Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الوعي الاستراتيجي لإدارة الحكم في العراق

د. خالد عليوي العرداوي/
المقدمة
في كتابه القيم (كيف تفكر استراتيجيا) يقول عبد الرحمن توفيق: (لان التفكير الاستراتيجي الحقيقي يحدد الاتجاه لجميع الطاقات البشرية، فالعقل يقوم بقيادة الميدان الرئيسي وفي هذه الحالة يمكن بمقارنة الظروف السائدة في العالم الخارجي أن تكتسب أفعالك في عالمك الداخلي السرعة والجدوى الاقتصادية والتعرض لأقل قدر ممكن من المخاطر لأنه في ظل تلك الظروف يصبح الكيف أكثر أهمية من الكم لأنه هو الذي سيحدد لك ما لا يجب عليك أن تفعله انه يجعلك ترفض الكثير جدا من الاحتمالات كما سيكون اختيارك أكثر دقة مما هو عليه الآن).

ويبرر الكاتب أهمية كلامه هذا بقوله: (فان المسئولين عن وضع الإستراتيجية لأي نشاط عليهم التوصل إلى التوجيه الصحيح وإلا فان جميع مجهوداتهم في هذا المضمار لن تكون سوى سرعة متزايدة في الاندفاع إلى الاتجاه الخاطئ لان معيار النجاح هنا يتوقف على نوعية التفكير الذي سيحدد بالتالي النجاح أو الإخفاق..).

إن ما تقدم من كلام يشكل مقدمة مهمة يجب وضعها في الحسبان من قبل المسئولين عن صناعة القرار في العراق لإدارة الحكم في هذا البلد، قبل فوات الأوان واكتشاف أن أفعالهم لم تكن أكثر من مجرد اندفاع متزايد في الاتجاه الخاطئ، فمثل هكذا خطأ لا يمكن احتماله في وقت تشهد المنطقة والعالم مرحلة تحول تاريخي استراتيجي بالغ الدقة والحساسية يحتاج لوقفات تأملية يشترك فيها صناع القرار، والمسئولون عن وضع الاستراتيجيات، والأكاديميون، والخبراء، والمستشارون على مختلف المستويات من خلال ندوات ومؤتمرات وورش عمل وبحوث وتقارير ودراسات.. تقام لتحليل البيئة الخارجية والبيئة الداخلية للعراق من اجل وضع رؤية إستراتيجية مناسبة تبنى على ضوئها السياسات الداخلية والخارجية، لذا يأتي بحث (الوعي الاستراتيجي لإدارة الحكم في العراق) ليشكل جهدا متواضعا في طريق وضع هكذا رؤية إستراتيجية.

ولكن قبل تحديد مسار هذه الرؤية لا بد من تحرير عقول الساسة العراقيين من بعض الأخطاء غير المناسبة وتحديد المنطلقات الصحيحة التي يجب عليهم تبنيها ليكونوا مؤهلين لحكم بلدهم في هذه المرحلة قبل الاندفاع وراء مسارات خاطئة غير محسوبة العواقب.

منطلقات إدارة الحكم في العراق

نقصد بالمنطلقات تلك المقدمات الضرورية اللازمة لضمان توجيه ساسة البلد بوصلة الحكم باتجاه صحيح يكفل عدم انحراف العملية السياسية عن مسارها السليم من جهة، ومن جهة أخرى يمنع إصابتها بالتخبط والشلل وعدم الوضوح، وتختلف هذه المنطلقات بالنسبة للساسة حسب المكون الاجتماعي الذي ينتمون إليه وكما مبين فيما يلي:

بالنسبة للساسة الشيعة:

إن المنطلقات الأساس التي يجب التركيز عليها من قبل الساسة الشيعة تتمحور حول ما يلي:

أولا: التحرر من معاناة عقدة المظلومية السياسية:-

لا شك أن الشيعة كطائفة عانوا عبر تاريخهم الطويل من ظلم كبير ترتب عليه تهميشهم وإقصائهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم السياسية وغالبا ما كانت أنظمة الحكم الظالمة لحقهم إما تحكم بفكر طائفي مغاير (الحكم الأموي، الحكم العباسي، الحكم العثماني نموذجا)، وإما بفكر استبدادي منطلق من مرجعية فكرية تاريخية معادية أو مرجعية فكرية دكتاتورية مستوردة (حكم صدام حسين نموذجا)، واما بالاثنين معا. وكان الخطاب السياسي لهذه الأنظمة خطابا اقصائيا صريحا ينكر بشكل سافر حق الشيعة في الحكم، بل وأحيانا حقهم في حمل جنسية العراق وطمس أصولهم القومية، ولم يكن هكذا خطاب يهدف لبناء الدولة المدنية المتسعة لجميع مواطنيها والتي تتكفل بحماية حقوقهم وحرياتهم وتمنع الاعتداء عليها، وإزاء هكذا واقع من حق أبناء الطائفة الشيعية المناداة بشعار رفع المظلومية عنهم واسترداد حقوقهم المسلوبة والمنتهكة. لكن بعد التغيير السياسي الذي حصل في 9/4 / 2003 وما أسفر عنه من رفع لكثير من مظاهر الحيف التي عانى منها الشيعة ودخولهم كشركاء أساسيين في العملية السياسية التي تتمحور خطاباتها السياسية على ترسيخ المنهج الديمقراطي في الحكم وبناء دولة القانون والمؤسسات واتساع الحكم لكل مكونات الشعب وفئاته، أصبح من غير الممكن الاستمرار برفع شعار المظلومية من قبل النخب الشيعية الحاكمة لعدة أسباب منها:

- أن الاستمرار بطرح هذا الشعار من شأنه رفع درجة الاحتقان العاطفي بين أبناء الطائفة الشيعية وغيرهم من الطوائف، مما قد يدفع إلى تنامي الفكر والإيديولوجيات المتطرفة في التعامل السياسي بين مكونات الشعب الواحد في وقت يتطلب وضع البلد تعاون الجميع من اجل تخفيف درجة الاحتقان السياسي وترسيخ منظومة الفكر المتسامح والمعتدل.

- إن النخب الشيعية المشاركة في الحكم لا تمثل طائفتها لوحدها في ممارسة عملها السياسي بل تمثل الشعب العراقي بكل مكوناته، وهذا الأمر يتطلب ابتعاد خطابها السياسي عن، معاناة تشنجات الماضي والانفتاح بدرجة مناسبة تجعلهم رجال دولة أكفاء في تمثيل الشعب.

- إن العيش في الأجواء الفكرية للمظلومية السياسية سيجعل الساسة الشيعة يتصرفون كرجال معارضة أكثر منهم رجال دولة، ولن يشاركوا بشكل فاعل في العملية السياسية.

ثانيا: عدم الارتماء بأحضان السياسة الإيرانية:-

تشكل إيران بامتدادها الجغرافي الطويل وموروثها الثقافي والتاريخي المتميز لاعبا استراتيجيا مؤثرا في الداخل العراقي، لكن الشيعة في العالم العربي عموما وشيعة العراق على وجه خاص غالبا ما كانوا متهمين بكونهم ذراع للسياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط ووجود هكذا تصور يتطلب من الساسة الشيعة في العراق بذل جهد كبير من اجل تكذيبه ومنع وقوعهم في أحضان السياسة الإيرانية في المنطقة لأسباب عدة منها:

- تأكيد استقلاليتهم عن السياسة الإيرانية وتمثيلهم لمصالح شعبهم وبلدهم وجعلها فوق كل اعتبار آخر.

- أن إيران تشكل لاعبا استراتيجيا مؤثرا في منطقة الشرق الأوسط وبحكم دورها هذا وطموحاتها السياسية لديها صراعاتها الإقليمية والدولية الخاصة بها وليس من مصلحة العراق أن يكون جزء من هذه الصراعات.

- يمثل العراق بعد 9/4/2003 دولة ديمقراطية ناشئة تعاني كثيرا من مظاهر الضعف والوهن وأي اندفاع سياسي له في هذه المرحلة إلى جانب أي من الأطراف الإقليمية سيكون على حساب مصلحته الإستراتيجية لان هذه الأطراف لن تنظر له إلا بعين الجار الضعيف الذي يمكن أن يكون امتدادا طبيعيا لمجالها الحيوي ولن تشذ عن هذه القاعدة إيران.

- إن النظام السياسي في إيران يختلف كليا عن النظام السياسي في العراق مما يعني أن الخطاب السياسي لكلا البلدين سيكون مختلف تماما في طبيعة التحديات وإدارة الصراعات وبناء التحالفات وهذا الأمر يجب أخذه بالحسبان من شيعة السلطة في العراق.

ثالثا: الفهم الصحيح لمعنى الأغلبية في الحكم الديمقراطي:-

تقوم الديمقراطية الحقيقية على أساس الأغلبية الناتجة عن تنافس سياسي نزيه من خلال انتخابات حرة وعادلة، ونحن في العراق لا زلنا في بداية الطريق نحو هكذا ديمقراطية وهو طريق يتحدد مداه الزمني ببراعة القائمين على الحكم ومقدار رغبتهم في بناء دولة مدنية صحيحة، وعدم وجود مثل هذه الديمقراطية، بل وعدم وجود الوعي الشعبي والنخبوي الدافع باتجاهها هو ما جعل العملية السياسية تتمحور منذ عام 2003 ولحد الآن على ما يسمى بالديمقراطية التوافقية والتي غالبا ما فشلت النخب السياسية في اللعب وفقا لقواعدها وأحكامها.

إن الإخفاق والسير المتعرج باتجاه بناء الديمقراطية الحقيقية ينبغي أن لا يؤثر على تصور الساسة الشيعة للمفهوم الحقيقي والصحيح للأغلبية في الحكم الديمقراطي، فهذه الأغلبية لا تعني أغلبية الشيعة -وهي أغلبية اجتماعية لا غبار عليها- لان هكذا فهم سوف يدفع إلى مزيد من النفور والرفض للديمقراطية من بقية مكونات الشعب العراقي وسيشجع المتصدين للحكم من الشيعة على تكرار نفس الأخطاء التي ارتكبها حكام العراق السابقون عند إقصائهم وتهميشهم للمكون الشيعي، وسيفتح الباب مشرعا مستقبلا أمام دكتاتورية في الحكم منطقها استبدادية الأكثرية الشيعية. إن هذه الحقائق تستدعي الحذر عند طرح شعار الأغلبية التي يجب فهمها بكونها الأغلبية السياسية لا الأغلبية الطائفية وهي الأغلبية التي تبنى عليها الديمقراطيات الراسخة الراغبة في الاستمرار.

بالنسبة للساسة السنة العرب:

ليكون الساسة السنة العرب مؤهلين للحكم والعمل مع غيرهم من ساسة العراق في رسم المسار الاستراتيجي الصحيح للحكم عليهم الأخذ بالمنطلقات الآتية:

أولا: ترك الاعتقاد بعودة عقارب الساعة إلى الوراء:-

ونقصد بهذا الاعتقاد عدم استيعاب الساسة السنة العرب للتغيير السياسي الذي تم بعد 9/4/2003، فالجميع يعلم أن المعادلة السياسية قبل هذا التاريخ كانت تميل لصالحهم بشكل مجحف على حساب العرب الشيعة والكرد وغيرهم من مكونات الشعب العراقي، مع اتصاف أنظمة الحكم التي مثلتهم بطابع استبدادي مسرف جلب الخراب والدمار إلى البنى السياسية والاجتماعية والاقتصادية للبلد، ولم يسلم من هذا الضرر حتى أبناء المكون السني العرب أنفسهم. لقد سقطت هذه المعادلة السياسية بسقوط نظام صدام حسين ولن تعود مرة أخرى، وعلى قادة المكون السني العرب إدراك هذا الواقع والإيمان بالتغيير والعمل وفقا للحقائق الجديدة لأسباب عدة منها:

- أن توقع عودة الأمور إلى ما كانت عليه سابقا أمر يخالف المنطق، فجميع مكونات الشعب العراقي الأخرى متمسكة بعناد بخيار المشاركة في السلطة وترفض تهميشها وإنكار وجودها مرة أخرى من أي طرف.

- من شأن الاعتقاد بعودة عقارب الساعة إلى الوراء أن يؤدي إلى إضعاف الفاعلية القيادية للساسة السنة العرب من جانب، ومن جانب آخر سوف يوسع الفجوة الموجودة فعلا بينهم وبين شركائهم من المكونات الأخرى، وهذا الأمر ليس في مصلحة البلد.

- إن اعتماد هكذا أسلوب تفكير سوف يدفع معتنقه إلى إنكار الواقع السياسي الجديد القائم في العراق، وعرقلة مسيرة العملية السياسية، وترويج العقلية التآمرية في السلوك السياسي للنخب الحاكمة.

- كما سيقود هكذا خطا سياسي إلى تأزم العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، وتحطيم جسور الثقة بينها، ومنع تعزيز التعايش السلمي والحوار المتبادل.

ثانيا:- عدم الارتماء بأحضان السياسة العربية:-

يشكل العراق امتدادا طبيعيا وثقافيا وحضاريا وبشريا لمحيطه العربي، وهو من الدول المؤسسة للجامعة العربية، ومن أكثر الدول العربية المؤثرة في الشرق الأوسط. إن هذه الحقائق لا يمكن إنكارها وتجاوزها أبدا، لكن يجب أن لا تجعل الساسة السنة العرب ينساقون كثيرا وراء السياسة العربية على حساب المصلحة الوطنية العراقية أو تحت ذريعة استجلاب الدور السياسي العربي لدعم هذا الطرف أو ذاك، وذلك بسبب ما يلي:

- إن السياسة العربية غير مأمونة الجانب فهي لا تتمتع باستقلالية المبادرة والقرار وغالبا ما تكون عرضة لمؤثرات دولية تجعلها تتبدل بتبدل هذه المؤثرات ولو على حساب الأشقاء أو الحلفاء.

- لا توجد سياسة عربية واحدة وان كانت تضم العرب جامعة واحدة، بل توجد سياسات عربية مختلفة ومتصارعة تقسم العالم العربي إلى محاور واستقطابات عدة لكل منها أهدافها وتحالفاتها الإقليمية والدولية الخاصة وليس من مصلحة العراق أن يكون جزءا من هذه المحاور والاستقطابات.

- إن تجربة العراق التاريخية مع السياسة العربية لم تكن جيدة وجرت عليه الكثير من المشاكل، بل وورطته في أخطاء إستراتيجية لا تغتفر.

- ستنظر السياسة العربية بمحاورها واستقطاباتها المتنافرة إلى العراق على انه ساحة صراع لتصفية خصوماتها على أرضه وتحقيق مكاسب على حساب شعبه وأمنه واستقراره.

- جميع الدول العربية المحيطة بالعراق تعرف انه رقم صعب ولاعب فاعل لا يمكن إغفاله وإنكاره، وتجد في ظروف وهنه وضعفه بعد إخراجه من الكويت عام 1991 ومن ثم احتلاله من قبل الولايات المتحدة عام 2003 وما تلا هذا التاريخ من أحداث مؤسفة فرصة مناسبة لا بعاده عن دوره الريادي من خلال إغراقه في مشاكل وأزمات داخلية وخارجية لا تنتهي، لذا لن يكون تدخلها لمصلحة طرف عراقي ما إلا من اجل تحقيق هذا الهدف غير المعلن.

- أخيرا تمر الدول العربية في الوقت الحاضر بتحولات سياسية خطيرة بين اندفاعات شعبية غاضبة، وأنظمة سياسية مغضوب عليها، وقوى اجتماعية صاعدة نواياها لا زالت غير معروفة، ومثل هذه التحولات السياسية والمجتمعية تقتضي من صانع القرار العراقي عموما وصانع القرار السني العربي بشكل خاص أن يتصف بدرجة عالية من الحكمة والتأني في رسم صورة المستقبل القريب والبعيد لتبني المواقف الصحيحة المناسبة له.

بالنسبة للساسة الكرد:

الساسة الكرد شانهم شان الساسة الشيعة والسنة العرب لديهم منطلقات إستراتيجية لا بد من احترامها إذا أرادوا النجاح في بناء دولة عراقية يعملون كشركاء فاعلين فيها هي: -

أولا: ترك الاندفاع السياسي وراء حلم كردستان الكبرى:-

كثيرا ما جرى الحديث في الأدبيات الكردية السياسية ومنذ نشوء الدولة العراقية الحديثة وحتى الوقت الحاضر عن حلم إقامة دولة كردستان الكبرى التي تمتد قوميا لتضم كل الأكراد في العراق والدول المجاورة، والحديث عن هذا الحلم هو حق قومي لهم لا يمكن لومهم عليه، كما كان ولا زال للعرب حلمهم القومي في قيام دولة عربية واحدة تشمل كل العرب في آسيا وشمال أفريقيا، لكن يجب أن لا يتجاوز الأمر حد الحلم والأمنيات إلى الادلجة السياسية في إطار مشروع سياسي، وذلك للأسباب أدناه:

- إن عصر الاندفاعات القومية قد ولى زمنه ودخل العالم منذ وقت طويل إلى عصر احترام واقع الدول كما هو عليه الآن، وليس من مصلحة الكرد في العراق العمل خارج إطار المتغيرات القائمة في الوضع الدولي والإقليمي القائــم.

- سوف يستجلب العمل السياسي في إطار هذا الموضوع نقمة وعداوة الدول الإقليمية التي فيها أقليات من القومية الكردية مما قد يزعزع الأمن والاستقرار في العراق بشكل عام وفي إقليم كردستان على وجه الخصوص، وخسارة جميع المكاسب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حققها أكراد العراق بعد وقت طويل من النضال والتضحيات.

- سينمي الاندفاع السياسي وراء هذا المشروع الأفكار العنيفة والمتطرفة في الشارع السياسي الكردي من قبل قوميين كرد متطرفين يعميهم الجري وراء المشروع القومي عن حقائق الواقع الوطني والإقليمي وسيلحقون الأذى بأنفسهم وشركائهم في الوطن كما أعمت هذه الاندفاعات القومية من قبل إخوانهم من القوميين العرب.

- لا شك أن الإيمان السياسي بالوطن القومي الكردي سيقطع الصلة بين الكرد وغيرهم من مكونات الشعب العراقي، لأنهم لن يشعروا بالانتماء إلى هذا البلد، بل سوف يشعرون أن وجودهم في إطاره وجودا مؤقتا وغير دائم مما سينعكس على فاعلية دورهم في بناءه، وترسيخ عدم ثقة بقية المكونات بهم، وهكذا وضع سيترك نتائج لا تحمد عقباها على الجميع.

ثانيا: ترك التفكير بإمكانية الانفصال السياسي عن العراق:-

ربما يعتقد بعض الساسة الكرد أنهم ليسوا في إطار التفكير في إقامة وطن قومي لهم يحقق حلم كردستان الكبرى، ولكنهم قد يفكرون جديا بالانفصال السياسي عن العراق وإقامة دولة مستقلة في حدود إقليم كردستان الإدارية، مستفيدين من العلاقات الجيدة مع عدد من الدول الكبرى، ومن إغراءات ووعود دول إقليمية معينة، وراغبين بالنأي بأنفسهم عن المشاكل والأزمات السياسية التي عانى ولا زال منها النظام السياسي في العراق.

لكن هذا التفكير سيكون خاطئا تماما وغير محسوب النتائج بدقة من معتنقيه على الرغم من السيناريو الايجابي الذي سيقدمونه به للرأي العام الكردي وذلك للحقائق الآتية:

- إن النص الدستوري الذي اشتركوا في إعداده عام 2005، وواقع الأمور في الدول الفدرالية التي أصبح العراق واحدا منها لا يسمح لهم بمجرد التفكير بالانفصال عن العراق، وخرق هذه الحقائق لن يجر إلا الدمار والخراب والألم على الجميع، ولعل الحرب الأهلية الأمريكية 1863-1865 خير مثال على ذلك.

- سيواجه الكرد في حال إعلانهم الانفصال تدخلا سافرا ونقمة عارمة من كل من إيران وتركيا وسوريا وهي دول لديها أقليات كردية ولا تريد أن يكون أكراد العراق نموذجا لهم في المطالبة بالانفصال، ولا يتوقع الكرد أن تتغير قناعات هذه الدول على الرغم من العلاقات الجيدة معها، لان القضية قضية امن قومي على أعلى درجات الخطورة.

- إذا عمل الكرد مع شركائهم الآخرين في الحكم وهم يحملون التفكير بعقلية الانفصال من شأن ذلك أن يهز ثقة شركائهم بهم مما سيقود إلى حالة من التوتر والتأزم في العلاقة بين الجانبين.

- سيؤثر هكذا نمط من التفكير على مستوى الولاء والانتماء الذي يحمله معتنقه للعراق، إذ سيفقد حبه وانتماؤه ورغبته في العمل كشريك فاعـــــــل في بناء البلــد.

- لا يستبعد أن يندفع بعض المعتنقين لهذا التفكير إلى أسلوب متطرف وعنيف من السلوك السياسي يضر به نفسه أولا وأبناء وطنه الآخرين ثانيا.

- يجب أن لا يطمئن الساسة الكرد إلى وعود بعض الإطراف الدولية والإقليمية للاندفاع وراء هكذا توجه، فهذه الإطراف لديها صراعاتها وتحدياتها وتحالفاتها في المنطقة ولا تستطيع عند نقطة معينة أن تضحي بمصالحها الخاصة لحساب مصلحة الكرد في العراق.

ثالثا: التحرر من معاناة عقدة المظلومية السياسية:-

لا شك أن الكرد في العراق تعرضوا إلى كثير من الظلم والإقصاء والتهميش من قبل أنظمة الحكم التي قامت في بغداد قبل عام 2003، شأنهم شأن مواطنيهم الشيعة العرب، وهذا الأمر شكل صدمات اجتماعية وسياسية تركت تأثيرها على العقل الجمعي والفردي والوضع النفسي لهم. لكن الوضع تغير بعد 9/4/2003 واستعادوا كثيرا من حقوقهم، وأصبحوا شركاء رئيسيين في حكم البلد، وعليهم الآن التحرر من عقدة المظلومية السياسية ووضع البرامج المناسبة لمعالجة الآثار الاجتماعية والسياسية التي تركتها عليهم معاناتهم في العهود السابقة، والاندفاع باتجاه تكييف وجودهم في إطار مجتمع عراقي معافى من العقد والأزمات السابقة، أما إذا لم يتحرروا من الشعور بعقدة المظلومية السياسية، فستكون لذلك انعكاسات سلبية عليهم تماثل تلك الانعكاسات التي ذكرناها آنفا عند دعوتنا الساسة الشيعة إلى التحرر من عقدة المظلومية السياسية، لذا نكتفي بما قلناه هناك ولا حاجة إلى تكرار ذكره هنا مرة أخرى.

الهدف من الحكم في العراق

بعد أن تحددت في الفقرات السابقة المنطلقات المهمة التي لا بد أن يؤمن بها الساسة في العراق لإدارة الحكم في بلدهم بصورة صحيحة ومأمونة واختيار المسار الذي يتقدمون عليه بخطوات ثابتة، لا بد الآن من توضيح الهدف الاستراتيجي النهائي الذي يجب أن يقودهم إليه المسار الذي اختاروه، فبدون تحديد هذا الهدف لن تكون إدارتهم للحكم إلا عبثا عديم الجدوى وسلوكا سياسيا يثير الاشمئزاز والحنق. وحتى لا يقعوا في هذا الخطأ القاتل أو يتورطوا باختيار هدف غير صحيح يلحق الأذى والدمار بشعبهم، عليهم التركيز على هدف واضح، وغير مثالي، ويمكن الركون إليه، ألا وهو بناء دولة مدنية عراقية تتسع لكل أطياف ومكونات الشعب العراقي أساسها رابطة المواطنة والأخوة في الوطن، تكفل للجميع الرفاه الاقتصادي والعيش الكريم والحقوق والحريات في الداخل، والاحترام والكرامة في الخارج، ويكون نظام الحكم فيها مستجيبا لرغبات وتوقعات وتطلعات المحكومين.

آليات الوصول إلى هذا الهدف

عند تحديد ساسة العراق لمنطلقات عملهم السياسي الصحيحة والهدف الاستراتيجي الذي ستؤول إليه إدارتهم للحكم، بقي عليهم أن يختاروا الآليات المناسبة التي تمكنهم من تحقيق هذا الهدف، وهذه الآليات يمكن ترتيبها حسب الأهمية بالشكل الآتي:

أولا: اعتماد البعد الأخلاقي للسياسة

ينظر المهتمون بالسياسة إليها من منظارين مختلفين: الأول يعدها فن الحيلة والخداع والمكر للهيمنة والاستيلاء على السلطة من قبل فرد أو جماعة ما وفقا للمبادئ الميكافيلية التي محورها الغاية تبرر الوسيلة، فتصبح الأخلاق والقيم وحياة الناس ومصالحهم وحقوقهم ومستقبلهم أدوات يتلاعب بها السياسي للوصول إلى غايته ولا تكون المقياس على نجاحه وأهليته. أما المنظار الآخر فيفهم السياسة على أنها علم وفن إدارة الدولة هدفها النهائي خدمة الناس وتحقيق مصالحهم وضمان حقوقهم وحرياتهم، وهكذا فهم للسياسة ينسجم مع تعريفها الإسلامي الذي يقول: السياسة هي تدبير شؤون الأمة ورعاية مصالحها بما يصلحها، فالإصلاح بين الناس من خلال الحكم يمثل بوصلة عمل السياسي ومقياس نجاحه في دوره المناط به، ولخطورة تأثير السياسة في حياة المجتمعات عدها الأقدمون تاج العلوم.

وقد عانى العراقيون على مر تاريخهم من سياسيين يفهمون ويمارسون السياسة بمنظارها الأول، ونتائج أعمالهم معروفة للجميع، فإذا أراد ساسة العراق بعد عام 2003 على اختلاف مشاربهم تحقيق هدف بناء الدولة المدنية الحقيقية، فأن عليهم الأخذ بالمنظار الثاني للسياسة، لأنه يشكل المعيار الأخلاقي الضابط لعملهم والمحفز على البناء والتقدم.

ثانيا: العدل السياسي والعدالة الاجتماعية

لا يمكن قيام نظام حكم صالح بدون التركيز على مبدأي العدل السياسي والعدالة الاجتماعية، فالأول يخلق الشعور بالمساواة الحقيقية بين الناس بصرف النظر عن قوتهم أو ضعفهم، غناهم أو فقرهم، علمهم أو جهلهم.. مما يولد الاطمئنان بينهم من خلال قناعتهم بعدم وقوع الظلم عليهم كون القانون كفيل بمنع ذلك من خلال نظرته المتساوية العادلة للجميع، ولأهمية العدل في الحكم نجد أن ذلك الملك الذي سأل فلاسفة عصره عن أيهما اسبق العدل أم الشجاعة، أجابوه بالقول: أيها الملك إذا استعمل العدل استغني عن الشجاعة، أما رسول الإنسانية صلى الله عليه وآله فقد جعل غياب العدل قاعدة لهلاك الأمم عندما قال: إنما اهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. نعم إذا ساد العدل بين العراقيين سيجد الساسة أن كثيرا من نفقات الدولة على القوى الأمنية والعسكرية لم يعد هناك حاجة إليها، وان كثيرا من الجرائم ستنخفض ولن تعود هناك حاجة أيضا إلى كم كبير من القوانين المسطرة في قانون العقوبات العراقي النافذ.

أما مبدأ العدالة الاجتماعية فلا تقل أهميته عن العدل في النتائج الايجابية التي سيتركها بين الناس لان العدالة في حالة شيوعها سوف تنتج ثقة وقناعة عالية من المجتمع بنظامه السياسي ككل، ونظام حكمه بشكل خاص، وستضيق الفجوة الهائلة بين الحكام والمحكومين في بلد كان ولا زال يشكو أفراده من اتساع هذه الفجوة، وسيندفع الناس نحو البناء والعمل بثقة وجدية وفاعلية بدلا من مشاعر الإحباط واللامبالاة والكسل والحنق التي تسودهم لإحساسهم بعدم العدالة والظلم الذي يتعرضون له من أنظمة حكم لم تفعل شيئا يذكر لمعالجة هذا الإحساس ورفع أسبابه، وبدون اعتماد هذين المبدأين فانه لا جدوى من عمل السياسيين وشعاراتهم المتعلقة ببناء الدولة المدنية، لأنهم سينحرفون عن هذا الهدف حتما ولن يصلوا إليه قطعا.

ثالثا: رجال دولة لا رجال سلطة

يختلف رجل السلطة عن رجل الدولة بكافة المقاييس، فغالبا ما تتقدم لدى رجل السلطة المصلحة الخاصة: الشخصية، الفئوية، الحزبية، الطائفية.. على المصلحة العامة لعموم الشعب، ويكون في بعض الأحيان متعثر في أداء عمله ويفتقر إلى المهارة المطلوبة، وتستحوذ عليه عقلية التآمر والتسقيط والصراع، ويغرق المجتمع في دوامة من الفوضى والإرباك واللايقين، ويوظف مؤسسات الدولة العامة: الجيش، الشرطة، الإعلام، المال العام.. لمصلحته بدلا من وظيفتها الطبيعية لمصلحة الناس.. أما رجل الدولة فهو يمثل مستوى أرقى في العمل السياسي يتجاوز كل سيئات رجل السلطة ويوظف أحكام وقواعد ومبادئ السياسة بمهارة وفاعلية لتحقيق غرض الخدمة العامة التي يقوم بها. إن رجل الدولة موظف من طراز خاص عالي الكفاءة، والفرق بينه وبين رجل السلطة كالفرق بين موظف مبتدأ كثير الأخطاء والمشاكل وموظف لديه خدمة طويلة عرف خلالها كل خفايا وأغراض ومتطلبات وظيفته، واهم ما يميز رجل الدولة شعوره بأنه يؤدي وظيفة عامة يخدم من خلالها شعبه لفترة معينة يعود بعدها ليكون فردا اعتياديا بين مواطنيه. ونحن في العراق نحتاج من اجل كفاءة إدارة الحكم وتحقيق أهدافه إلى مثل هكذا رجال ولا نحتاج إلى هواة جهلة بمتطلبات عملهم، يلحقون الأذى بشعبهم لضمان مصلحتهم الخاصة.

رابعا: اعتماد مبدأ الكفاءة في الإدارة

عندما سئل الحكيم الساساني (بزر جمهر) عن سبب سقوط الإمبراطورية الساسانية أجاب بالقول: لأنهم استخدموا صغار الرجال في عظام الأمور، وهذه الإجابة هي إشارة مباشرة إلى تلك النصيحة التي نسمعها دوما وهي (لا تضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب)، والدول المعاصرة بما تنطوي عليه من تشابك وتعقيد في وظائفها الإدارية هي أحوج ما تكون إلى قيادات إدارية قادرة على فهم دورها، والنهوض بأعباء مسؤولياتها، وتفعيل إداراتها لتكون إدارات منتجة ذات قدرة تنافسية عالية. ولكي ينجح صناع القرار في العراق ويضمنون وصول العملية السياسية إلى تحقيق أهدافها عليهم الإيمان بهذه الحقيقة، فلا يغلبون الولاء والمحسوبية والمنسوبية على الكفاءة بأي حال من الأحوال، لأنهم في حال قيامهم بذلك إنما يحكمون على أنفسهم وأحزابهم وقواهم السياسية بالفشل، بسبب وجود أشخاص محسوبين عليهم على رأس إدارات لا يعرفون كيف يوفرون النجاح لها، لذا يجب جعل الكفاءة معيارا لتولي المناصب الإدارية، فمن خلال هذا المعيار يمكن ضمان وصول امن إلى أهداف النظام، وجعل إدارة الحكم في البلد رشيقة وفاعلة. وإذا كانت كل مستويات الإدارة بحاجة إلى هذا الأمر، فان تلك المستويات ذات الطبيعة المهنية كالتعليم والقضاء والمالية والدفاع والداخلية والخارجية هي أحوج ما تكون إلى ذلك، لان الفشل فيها لا يغتفر ولا يمكن إصلاحه بسهولة، وله تأثيرات آنية ومستقبلية خطيرة جدا.

خامسا: بناء الإنسان قبل بناء العمران

مثلت العهود الاستبدادية السابقة، والأعمال الإرهابية الفظيعة، والعنف الطائفي المفزع في العراق صدمات اجتماعية عنيفة تركت تأثيرها الخطير على سيكولوجية الإنسان العراقي، فهو إنسان معقد، مأزوم، وخائف، وغير مطمئن للمستقبل، وغير واثق من الآخر، وهو بكل المقاييس إنسان محطم الذات، ولا يمكن لومه على حاله هذه فما تعرض له عبر تاريخه البعيد والقريب لا يمكن احتماله أبدا. أن هذا الواقع الاجتماعي العراقي يجب إدراكه بحكمة وتفهم من قبل الساسة في البلد وهم يتوجهون لبناء الدولة على أسس جديدة، إذ يحتاج مجتمعهم فعلا إلى إعادة تأهيل ليتجاوز مشاكله النفسية العميقة، من خلال برامج اجتماعية مناسبة يتم فيها الاستعانة بكل الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال، وخطاب سياسي جديد مغاير لما كان يسمعه الشارع من خطابات في العهود السابقة، وجعل كل إمكانات الدولة المادية تصب في تحقيق هذا الهدف الذي يجب إعطاؤه الأولوية على البناء العمراني، فمهما ارتفع العمران وزادت مظاهره لن تكون له قيمة إذا كان ساكنه غير مؤهل نفسيا له، ولنأخذ عبرة من حقائق الحضارة المعاصرة التي بات فيها الاستثمار في تنمية الموارد البشرية أكثر فائدة وإنتاجية من الاستثمار في الموارد المادية، إذ كما يقال وفقا لمبادئ هذه الحضارة أن إنسان جيد وكفوء واحد قادر على انجاز ما لا يستطيعه ألف إنسان. إن تأهيل الإنسان العراقي وإعادته إلى إطاره السيكولوجي الإنساني الصحيح هو الضمانة الوحيدة لعلو العمران وتحسين مظاهره ودوام الحفاظ عليه وما عدا ذلك من أفكار ورؤى غير صالحة ألبته ولا يرتجى منها شئ.

سادسا: الإيمان بمرجعية النص الدستوري

عندما يتولى القادة السياسيون إدارة الدولة، فأنهم يستلهمون مبادئهم، وينظمون العلاقات المتبادلة فيما بين بعضهم البعض وبينهم وبين شعوبهم، ويحددون شكل الحكم القائم، ومن ثم الحكم على مقدار نجاحهم وفشلهم من خلال واحدة من مرجعيتين: الأولى هي المرجعية الثورية إذا تأسس نظام الحكم الجديد بواسطة ثورة على النظام السابق حيث تصبح المبادئ الثورية التي حملها الثوار قبل وبعد توليهم السلطة هي المرجعية الأساس والمرشد الوحيد لقناعاتهم ورؤاهم وممارساتهم. والمرجعية الأخرى هي المرجعية الدستورية إذا لم يكن العمل الثوري أساس قيام نظام الحكم، إذ تصبح عندها نصوص الدستور النافذ نصوصا مقدسة يحتكم إليها الساسة والأفراد، ويجعلونها المرتكز في مطالبتهم بحقوقهم أو دفاعهم عنها، والمرشد لتخطيط حاضر الدولة ومستقبلها، وتحديد نمط المؤسسات السائدة والعلاقة المتبادلة بينها. وطالما أن العملية السياسية الجارية في العراق منذ عام 2003 لا يمكن أن تستمد وجودها من المرجعية الثورية، عليه لم يبق أمام ساسة البلد إلا جعل المرجعية الدستورية المبنية على دستور عام 2005 الأساس الوحيد لبناء الدولة وتنظيم القوانين والتعليمات السائدة فيها، بل والفيصل النهائي للحكم على مشروعية خلافاتهم ومطالباتهم، وتحديد إدارتهم لمؤسسات الدولة وتنظيم العلاقة بينها، فما قاله الدستور فعلوه والعكس صحيح، كما يجب تطبيق نصوص الدستور بالكامل وتجنب الانتقائية في الأخذ بها أو تعمد خرقها، لان الدستور بني بإرادة شعبية سواء من خلال جمعيته التأسيسية المنتخبة أو من خلال القبول الشعبي العام به في الاستفتاء الذي جرى لهذا الغرض. أما إذا حاول الساسة نسف المرجعية الدستورية فإنهم حقيقة ينسفون العملية السياسية برمتها، وينسفون مشروعية وشرعية وجودهم السياسي، ويعرضون البلاد والمواطنين إلى دوامة من الفوضى والارتباك لا يمكن التنبؤ بعواقبها، ولن يتمكنوا من تحقيق تطلعات وطموحات الشعب في قيام دولة مدنية صالحة، وإذا كان لدى البعض من الساسة أو الأفراد والجماعات اعتراض أو رفض لبعض النصوص الدستورية، فان عليه أن يؤسس اعتراضه هذا على أساس النص الدستوري مستخدما آلياته للوصول إلى مبتغاه.

سابعا: ترسيخ مبدأ التعايش السلمي بين مكونات الشعب العراقي

إن الأنظمة السابقة التي حكمت العراق لم تترك تأثيرها السلبي فقط من خلال الخراب والدمار للبنية التحتية، والتعذيب والقتل لأبناء الشعب، والدخول في مغامرات عسكرية خاسرة.. بل إن من أكثر التأثيرات خطورة لهذه العهود هو ما تركته من شرخ كبير في النسيج الاجتماعي العراقي، وطبيعة العلاقة المتبادلة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، حتى باتت هذه العلاقة يشوبها الكثير من التأزم والتنافر والشك وعدم الثقة مما انعكس على طبيعة الاندفاعات السياسية لديها. وللخروج من هذا الواقع الاجتماعي غير الصحي، وجعل التنوع بين مكونات الشعب العراقي عامل إثراء وقوة للفعل السياسي لابد من العمل المخلص والدؤوب من قبل النخب السياسية الممثلة لهذه المكونات لترسيخ وتعزيز مبدأ التعايش السلمي وخلق منظومة قيم معتدلة تكون بديلا للمنظومة الحالية المتأزمة في كثير من مفاصلها، وقد أثبتت السوابق التاريخية في البلدان التي عاشت نفس تجربة الشعب العراقي انه بدون ترسيخ مبدأ التعايش السلمي لن يكون هناك استقرار سياسي أو امني، ولن يكون هناك نهوض اقتصادي ومجتمعي، كما لا يمكن لطرف ما عد نفسه رابحا وغيره خاسر بل إن جميع الأطراف ستكون خاسرة في لعبة شد القوى بين الطوائف والقوميات المتنازعة.

ثامنا: معالجة الفساد الإداري والمالي بحزم وقوة

يعد الفساد الإداري والمالي آفة العصر والسوسة التي تنخر جسد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الدول كافة، وقد عانى العراق منه كثيرا قبل عام 2003، ولا غرابة في ذلك، فأنظمة الحكم كانت استبدادية والحكام اغلبهم جهلة بمتطلبات الإدارة السديدة وتستشري بينهم الولاءات الضيقة على حساب الولاء للوطن والمواطن، فضلا عن اعتبارات المحسوبية والمنسوبية والاستهانة بالمال العام.. التي أنتجت إدارات هزيلة غير نزيهة تزخر بالفاسدين والمفسدين ومحط سخرية وتذمر الرأي العام العراقي. لكن استمرار وجود الفساد وتنامي معدلاته بعد التاريخ أعلاه يعد مشكلة حقيقية لا بد من تلافيها، لان بناء دولة مدنية صالحة في العراق يتطلب ابتداء معالجة مشكلة الفساد الإداري والمالي، إذ مهما كانت القيادات السياسية جيدة وحسنة النية وراغبة في الإصلاح، فإنها لن تنجح في مهمتها بدون وجود إدارة تنعدم فيها مظاهر الفساد أو تقل إلى حدودها الدنيا، فالفساد يشوه الإدارة، ويتلف المال العام، ويعطل مشاريع التنمية، ويضيع حقوق الناس، وينتقص من سمعة الدولة – داخليا وخارجيا – ويفرخ المتملقين والانتهازيين والخونة.. لذا لا بد من وقفة حازمة بوجهه من قبل صناع القرار من خلال تفعيل آليات المراقبة، والمحاسبة، والتنظيم القانوني الرادع، والاختيار الصحيح للكفاءات النزيهة والقوية ووضعها في موضع المسؤولية.

ثامنا: الحياد والتوازن في علاقات العراق الدولية والإقليمية

مما تقدم ذكره في البحث، فأن المنطقة والعالم تقف على مفترق طرق تاريخي خطير ومهم جدا لا يمكن توقع ما سيؤول إليه من نتائج سواء على مستوى التحالفات والصراعات أو على مستوى توجهات القوى الاجتماعية والسياسية الصاعدة، وإذا كان مبدأ الحياد والتوازن حسن للدولة في علاقتها مع الآخرين في الظروف الطبيعية، فما بالك عندما تكون هذه الظروف استثنائية وشديدة التعقيد. إذن يجب على صناع القرار في العراق أن يكونوا على مستوى الأحداث ولا يتورطوا في تداعيات التقلبات الدولية والإقليمية، ولا يكونوا طرفا في سياسة المحاور والاستقطابات السائدة في الوقت الحاضر، لان العراق في مرحلة بناء تحتاج توفير معظم جهودهم لها أولا، وقدراته ضعيفة وغير متكاملة وغير متناسقة مما يجعله من بين الأطراف الأضعف في التوازنات القائمة ثانيا، ولا يريد أن يكون ساحة تصفية للصراعات الدولية والإقليمية ثالثا، كما لم تكن تجاربه السابقة مع هكذا توازنات وتحالفات متصارعة ذات مردود ايجابي عليه رابعا. إن اعتماد مبدأ التوازن والحياد يتطلب اعتماد خطاب سياسي عراقي خارجي واحد، وخطاب سياسي داخلي متناغم، لان العراق في بيئة شد وجذب شديدة التعقيد وبدون هكذا خطاب سيكون أمنه الداخلي مخترقا مما سينعكس سلبا على استقراره السياسي، وتعطيل توجهه نحو بناء دولة المواطنة.

الخلاصة

يتضح من خلال هذا البحث أن إدارة الحكم في العراق ليست أمرا سهلا بحيث يمكن تركه للصدفة والمغامرات السياسية الطائشة وغير الواعية، بل هو عملية معقدة وصعبة وكثيرة التحديات والمخاطر، تحتاج أن يتصف الساسة فيها بمستوى عال من الوعي الاستراتيجي الذي يؤهلهم إلى أن يكونوا رجال المرحلة بالنسبة لشعبهم لقيادته إلى شاطئ السلم والأمان والرفاهية من خلال بناء الدولة المدنية التي تحتوي كل أطياف الشعب، وتضمن تحقيق كل طموحات وأحلام أبناءه.

أخيرا يمكن القول: أن أفضل الرجال ليسوا أولئك الذين يكتنزون الأموال أو يستحوذون على السلطان، أو يقودون الجيوش والأعوان، بل إن أفضلهم هم أولئك الذين يديرون الحكم في بلدانهم بحكمة ومعرفة ومهارة تسمح ببناء نظام سياسي صالح يحقق السعادة للشعب ويستمر في الوجود طويلا بعدهم.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

khalidchyad@yahoo.com

Phone-iraq:07812515381






Opinions