الوقايـة والعبـر من درس تللسـقف
أثـار الإنفجـار الإجرامي الذي وقـع في تللسـقف قبـل أيـام ، ومـا سبقـه مـن أعمـال شـريرة مماثلـة في تللسـقف نفسـها وبخديـدا وتلكيـف والعـديد مـن بلـدات وقـرى شـعبنا الأخـرى ، الإستـنكار الشـديد والتسـاؤلات في شـأن إجـراءات الوقايـة اللازمـة التـي يمكـن أن تحـد مـن تفاقـم هـذه الشـرور بقـدر المسـتطاع .لكـن الرضـوخ لتـداعيـات الوضـع الواقـع لأمـر مـا ليس بالسـبيل الصائب ، لأنـه يؤدي إلـى اسـتمرار السـوء واستـفحاله ، وهـو بذلـك كالمـرض الـذي يتـم تـرك شـفائه للقـدر ، مـا يسـفر عنـه في غالـب الأحيـان أن تعشـعش العلـة وتـتوسع ويـزداد خطـرها وإيلامـها ، والسـبب الرئيسـي في كـل ذلـك هـو الإهمـال .
وسـبق أن كتبت موضوعيـن ، أحدهمـا بعـنوان " انفجـار تللسـقف . . الدروس والعبـر " ذكرت فيـه " يقـتضي الأخـذ بمـا يؤكـده حكماؤنـا في شـأن الحـذر الدائـم مـن اللـص لأنـه خبـيث لاموعـد ولانهـج لـه ، ويدعـونه ( حـرامي ) لأنـه ينـتهك كـل المحرمـات والذمـم ويعـتدي على كـل الممنوعـات والحصانـات . . فالأمـر صـار يتطـلب اليقظـة والإنتـباه والتـيقظ والإستـعداد والتـأهب للوقايـة والإحتـراز . . فـدرس تللسـقف بليـغ وعبـره تسـتوجب الحـذر الحـذر . " .
وكتبت موضوعـا آخر بعـده بفتـرة ، بعـنوان : " المجلس الشـعبي والنـزوح والأمـن ودعـم أغـاجان " قلـت فيـه " وبالنسـبة للأمـن ، إذ كمـا نعـلم ، تكتـنفه الكثـير مـن المتطلبـات ، ولهـذا توجـد تجربة في شـأنه برعايـة السيد سركيس أغاجـان ، ويمكـن الإستـفادة منـها وتعميمـها ، ومـن المفيـد أيضـا الإستـفادة مـن الخبرة العسكرية للأخوة الكـرد ، خصوصا أن لهـم مقـرات في كـل بلداتـنا وقـرانا ولـهم نقـاط مراقبـة وتـفـتيش على كـل الطرق شـمال الموصل ، وبحسـب مـاأراه فـإن هذه البلـدات والقـرى سـترسـو في نهاية المطاف ، وقـد لايكون ذلـك بعيـدا ، كلهـا أو على الأقـل غالبيـتها ، في منطقـة إقليـم كردستان ، وهـو الأنسـب لهـا ـ برأيي ـ إعتمـادا إلى الأوضـاع الجغرافية وأيضا لجمع شـمل شـعبنا في منطقـة إدارية واحـدة ، كمـا كانت في الأصل ، قبـل أن يقسـم نظام البعث العنصري لـواء الموصل إلى محافظتـين ، وبذلـك أصبح قسـم من شـعبنا في محافظـة نيـنوى والقسـم الآخر في محافظة دهـوك ، وهـو مـا ألحق ضررا فادحـا بوحدتـه الإقـليمـية والإداريــة . ويقـتضي الأخـذ في الإعتـبار ، أن شـعبنا ليس عشـائريا ، وأن بلـداته وقـراه ، على رغـم توحـدها الدينـي ـ باستـثـناء بلدات عـدة لـم تعـد كمـا كانت قبـل تسـلط البعث المقيت ـ فـإن لـها إنقسـامات مذهبيـة وسـياسية ، مـا يتطلب مراعاة ذلـك وعـدم وضع الأمـن بيـد الكنائس أو الأحزاب لمحاذير ليست خافيـة ، قـد تـؤدي إلى الإستـياء والإضرار بالعمليـة الأمنـية ذاتـها . . أمـا الأمـوال اللازمة لمتطلبـات الأمـن فيمكـن أن تسـاهم فيـها الحكومة المركزيـة والقوات الأميركيـة وجهـات غيـرها محليـة ودوليـة ، أسـوة بالمناطـق العراقية الأخرى . " .
لـكن ، على رغـم التـفاؤل الذي أبديتـه في هـذين الموضوعيـن ، إلاَُّّّ ََُّّّّّّ أنـه يؤلمنـي القـول : إن الأمـور الأمنـية لتللسـقف وقـرى شـعبنا القريبـة منـها بقيـت على حالـها مـن عـدم الإهتـمام ، مـا أدّى إلى اسـتمرار الخطر وفقـدان الحمايـة في أقـل متطلباتـها مـن الموت والأذى وتدميـر الممتلكـات ، ومـا ينتـج عـن كل ذلـك مـن فقـدان الطمأنيـنة لـدى السـكان الودعـاء الذيـن اتسـموا دائمـا بطيـب الخلـق والمسـالمة والعمـل المثمـر وكسـب العيش الحـلال .
نـعم ، يمكـن لقريـة صغيـرة تضـم عشـرات عـدة مـن المنازل أن يتحكـم أهلـها في أمنـها ، إلا أن ضـبط كـل أمـن بلـدة كبيـرة مثـل تللسـقف ، تـقع في أرض منبسـطة ولـها أكثـر مـن عشـرين مدخـلا بيـن معبـد وتـرابـي كلـها سـائبة ، وتـمتـاز القريـة بـأنها سـوق تجاريـة للـمنطقة يدخلـها المئـات مـن أشـكال النـاس يوميـا ، ليس بالأمـر الهيـن ، ولابـد أن يكـون الإشراف على أمنها ، خططـا وتـنفيذا ، مـن مهمـة السـلطات الحكوميـة ، سـواء المركزيـة أو في إقليـم كردسـتان ، مـع الإستـعانة بالسـكان ومعرفتهم بالبـلدة ووضعـها وأهلـها .
إذن ، لابـد مـن عمـل مـاهو ممكـن لدرء خطر الإرهـاب ، إلتـزاما بالقـول المأثـور " مثـقال وقـاية خيـر مـن قنطـار عـلاج " ، ومـن الأمـور التـي نـراها مفيـدة في هـذه الوقايـة ، إغـلاق غالبيـة المداخـل التـرابيـة أمـام العـربات وجعـل دخـولها القريـة مقتـصرا على المداخـل المعبـدة وهـي ثلاثـة مداخـل ، ووضـع عـارضـات ونـقاط تـفـتيش فيـها يكـون بيـن أفـرادها عـدد مـن سـكان تللسـقف والقـرى المجـاورة لمعـرفة العربـات والموجـودين فيـها ، وبحيـث يتـم التـفتيش الدقـيق لأي عربـة غيـر معـروفة هـي أو سـائقـها ، وبـهذا تـتوافر الوقايـة إلى حـد مـا مـن المتـسللين الأشـرار .
فحسـب المعلومـات المتـوافرة ، فـإن السـيارة التـي تـم بواسـطتها إرتكـاب التفجيـر الإرهابـي ألأول في 23 نيسـان 2007 دخلـت القريـة مـن إحـدى الطرق التـرابيـة الجنـوبيـة وكانـت مـن نـوع صـالون محملـة بأكيـاس الجبـس ، أمـا العربـة الأخيـرة فقـد دخلـت القريـة مـن الطريـق المعـبد الشـرقي وكانـت مـن نـوع ( لـوري ) متوسـط الحجـم محملـة بالتبـن وظـل يـدور سـائقها بـها بسـرعة بطيـئة مـرات عـدة حـول المنـطقة التـي اسـتهدفها والواقعـة بيـن مـقـر " الحـزب الديمقـراطي الكردسـتاني " ونـادي الموظفيـن وديـر الراهبـات وبيـوت السـكنى والمحـلات التجاريـة ، حـتى زاد مـن سـرعتها وفجـرها على مسـافة نحـو خمسـة أمتـار مـن النـادي ، وسـببت أضرارا جسـيمة في النادي وديـر الراهبـات والمباني الأخـرى القريبـة وتحطيـم زجـاج الشـبابيك وواجهـات المحـلات في كـل المناطق الشـمالية والشرقية والغربيـة للقريـة .
لكـن لحسـن الحـظ ، فـإن الخسـائر بالأرواح كانـت قليلـة ، إذ انحصـرت في وفـاة إمـرأة في نحـو الخمسـين مـن عمـرها كانـت في طريـقها إلى روضـة الأطفـال التـي تعمـل فراشـة فيـها وإصابـة شـديدة بطالـب جامعـي واحـد تـم نقلـه إلى مسـتشفى دهـوك ، فـي حيـن أن الإصـابات الأخـرى كانـت بسـيطة واقتصـرت معالجـتها بإسـعافات في طبابـة تللسـقف ، أمـا السـبب في قلـة الإصـابات فيـعود أولا إلـى حدوث الإنفجـار في السـابعة والنصف صـباحا وهـو وقت مبكـر بالنسـبة لعمـل المحـلات ، وثـانيا لأن سـلوك الإرهـابي بالـدوران في المنطقة أثـار الشـك لـدى الموجوديـن وغالبيـتهم كانـوا مـن طلبـة كليـات الموصـل بأمـرهـذه السـيارة الغـريبة عـن القريـة فهـربوا بعيـدا عـنها .
ومـع أنـه كمـا يبـدو مـن طبيعـة العمليـن الإرهابيـين وحصـولهما في منطقـة واحـدة قـريبـة مـن مقـر " الحـزب الديمقـراطي الكردسـتاني " أن المسـتهدف الرئيسـي هـو هـذا المقـر ، لكـن هـذا الواقـع لاينـبغي أن يعـتبره البعـض سـببا في حـصول العمـل الإرهابي ، لأن مـا حصـل في بغـداد والموصـل وأماكـن أخـرى مـن اسـتهداف لأبناء شـعبنا ورجال دينـهم وكنائسـهم يؤكـد بطـلان ذرائـع حـزب مـا أو شـخص معيـن ، وإنمـا المسـتهدف هـو القريـة وسـكانها ، وهـنـا تكمـن الحقيـقة ، وأي محـاولـة لحـرف هـذه الحقيقـة بـهذا الحـزب أو ذاك ، تـدخل فـي مجـال تبـرير الإرهـاب ذاتـه وغـاياته المقيـتة ، وهـو مـا يقتـضي الإنتـباه إليـه والتـركيز عليـه كإرهـاب لاغيـر .
لكـن ، مثـل هـذه الأعمـال الشـريرة هيـهات لـها أن تحـد مـن عزيـمة أهـل تللسـقف وشـقيقاتـها في الصمـود والبقـاء في أرض الآبـاء والأجـداد ، فـإن هـذه القـرى والبلـدات راسـخة الجـذور بأهلـها ، الذيـن صمـدوا على عـواتي الأشـرار لمئـات السـنين ، وقـد أخفـق حتـى الطاغيـة صـدام مـن القضـاء على أهلـها وتشـويه طبيـعتها المتـوارثة مـن خـلال محاولاته نقـل مجاميـع مـن جلاوزتـه مـن وسـط العـراق وجنـوبه واسـتيطانهم فيـها . .
فقـد ذهـب صـدام إلـى غيـر رجعـة مـن دون أن يحقـق أحلامـه العنصـرية ، كمـا ذهـب كثيـرون مـن الأشـرار قبلـه ، وسـيذهب كـل مـن يـأتي بعـده ويحـاول تكـرار أحـلام صـدام وغيـره مـن الأشـرار ، بـأي وسـيلة قـذرة وإجراميـة كانـت ، لأن تللسـقف وكـل شـقيقاتها راسـخة الجـذور ، وهـي مـع أهلـها أقـدم وجـودا في ديـار بيـن النهـرين مـن بعـض الغـرباء الذيـن اسـتوطنوا هـذه البـلاد خلال الألف وخمسـمئة سـنة الأخيـرة ولايزال أمثـالهم يتسـللون هـذه الأيـام لإلحـاق الأذى بـأهل هـذه البـلاد الأصـليين ومـن هـم معهـم مـن الطيـبين الـذين يحبـون الحيـاة الكريمـة لهـم ولغيـرهم ويعمـلون بعـرق جباهـهم لكـل مـا هـو مثمـر ومفيـد .
وفـي هـذا المجـال ، يطيـب لـي أن أردد مـع الشـاعر والفنـان الصامـد الإبـن البـار للعـزيزة ألقـوش الباسـلة دومـا لطيـف بـولا فـي قصـيدته ( يـا تللسـقف صـبرا صـبرا ) التـي يقـول فيـها ( القصيـدة كاملـة منشـورة في حقـل لطيـف بـولا في موقـع تللسـقف ) :
سَلوا شعبي في العراقِِ ِ، ودِجلةَ والفُراتَ
مَن عَكَّرَ صَفْوتَنا وَحَقَنَ الشوائبا
وهذه "تلسقفُ" في مرابع نينوى
كَلَّلتها شَمسُ الصَّبا بإكليلٍ مُذَهَّبا
كعروسٍ قد طرَّزت أثوابَها في الربيع ِ
وعشتارٌ أُمّـا ً لها وتموزٌ صار أبـا
لتطربَ "تلسقُفَ" عمالها فلاحيها
أصداءُها وتشكرَ المربيَ المُهذبا
قد أفزعَ الخفافيشَ نواقيسُ الحريةِ
كيف ترضى أن يكون "للعبيدِ" مطالبا
قد نسيت أو تناست أنَّ هذا المستعبدَ
ذات يوم ٍحضاراتٌ كانت له مشاربا
مجداَ لكلّ ِ قطرةِ سقت ترابِ الوطن ِ
وأهلنا في محنة ِ"تلسقفَ" مُخاطبا
صبراً صبراً لنُحرقَ جيش الدجى بصبرنا
أنّى له ضبعُ الليل ِهذا الجرمَ يُكذّبا
إذا ظَنَّ سيفَ الحق ِهذا اليوم مُغَيَّبا
كان الشعبُ للأوغادِ في التاريخ ِمُحاسبا
أو أن نحيا كالأحرارِ في وطن ٍ مُحرّر ِ
أو نموت في ثراه ولن أحيا مُغتربا
ومـن دون شـك أن السـبب الرئيسـي لظهـور الإرهـاب في بلـد مـا ، تـتحمل مسـؤوليتـه أجهـزة السـلطات الحاكمـة المعنـية بشـؤون الأمـن وصيانـة حيـاة المواطنيـن وأملاكـهم ، لأن الأشـرار موجودون في كـل مجتمـع ، ولكنـهم " يطفـون على السـطح " عنـدما يجـدون الأمـور تلائـمهم مـن فلتـان أمنـي وضيـاع الحـزم وسـوء الإدارة واضطـراب الأوضاع وفسـاد الحكـام وديمقـراطية الفوضـى .
لاأحـد يسـتطيع أن ينفـي أن النظـام الـذي يتحكـم بالعـراق ، بعراقيـيه وأجانبـه ، مسـؤول عـن المسـاوئ التي يـرزخ تحـت كوارثـها الشـعب العراقي ، والمعلومات التي تـتضح يومـا بعـد آخـر شـاهد على ذلـك ، فـأية حكومـة هـذه التي يصـدر عنـها مثـل هذا الخبـر الـذي قرأتـه وأنـا أكتب هـذا الموضوع ، والـذي يقـول :
شـرطة كربـلاء تـتهم جيش المهـدي باغتـيال المئات مـن الأرواح . . لكـن نائـب محافظ المدينـة ( كربـلاء ) جـواد الحسـناوي نفـى ذلـك واتـهم قـوات الأمـن العراقيـة في المقـابل بقتـل عـائلتين . . شـخصيا أرى كـلا التصريحيـن صحيـح ، لأن الطرفيـن ، جيش المهـدي وقـوات الأمـن ، يحكمـان في بلـد يسـوده القتـل والإرهـاب . . وقبلـه بأيـام قـرأت أن وكيل وزارة الصحة متهم بالإرهاب واسـتخدام سـيارات الإسـعاف ومبنـى الوزارة لاختطاف الناس . . وهكـذا دواليـك .
لاتـهمني شـخصيا الجهـة التـي تقـوم بالإرهـاب ، لأن الإرهـاب هـو واحـد ، أسـوة بمـا كان عليـه الشـر الصدامي . . وأي حكومـة لاتستـطيع حمايـة مواطنيـها فهـي غيـر جديـرة بالبقـاء يومـا واحـدا في السـلطة . . فكيف الحـال عـندما تكـون طوائـف الحكومة نفسـها ضـالعـة حتى سـمت رأسـها في الإرهاب ؟ !
ومـا علـي فـي الختـام إلا أن أردد :
مـوتوا بغيـضكم أيـها الحاقـدون الطائفيـون والعنصـريون الفاسـدون ، فشـعبنـا ليس جاليـة أو طـوائف دينيـة ، وإنمـا هـو أصـيل تمتـد جـذوره إلـى أجـداده ( الكلـدان الآشـوريـين السـريان وأمجـادهم في بابـل ونيـنوى وكـل شـقيقاتهمـا ) الذيـن طفـقت مـآثرهم كـل آفـاق زمانـهم ولاتـزال نبراسـا يضـئ الـدرب لكـل باحـث عـن العـلوم والمعـارف فـي أرجـاء الدنيـا حتـى اليـوم . . ومـع كـل هـذه الآفـاق نؤكـد : شـعبنـا سـيبقى إلـى الأبـد راسـخا فـي أرضـه وديـاره وبلـداته وقـراه . . ومـن لايعجبـه هـذا كائنـا مـن كـان ، مـا عليـه إلا أن يمـوت بغيضـه وسـوء حقـده .