تتحول هيئات الرقابة بدورها الى مؤسسة دكتاتورية فأن الذي يبت في قضايا الفساد التي تكشفها هذه الهيئات هو القضاء. وجاء في المادة ( 36 ) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد ( تتخذ كل دولة طرف، وفقا للمبادئ الاساسية لنظامها القانوني ، ما قد يلزم من تدابير لضمان وجود هيئة أو هيئات متخصصة او اشخاص متخصصين في مكافحة الفساد من خلال انفاذ القانون . وتمنح تلك الهيئة أو الهيئات أو هؤلاء الاشخاص ما يلزم من الاستقلالية وفقا للمبادئ الاساسية للنظام القانوني للدولة الطرف ، لكي يستطيعوا اداء وظائفهم بفعالية ودون أي تأثير لامسوغ له. وينبغي تزويد هؤلاء الأشخاص أو موظفي تلك الهيئة أو الهيئات بمايلزم من التدريب والموارد المالية لأداء مهامهم.)
ثانياً ـ وجود نظام قانوني متميز لمكافحة الفساد :
سبق القول ان الاساليب التقليدية في مكافحة الجريمة لم تجد نفعا في مكافحة الفساد، بالنظر لخصوصية هذه الجريمة المرتكبة من قبل اشخاص يتمكنون من محو اثارها باستخدام صلاحياتهم القانونية او علاقاتهم ونفوذهم الاجتماعي والسياسي . ولذا وجب ايجاد نظام قانوني بديل لمعالجة هذه الظاهرة الإجرامية ومن الانظمة القانونية الفعالة قانون الكسب غير المشروع، فيما اذا احسن تطبيقه، وافضل جهة لتطبيقه هي الهيئة الرقابية المستقلة وقد صدر مثل هذا القانون في عدد من الدول ومنها العراق ،القانون رقم (15 ) لسنة1958المعدل النافذ ، ولكن إيكال امر تنفيذه للسطات التنفيذية في جزء منه ادى الى تعطيله من الناحية الواقعية .
وهذا النظام القانوني الحديث الذي تعتبر اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة لسنة 2003 جزءاً مهماً منه لا يقوم على اثبات الفساد بشكل مباشر، كشرط البحث عن دليل مادي ملموس عن الرشوة او الاختلاس وجرائم الفساد الاخرى حصراً، وانما ينقل الاثبات الى جملة وقائع متصلة تجعل من واقعة الفساد امرا مرجحا ، كما انه ينقل عبأ الاثبات من عاتق المدعي الى عاتق المدعى عليه ، خلافا للقاعدة العامة للاثبات ، التي تنص على ان البينة تقع على عاتق المدعي، لأن الأصل براءة الذمة ، وعلى هذا فأن القواعد القانونية الثابتة لم تقف عائقا امام الفكر القانوني الحديث وهو بصدد انقاذ الانسانية من مخاطر الفساد . ويتضمن هذا القانون الزام الموظفين بتقديم كشف عن مصالحهم المالية، بما يملكونه من عقارات ومنقولات وارصدة مالية واسهم وسندات وحقوق ، ومن ثم تتم مراقبة التطور المالي الحاصل للموظف سنويا لتحديد الزيادات المالية الطارئة غير المعقولة قياسا الى دخله السنوي المعتاد، مما يثير شبهة الفساد ومن ثم يخضع للتحقيق ، فأذا عجز عن اثبات مصدر مشروع لأمواله ، التي حصل عليها بعد توليه الوظيفة العامة، تجرى محاكمته وفقا لنصوص الكسب غير المشروع واخضاعه للعقوبات المقررة في هذا القانون .وقد اوصت اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد في المادة (20) بـ ( اعتماد ماقد يلزم من تدابير تشريعية وتدابير أخرى لتجريم تعمد موظف عمومي اثراء غير مشروع ، أي زيادة موجوداته زيادة كبيرة لا يستطيع تعليلها بصورة معقولة قياسا الى دخله المشروع . )
ومن الوسائل القانونية الحديثة ايضا ، التي تبنتها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد في الفقرة (2) من المادة (13) ، قبول الشكاوي المغفلة ، اي التي لايعرف اسم صاحبها ولا مصدرها، بعد ان كانت الشكاوي لا تقبل الااذا كانت مذيلة بأسم وتوقيع صاحبها ، والسبب في اعتماد هذا الخيار هو تعرض المخبرين عن الفساد وكذلك ضحاياه للتهديد والابتزاز او للتصفية من قبل مافيات الفساد في حالات كثيرة مما يتسبب في أحجامهم عن الاخبار عنها ، ولكن قبول الشكاوى المغفلة حسب وجهة نظرنا ينبغي ان يكون بحذر شديد ، وان لا تكون سبباً في تحريك الشكوى الجزائية الا بعد استكمال عملية جمع الادلة او القرائن ، لانها بخلاف ذلك ستكون محلاً واسعاً للشكاوى والاخبارات الكيدية ومن ثم الاطاحة بسمعة الاشراف من الموظفين.
وعلى النحو الواجب من الفهم لا يعني اعتماد الشكاوى المغفلة كدليل او قرينة ، وانما تؤخذ على سبيل الاستدلال على جغرافيا انتشار الفساد لتكون نقطة الانطلاق في المراقبة والتحقيق ، ليقول القضاء العادل كلمته في النهاية .
ومن الضروري ايضا، حماية ضحايا الفساد الذين يضطرون لمسايرة الفاسدين ودفع الرشاوي لانجاز معاملاتهم المشروعة، التي يعرقلها الفاسدين بغية اجبارهم على دفع الرشاوي ، وذلك بأعفائهم من العقوبة المقررة لجريمة الراشي اذا ماقاموا بأبلاغ السلطات المختصة مباشرة عنها ، اذ ان التعرض للعقاب هو السبب في احجام ضحايا الرشوة عن الابلاغ عنها وكذلك في صعوبة الكشف عنها ، وفي الاعفاء من العقوية مصلحة عامة ، اذ يساعد ذلك على الكشف عن عدد ضخم من وقائع الفساد ، وهكذا يمكن ان يكون ضحية الفساد اداة قوية وفعالة في مكافحة الفساد. وقد نصت المادة (311) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل على انه ( يعفى الراشي او الوسيط من العقوبة اذا بادر بابلاغ السلطات القضائية او الادارية بالجريمة او اعترف بها قبل اتصال المحكمة بالدعوى) ، ومن الضروري ان يكون الجهد الاعلامي للاجهزة الرقابية مبرزاً لمضمون هذه المادة. وعلى هذا النحو يمكن لمن اضطر الى دفع رشوة او كان وسيطاً بين الراشي والمرتشي ، ان يقوم بعد دفعها بابلاغ السلطات عنها بموجب شكوى او بلاغ للادارة بشكل اصولي ، واذا كان يعدمه الدليل فان تجمع عدد من الشكاوى ضد موظف معين من عدد من المشتكين يمكن ان يكون دليلاً ضده ، باعتبار ان المشتكي يعتبر شاهدا بحسب نصوص قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل ومن ذلك ما نصت عليه المادة (167) منه ، على انه ( تبدأ المحكمة بالمناداة على المتهم وباقي الخصوم ثم تدون هوية المتهم ويتلى قرار الاحالة وتسمع المحكمة شهادة المشتكي ..... )
ونلفت النظر في هذا المقام ان للقضاء السلطة التقديرية الواسعة في تقدير قيمة الشهادة من الناحية الشخصية والموضوعية .
ومن الافكار القانونية الحديثة التي تبنتها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد في المواد(21، 22) ايضا، تطبيق نصوص جريمتي الرشوة والأختلاس على وقائع الفساد في القطاع الخاص ، بدلا من قصرها على الوظيفة العامة والتكليف العام كما هو سائد في القوانين المقارنة ،وذلك بالنظر لتعاظم دور هذا القطاع في مجال الخدمات العامة من خلال عمليات الخصصة والتزام المرافق العامة التي تجري على نطاق واسع في كثير من الدول، مما يستدعي حماية المجتمع من فروض الفساد المتوقعة في هذا المجال .
ومن الضروري أيضا إلغاء نصوص العقوبات الجزائية المقررة في قانون العقوبات لجريمة القذف والسب وقصر ذلك على دعوى التعويض المدنية ، كما هو الامر في العديد من الدول الديمقراطية ، اذ ان تلويح الفاسدين باللجوء الى هذه النصوص العقابية غالبا ما يشكل مانعا من الابلاغ عن الفساد والفاسدين بسبب خشية المبلغين من العجز عن اثبات دعواهم امام القضاء ومن ثم يقعون تحت طائلة التجريم والعقاب.
ويمكن بتشريع تخصيص جوائز للمخبرين عن الفساد ، ووضع نظام عادل للحوافز يقوم على معايير موضوعية لا شخصية لمكافئة رجال الادارة المخلصين المتفانين في خدمة وطنهم .
يتضح مما تقدم ان الافكار القانونية الحديثة اضافت نهجا جديدا في مكافحة الفساد، يقوم على التوسع في الفروض القانونية وعلى الخروج على بعض المبادئ القانونية العامة المستقرة .
ثالثاً ـ استقلال القضاء :
ان وجود قضاء مستقل ونزيه وكفوء هو الشرط الاول لنجاح جهود مكافحة الفساد ، وفي العراق نظام دستوري وقانوني يكفل استقلالية وحيادية السلطة القضائية ويمنع التدخل في شؤونها . ويتمتع قضاة العراق بسمعة جيدة في الاوساط الرسمية والشعبية
وقد نص الستور العراقي على استقلال القضاء والقواعد التي تحكم عمله ومن تلك النصوص ما يلي :
المادة (14): العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الاصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي .
ولاشك في ان جهود هيئات الرقابة ستذهب سدى اذا كان القضاء لا يتمتع بالاستقلال اللازم او ان الفسدا قد امتد ليصل الى الهيئات القضائية او كان القاضي لا يتمتع بالكفاءة العلمية اللازمة لاداء واجباته . ولذا وجب ان تتم عملية اختيار القضاة ومعاونيهم من المحققين والكتبة والاداريين بعناية خاصة ، فكثيرا ما تحصل عمليات الفساد من خلال وسطاء من داخل الجهاز القضائي نفسه، اذ لايجرأ الناس عادة على عرض الرشوة على القضاة مباشرة . ونقصد بأستقلال القضاء استقلال القاضي بعمله واستقلال القضاء كمؤسسة ويتجسد ذلك في استقلال القضاء اداريا وماليا وفي سلطة اتخاذ القرار ، وأهم مظهر لاستقلال القضاء هو انشاء مجلس للقضاء يتولى ادارة شؤون العدالة وشؤون القضاة من حيث التعيين والنقل والعزل دون تدخل من السلطات الاخرى . ان استقلال القضاء عامل اساسي من عوامل مكافحة الفساد .
واذا كنا نتحدث عن استقلال القضاء، اواستقلال اي سطة عن الاخرى ، فأننا لانقصد الاستقلال المطلق ، فمثل هذا الاستقلال سيؤدي في النهاية الى انهيار الدولة وعجز مؤسسات الدولة عن اداء واجباتها بشكل طبيعي، اما الاستقلال النسبي فهو الذي يتيح امكانية الرقابة المتبادلة ، فالسلطة توقف السلطة كما يذهب مونتسكيو وهو اول فقيه دعا الى الفصل بين السلطات على ان تكون هناك رقابة متبادلة بينها منعا لتعسف اي سلطة من هذه السلطات في استعمال الصلاحيات المقررة لها،و يتيح الاستقلال النسبي صلاحيات قانونية لاي سلطة من السلطات تجاه السلطات الاخرى ، كسحب البرلمان الثقة من الحكومة او حل البرلمان من قبل الحكومة واعادة الانتخابات وصلاحية القضاء في الغاء القوانين الصادرة من السلطة التشريعية المخالفة للدستور وصلاحيته في الغاء القرارات الادارية المخالفة للدستور او للقانون . وكي لايتحول القضاء بدوره الى مؤسسة دكتاتورية تؤدي الى تخريب العملية السياسية ودون ان تراعي في احكامها، ولو كانت عادلة وموافقة للقانون، المصلحة العامة وطبيعة العلاقات الدولية ، فأن رقابة السلطة التنفيذية والتشريعية على سلطة القضاء تمثل صمام الامان لذلك ، ومن مظاهر هذه الرقابة اشتراك االسلطة التنفيذية والتشريعية في تعيين رئيس مجلس القضاء بعد ان يرشحه مجلس القضاء وكذلك الامر في حالة تعيين اعضاء المحكمة العليا ، وفي حق رئيس السلطة التنفيذية في اصدار العفو العام او الخاص وفي التوقيع على احكام العقوبات القصوى ، وفي استئذان وزير العدل بشان اتخاذ الاجراءات القضائية بالنسبة للجرائم ذات الطبيعة الدولية ، وغير ذلك من اساليب الرقابة المتبادلة .وجاء في الفقرة (1) من المادة (11) من اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد ( نظرا لأهمية استقلالية القضاء وماله من دور حاسم في مكافحة الفساد،تتخذ كل دولة طرف، وفقا للمباديء الاساسية لنظامها القانوني ودون مساس بأستقلالية القضاء، تدابير لتدعيم النزاهة ودرء فرص الفساد بين اعضاء الجهاز القضائي. ويجوز ان تشمل تلك التدابير قواعد بشأن سلوك أعضاء الجهاز القضائي . )
رابعاً- اعتماد نظم توظيف وقواعد ادارية ومحاسبية فعالة مانعة للفساد :
وينبغي اعتماد نظم توظيف وقواعد ادارية ومحاسبية فعالة مانعة للفساد ذلك ان الوظيفة العامة خدمة أجتماعية وواجب وطني تشرف كل من يقوم بها لأن خدمة ابناء الشعب ومساعدتهم على تحقيق امالهم وتطلعاتهم المشروعة شرف كبير لمن يقوم به وأمانة ثقيلة يجب ان تؤدى بكل حرص وتفان وأخلاص، وليس كل شخص قادر على اداء هذه المهمة بجدارة، ولذا ينبغي اعتماد نظم للتوظيف تقوم على اعتماد معايير موضوعية لاختيار الموظفين، مثل مستوى التأهيل العلمي ودرجة النجاح واجراء امتحان للمتقدمين لشغل الوظائف العامة لتحديد مستوى الكفاءة والجدارة وتقيم مستوى الاداء بعد التعيين ووضع برامج تعليمية وتدريبية دائمية للموظفين ليتمكنوا من الوفاء بمتطلبات الأداء الصحيح والمشرف والسليم للوظائف العامة . وينبغي ان توضع قواعد للسلوك المهني يتعهد الموظف بالالتزام بها . ومن عوامل الحد من الفساد ، ان تكون الرواتب التي يتقاضاها الموظفين منصفة ومجزية وتتناسب مع الوضع الاقتصادي للبلد. ومن الضروري ايضا تفعيل دور الرقابة المالية واعتماد معايير للمحاسبة ومراجعة الحسابات تعزز الشفافية والمساءلة في ادارة الاموال العامة ، وتعد العقود الدولية مناخا خصبا للفساد ، لما تعرضه الشركات الاجنبية من رشاوي ضخمة لأستقطاب العروض الوطنية ومن ثم ينبغي اعتماد معايير موضوعية لأرساء العقود ، واعتبار الفساد سببا من اسباب فسخ هذه العقود .
وينبغى على السلطة التنفيذية تعزيزاً لنزاهة الوظيفة العامة ان تراعي ما يلي:
1ـ يتم التعيين في الوظيفة العامة على اساس مبدأ مساواة المواطنين امام الوظيفة العامة، وفقاً للأليات الاتية:
أـ الاعلان عن الوظائف الشاغرة.
ب ـ اجراء امتحان الكفاءة.
ج ـ يفضل حملة الشهادات الجامعية الاولية والعليا على غيرهم عند التعيين، لتطوير الاداء العام وتشجيع التحصيل العلمي .
د ـ يتم التعيين في الوظيفة العامة على اساس حسن السيرة والسلوك.
2 ـ مراقبة اداء الموظف خلال فترة التجربة والجدية في تقييم ادائه ، وانهاء خدمته في حالة ثبوت عدم كفائته او عدم نزاهته ليحل محله من هو اقدر على خدمة الوطن .لانه ليس من مصلحة الوطن العليا بقاء غير الكفوء وغير النزيه في الوظيفة العامة بينما يبقى الكفوء والنزيه عاطلاً عن العمل.
3ـ التأكيد على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالنسبة للمناصب القيادية من خلال وضع شروط مناسبة لتولي المنصب العام.
4ـ من الاهمية تحديد واجبات واختصاصات كل موظف بشكل مكتوب وتقييمه على اساس معيار الانجاز الشهري او نصف السنوي او السنوي وحسب طبيعة العمل.وان يكون التقييم وفق سجل خاص بكل موظف ويسمى سجل السيرة الشخصية مستقل عن اضبارته الشخصية، يدون فيه التقييم ، الانجازات المهمة، البحوث ، ذكر المكافأت وكتب الشكر والعقوبات ، وغير ذلك من معلومات تبين مدى نزاهته واخلاصه بالعمل. ويعرض السجل بشكل دوري على المدير المباشر والمدير العام او بناءاَ على طلبهما.. او بناءاً على طلب الموظف وموافقة المدير العام.
خامساً ـ اعتماد برنامج الحكومة الالكترونية : اثبت نظام الحكومة الالكترونية فعاليته الاكيدة في الحد من العديد من جرائم الفساد الاداري والمالي بالنظر لانقطاع الصلة المباشرة بين الموظف المكلف بتقديم الخدمة والمواطن طالب الخدمة حيث يتم اجراء اغلب المعاملات وتقديم المستمسكات وتأكيد صحة صدورها ودفع الرسوم من خلال شبكة الانترنيت الخاصة بالبرنامج وخلال زمن قياسي ، فالمعاملة التي قد تستغرق في العادة من شهر الى شهرين يمكن ان تنجز خلال دقائق .
سادساً ـ دور منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام :
للمنظومة الثقافية والاعلامية ومنظمات المجتمع المدني ، دور جوهري في حماية النظام الديمقراطي وتعزيز قيمه وتقويمه وكشف حالات الفساد وتنمية ثقافة النزاهة ودعم سياسة مكافحة الفساد.
والأعلام ، بصوره المختلفة ، أداة قوية وفعالة من ادوات الرأي العام ويسهم ، في الدول الديمقراطية ، في فضح ظواهر الفساد، ويخشاه رجال الادارة ويستجيبون بسرعة لما يطرحه من قضايا تهم الرأي العام ،بل انه تسبب في سقوط حكومات منتخبة في حالات عديدة بعد ثبوت ماطرحه من قضايا الفساد ، وأذا كنا نتحدث عن دور الاعلام فأننا بالتأكيد نتحدث عن الاعلام النزيه الذي يسعى لتأكيد الحقيقة وحماية المجتمع وتقديم النصح للمسؤولين بغية تحسين الاداء العام، وأن كان محسوبا على جهات المعارضة السياسية .
ان دور منظمات المجتمع المدني في حياة المجتمع العراقي وخاصة في المرحلة الراهنة ، هو دور لا غنى عنه من اجل بناء منظومة الثقافة والقيم التي ينبغي ان تسود في المجتمع الديمقراطي ومن هذه القيم تنمية ثقافة النزاهة والشفافية في المجتمع ، وعلى هذا النحو فان دور هيئة النزاهة في مكافحة الفساد يتوافق ويلتقي في نقاط مشتركة عديدة مع اهداف منظمات المجتمع المدني وخاصة الجوانب التثقيفية والتربوية .
وقد ساهمت منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام في مختلف ارجاء المعمورة مساهمة فعالة في كشف العديد من حالات الفساد المحلية والدولية ، في وفي ضوء ذلك تعلق هيئتنا آمال كبيرة على التعاون مع منظمات المجتمع المدني ووسائل الاعلام من اجل تحقيق الاهداف المشتركة وتخليص المجتمع العراقي من افة الفساد.
وللمواطن الواعي دور حيوي في المساهمة في الكشف عن الفساد ، فهو ضحيته الأولى ، وعليه وعلى اطفاله تنعكس اثاره السلبية ،أذ يحرمه الفساد من التمتع بخيرات بلده ، ويضطره لدفع الرشاوي والتوسل الى الموظفين الفاسدين بهدف انجاز معاملاته المشروعة ، ولذا قيل ان الفساد يشكل اعتداءا على حقوق الانسان وعلى كرامته ، وللمساهمة في مكافحة الفساد، ينبغي اشراك قاعدة عريضة من المواطنين في الشؤون العامة وتنشيط دور مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية للمساهمة في تنمية ثقافة النزاهة بين الأجيال الحاضرة وأجيال المستقبل مما يجعل الفرد ينظر للنزاهة بمستوى النظر للشرف الشخصي ، يدافع عنها كما يدافع عن شرفه وحقوقه المادية والمعنوية ، من اجل بناء مستقبل افضل لنفسه ولأسرته.(3)



المبحث الثاني
في العلاقة بين الفساد والفقر
الفرع الاول : الفساد يصنع الفقر
قال تعالى ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ). (4)
الصلة بين الفساد والفقر مؤكدة تاريخياً وعلمياً ، فمن الناحية التاريخية كان فساد الطبقة الحاكمة والضرائب الثقيلة التي تفرضها على الشعب سبباً في الثورة الانكليزية ( 1690) والثورة الامريكية (1776) والثورة الفرنسية(1789) اللتان تكونت قاعدتهما من الفقراء والجياع وان قاد الاولى رجال الاقطاع والدين وقادت الثانية الطبقة البرجوازية الناشئة ،
ومن الناحية العلمية تعزز الدراسات المتلاحقة من ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي الدليل المتنامي على أن الفساد يعيق الجهود الدولية الرامية الى انتشال ملايين البشر من براثن الفقر والجهل والمرض لما يشكله من تهديد للتنمية الانسانية في مختلف عناصرها ولهذا وصف مدير البنك الدولي السابق جيمس وولفنسون الفساد بانه ( سرطان يقضي على اقتصاديات الدول(
ويذهب مؤشر مدركات الفساد لعام 2006. الى ان الفساد بجميع اشكاله المباشرة وغير المباشرة يساعد على زيادة حدة الفقر، خصوصا عندما يُسرق حق الفقراء وتساء إدارة الموارد العامة .وعلى نطاق أوسع،يمكن ان يؤدي الفساد الكبير في نهاية المطاف إلى جمود اقتصادي وزيادة التباينات الاقتصادية والاجتماعية مع الوقت، عندما تجتمع في آن معا التكاليف المرتفعة لتوفير خدمات عامة والقدرات المنخفضة لجمع ضرائب.
ويؤكد التقرير على وجود علاقة قوية بين الفساد والفقر في الدول التي تعتبر الأشد فقرا . ومن المؤكد ان الفساد ينجم عن سوء تخصيص الموارد وينزع لأن يكون أكثر شمولية حين يصل الامر الى ضياع الحق في الحصول على الفرص والحقوق بعدالة. وقالت رئيس منظمة الشفافية الدولية هوجيت لابيل بمناسبة صدور التقرير) على الرغم من مرور عقد من التقدم في وضع قوانين ولوائح لمكافحة الفساد لكن نتائج اليوم تبين أن هناك الكثير مما ينبغي عمله قبل أن نرى تحسنا ذو مغزى في حياة أفقر المواطنين في العالم )(5) .
وأكد تقرير منظمة الشفافية الدولية لسنة 2005، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر على حساب غالبية المواطنين، تؤثر بشكل كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي بحيث يمكن ان يستوعب 113 مليوناً من الأطفال اضافيين محرومين من فرص التعليم في العالم، ولولا الفساد لامكن تخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين، حيث يموت 11 مليوناً من الأطفال الصغار سنوياً.
ويقول رئيس المنظمة السابق ، بيتر ايجن، في عرضه لتقرير عن الفساد لعام 2005، ) يعد الفساد في المشاريع العامة الكبيرة الحجم، عقبة كبيرة أمام التنمية المستدامة، ويعد كارثة كبيرة على الدول المتطورة والنامية على حد سواء"، مضيفاً "أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان"، مؤكداً على ضرورة "المحافظة على الأموال والمعونات المخصصة لمشاريع إعادة البناء في بعض الدول، مثل العراق من خطر الفساد"، مضيفاً "يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول، وخصوصا في هذا الوقت الذي تقوم فيه الدول المانحة بضخ مبالغ هائلة من أجل إعادة البناء في الدول الآسيوية التي تضررت بفعل مد تسونامي).
ويقول ايجن، "إن الفضيحة التي تم الكشف عنها في برنامج "النفط مقابل الغذاء"، الخاص بالعراق، أظهرت الحاجة الملحة لوضع قوانين صارمة فيما يتعلق بتضارب المصالح، وأهمية الانفتاح في عملية المناقصات(6).
و تخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي (1000 بليون دولار أميركي) تدفع رشاوي كل عام . وأن هذا الرقم لا يتضمن اختلاس الأموال العامة أو سرقة الموجودات العامة. وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسّن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل ويمكنها أن تخفض وفيات اَلرُّضَّع فيها بنحو 75 في المائة. وان بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار ، يمكنه اذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الادارة العامة وسيادة القانون فيه ، ان يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه الى 8000 دولار امريكي على المدى الطويل (7) .
الفرع الثاني: آفــة الفقـــر
الفقر ظاهرة اقتصادية واجتماعية تاريخية موجودة في جميع المجتمعات ، وكانت ثورات الفقراء او الجياع عبر التاريخ عاملاً حاسما في تغيير وجهة التاريخ السياسي للبشرية .
وهي ظاهرة تناولتها الاديان السماوية بالاهتمام والرعاية ، وفي العصور الحديثة ادرك رجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع الاثار السلبية التي يمكن ان يخلفها الفقر على المجتمع ومسيرة التنمية فيه .
واهتمت الأمم المتحدة بموضوع الفقر واسبابه وطرق علاجه ، وفي هذا الاطار تم تصنيف الدول إلى دول غنية ودول فقيرة ، ووضعت مقاييس ومؤشرات للفقر في الدول ،وهكذا توسّع الاهتمام بظاهرة الفقر من المجال الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع من المجتمعات إلى مجال العلاقات الدولية. وتشير بعض الحوادث الى عمق المآسي التي يخلفها الفقر:
حادثة مدينة بوبال الهندية : فى بداية عقد السبعينات تسربت مادة كيماوية سامة من أحد مصانع شركة يونيون كاربيد العالمية في مدينة بوبال الهندية ،وتسبب الحادث في وفاة خمسة الاف شخص فى اليوم الاول للحادث بالإضافة الى اصابة مئات الآلاف من سكان المدينة فضلا عن الاضرار البيئية ،وعلى اثر ذلك قامت الشركة بإغلاق مصنعها الذي تسبب في تلك الكارثة ،وقد هزت تلك الكارثة ضمير البشرية جمعاء . الا أن الغريب فى الامر أن أهل مدينة بوبال ورغم ما حل بابنائهم واعزائهم من موت وعوق مارسوا ضغوطا قوية على الحكومة الهندية لاعادة تشغيل المصنع ثانية .. وعلى اثر تلك الضغوط اعلنت أنديرا غاندى رئيسة الوزراء فى ذلك الوقت من خلال خطاب عام لها , انه نظرا لحاجة الناس الى العمل فى ظل بطالة ظالمة , وانه على الرغم من ان مصنع بوبال ملوث للبيئة وتسبب في مقتل واصابة الالاف من ابنائنا، الا انه يجب اعادة فتحه ،واستدركت قائلة ( ان الفقر هو أخطر ملوث للبيئة ).(8)
وهكذا وافقت هذه الزعيمة الوطنية الخالدة مرغمة على اعادة تشغيل المصنع رغم مخاطره الجمة لكي يتمكن الفقراء من ايجاد قوت يومهم.
الفرع الثالث: صور من علاقة الفساد بالفقر
ـ في الوقت الذي كان الحصار الاقتصادي يشد الخناق على الشعب العراقي منذ تسعينيات القرن الماضي ومتسبباً في المرض والفقر وتدهور البنى التحتية ونقص الخدمات وانتشار الجهل والجريمة بشكل خطير ، كانت عائدات برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء محل سلب ونهب من افراد الطبقة الحاكمة فضلا عن تورط جهات دولية عديدة منها موظفين على مستوى عال في هيئة الامم المتحدة في اعمال السلب والنهب تلك ، فيما عرف بفضيحة كوبونات النفط.
ـ هربَ الرئيس الزائيري السابق موبوتو سيسي سيكو مبلغ ( 5 ) مليار دولار الى خارج بلاده في الفترة ( 1965 ـ 1997 ) ، وهذا المبلغ الضخم كان من الممكن ان يرفع من مستوى الصحة والتعليم والاستثمار في بلد فقير يعاني اهله من الجوع والفقر الدائم .
ـ جمع شقيق كارلوس ساليناس الرئيس السابق للمكسيك مبلغ (120) مليون دولار من عمليات فساد .
ومثل هذا المبلغ يمكن ان يوفر الالاف من المساكن اللائقة لمن يعيشون في ما يعرف بمدن الصفيح ، فضلا عن المدارس والمراكز الصحية .
ـ يكلف الفساد الاقتصاد الأفريقي ( 148 ) بليون دولار سنويا ، أي ما يعادل 25 % من الدخل القومي لافريقيا ، مما يسبب ارتفاعا في الاسعار بمعدل (20 % ) .
ـ هناك ترليون دولار تفقد كل عام من الاموال المرصودة لتنمية المجتمعات . (9)

المبحث الثالث
ماهية الفقر ومقياسه
الفرع الاول: ماهية الفقر
يشمل مفهوم الفقر في الفكر الحديث اضافة الى الفقر المادي او اللامساواة الاقتصادية ، فقر التنمية الانسانية الذي يعني الحرمان واللامساواة في القدرات والفرص، فانعدام الرعاية الصحية اوتدني مستواها وقصر العمر، وضعف المستوى التعليمي او حتى فقدانه وتفشي الامية ،والعيش في مجمعات سكنية او عشوائيات تفتقر الى ابسط انواع الخدمات وغياب او ضعف شبكات الحماية الاجتماعية والاستنزاف العشوائي للموارد البيئية ، كل ذلك يعد فقراً وحرماناً واسباباً للفقر وللحرمان في ان واحد.
واذا اعتمدنا معايير التنمية الانسانية التي تعتمد مؤشر الفقر الانساني، الذي يعرف الحرمان بقصر الاعمار ونقص التعليم وغلبة الامية ونقص الخدمات الاساسية والحرمان واللامساوة في القدرات والفرص ، هو الاكثر استشراءاً من فقر الدخل في العراق.
واذا كان الفقر المادي ونقص الدخل يشكل عبأً على الاقتصاد ،فأن فقر التنمية الانسانية هو الاشد وطأة على الاقتصاد والنمو الاقتصادي والتنمية الانسانية كونه يحد من قدرات الناس والبلدان على الاستخدام الافضل لمواردهم الانسانية والمادية. (10) وعلى هذا النحو يمكن تعريف الدولة الفقيرة بأنها تلك الدولة التي تكون قدرتها على توفير الغذاء والماء الصالح للشرب والتعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة لاعضاء المجتمع منخفضة،فضلا عن استنزافها المستمر لمواردها الطبيعية.
وحسب تقرير التنمية 2000/ 2001 يتمثل الفقر الى حد كبير في انعدام الفرص بسبب عدم كفاية التعليم والتغذية، وضعف الحالة الصحية، وقصور التدريب او بسبب عدم القدرة على العثور على عمل يجزي القدرات الموجودة لدى الشخص الجزاء الاوفى. كما ان الفقر يتمثل ايضا في الضعف (بسبب عدم كفاية الاصول) امام الصدمات الاقتصادية المفاجئة الواسعة المدى، او حتى الصدمات الفردية كأن يفقد العامل البسيط قدرته على كسب قوت يومه كذلك، يعتبر الفقر انعدام القدرة على تغيير القوى الاقتصادية والاجتماعية التي تعمل على استمرار حالة الضعف امام الصدمات. ولايزال انخفاض الدخل او الانفاق، يرتبط في الغالب ارتباطا وثيقا بهذه الخصائص، ومن ثم فهو يعتبر معيارا سليما لتحديد طبيعة الفقر ومداه . . وتركز الورقة على ان الفقر يمكن تعريفه بوصفه حالة من الحرمان من المزايا او الركائز الاقتصادية والاجتماعية والبشرية وتشمل الاصول الاقتصادية والمادية الارض والماشية والسكن والمهارات والصحة الجيدة والعمل وغيرها من العناصر المادية التي توفر قاعدة لتوليد الدخل والانتاج سواء في الحاضر او في المستقبل اما الركائز البشرية فتشمل المهارات والمواهب. وعليه فان قدرة الافراد على مكافحة الفقر يمكن ان تزاد عن طريق التعليم والتدريب اللذين يتيحان المزيد من الفرص.
والفقر من الناحية الاجتماعية يعتبر شكلا من أشكال الإقصاء والتهميش يمسّ بكرامة الإنسان، ومن ثمّ فهو انتهاك لحق جوهري من حقوق الإنسان ينجرّ عنه انتهاك لعديد الحقوق المتفرعة، منها الحق في العمل والدخل المناسب والعيش الكريم والضمان الاجتماعي والصحة، الخ. وهي حقوق اقتصادية واجتماعية أساسية، ويذهب نلسون مانديلا ان الفقر هو "الوجه الحديث للعبودية"(11).
الفرع الثاني: مقاييـس الفقـر
قدم تقرير التنمية البشرية الصادر عام 1997م عن برنامج الامم المتحدة مقياسأً لايركز فقط على فقر الدخول ولكن ايضا على الفقر بوصفه احد وجوه الحرمان من الخيارات الفرص في العيش حياة محتملة ومقبولة ويعد مؤشر الفقر البشري مؤشرا مجمعا لثلاثة مؤشرات اساسية للحرمان هي : مؤشر للحرمان من حياة طويلة بصحة جيدة وهو يتمثل في نسبة الافراد ال Opinions