Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

اني متخلفة !

نعم .. عرفت اليوم بأني متخلفة ! فأنا لا أقدِّر المواهب الغنائية (غير الطربية) الجديدة ولا زلت أستمع لقديمي أو لجديد قدمائي.
لم تكن الصدمة معتبَرَة بالنسبة لي ولكنها كانت قوية على صديقتي الكيبيكية-الكندية، فغدت مثل لكمة تعدو بسرعة 150 كلم على الأقل كي تسخط وجهها البرونزي الجميل وتُجفل التجاعيد الأفقية الرفيعة المتراصة بفن على جبينها.
نبرات صوتها الهامس رجت في "طبلة" أذني وهي تتساءل "ليلى متخلفة ؟! هل أنتَ طبيعي؟"
مددتُ رأسي فوق الحاجز الذي يفصل مكتبي عن مكتبها، والذي من المفترض ان يكون أيضاً عازلاً للصوت، أستفسرُ عن همسها لإسمي بهذا التعجب المقرون "بالتخلف".
نَظَرَت إلي والدهشة تغتال صفاء عينيها مرددةً بأن زميلنا (العربي) يقول بأني متخلفة كوني لا أستمع بما يكفي للأغنيات الجديدة التي تصدح في وسائلنا الإعلامية "الأرضية والفضائية" والتي تلهب الراقصين أو المستسلمين لرقص الأضواء على أجسادهم في زحمة المطاعم والبارات في دولنا وفي مغترباتنا... بالانكليزي الفصيح اني "اولد فاشين" ولا أجاري الموضة التي لا تكتسح فقط أجسادنا حيناً وتتعدى عليها في أحيان أخرى وإنما تلتهم أيضاً أذواقنا الفنية والطربية بشكل خاص.
طبعاً لستُ ضد الموضة لا بل اني من متذوقاتها ومن المؤيدات للتجدد والعصرنة مع إقتناعي الشديد بأن الجمال أو الذوق هي مسألة نسبية ...
لستُ ضد التيارات الفنية الجديدة ولا ضد الإبتكار والخلق والإبداع لا بل أبحث عن كل ما هو جديد وفريد "وغير شِكل" مثلما نقول باللبناني.
دعوتُ زميلتي الى مكتبي وكي أخفف عنها الصدمة رحتُ أشرح لها عن وجهة نظري في المسائل الفنية- الغنائية ذاكرةً فيروز صباح وديع الصافي أم كلثوم عبد الحليم حافظ ... مقارنةً هؤلاء الكبار بمطربين فرنسيين كبار أيضاً كي تفهم صديقتي عن أي مستوى فني أتكلم، مضيفةً َ بعض المسائل الإجتماعية والوطنية وكيف يمكن للأغنية أن توظَّف كوسيلة "ترويجية" وإعلانية لأية قضية حين يكون الشارع هو الهدف والقاعدة الشعبية هي المستهدفة. الأغنية هي أولاً وأخيراً زواج الكلمة للحنها أو العكس وهي أيضاً المرآة التي تعكس أدب العصر وموسيقاه أي انها تساهم الى جانب الفنون الأخرى في تحديد المستوى الفكري لكل عصر ومن هنا تأتي أهمية الإبداع والعمق في مستوى كلمات الأغنية ولحنها...
إنطلق كلامي بحماس وكأنه نهر متدفق فلم أنتبه في البداية الى ملامح الشرود الذهني الذي غرقت به زميلتي وكأن دماغها توقف في محطة ما ولم تعد أذناها تنصتان الى ما أقوله، فسألتها :
- هل أنتِ معي؟
- نعم .. عندي سؤال صغير فقط، ذكرتِ شارل أزنافور، فمن يكون ؟
هنا قفز الذهول من عينيها الى عيني ليخترقهما كالإبرِ وإلتهمت تجعيدات التعجب التي كانت تحتل جبينها جبيني لتصطف كالموج على جبهتي وتهدر في رأسي كل شبوهات التخلف التي ألصِقت بي... كيف أكون أنا المتخلفة وهي لم تسمع بشارل أزنافور سابقاً ؟!
- الا تعرفينه؟ هو فنان فرنسي كبير ومشهور جداً ومن أصل أرمني !!
- أرمني! أعتقد اني سمعت عن الأرمن .. أليسوا من الشعوب الروسية ؟
- لا!.. الأرمن شعب أرتُكبت بحقه المذابح وسُلبت أرضه وهي تركيا حالياً، فانحصر بمنطقة جغرافية محددة هي اليوم بلداً مستقلاً يُدعى "أرمينيا" علماً انه كان ضمن دول الإتحاد السوفياتي سابقاً. وبفضل أغنية "أرميني" التي غناها شارل أزنافور وأهداها لضحايا الزلزال الذي ضرب أرمينيا في عام 1988 وحصد 30000 ضحية، جالت قضية الأرمن العالم.
إن أغنية "أرميني" أوصلت أرمينيا وقضية شعبها الى من كان يستمع الى أزنافور وهو غير مبالٍ بأصله ولا بفصله... هل فهمت الآن لماذا لا أستمع الى معظم الأغنيات الجديدة فهي بالنسبة لي مثل "زمامير السيارات" ولا تقول شيئاً سوى "أنا هنا لإزعجكم ولأفرِغ رؤوسكم..."
ذهلت زميلتي من شدة إنفعالي وقالت بحنق : "ريلاكس ! ولكن أعتقد انك تخلطين الأمور ، ألم تخبريني من مدة عن شعب آخر "يتكلم لغة المسيح" قد ذُبح وهجِّر من أرضه أيضاً ! هل كل الشعوب هناك تذبح وتُهجَّر ووو... إن دولكم معقدة وكأن الناس هناك ترتوي من الدم .. هذا مخيف !!"
- نعم بعض الشعوب في دولنا تذبح والبعض الآخرمنها يغني. ومن يعيش منهم بين الذبح والغناء هو المولِّد الذي يغذي الوطن بالطاقة أي كالحصى حين تسند الصخر ... هم "المأسوف على فكرهم" في زمن هو بأَمَس الحاجة الى ثورة "تنويرية" جديدة كالتي فكت عقد الغرب في القرن الثامن عشر
أما دولنا فهي ليست معقدة وإنما قد عُقِّدت كي تُسلب .. والشعوب لا ترتوي بالدم وإنما ينزف دمها دون أي علاج بسبب ما وُرِّدَ لنا من حبوب "مهلوسة" فغدونا نهذي تارةً بالطائفية وتارةً أخرى بالسياسات المعوجة والمتزعمة لكل المصالح الا لمصالح الشعوب فرحنا نحلم "بديموقراطية" بائسة لكثرة ما استهلَكت في الكلام والنظريات الخطابية فرغت "بطارياتها" وانتهت مدة صلاحيتها ...
وهنا ضاعت زميلتي في تشعبات الأمثال والشعوب والمذابح والتاريخ والموسيقى والفن وووو...
بمعنى آخر رَمَت سلاحها وأيدت تخلفي وإن كان على طريقتي الخاصة غير المفهومة والمعقدة بالنسبة لها مثل تعقيدات دول منطقتنا ... فعادت الى مكتبها محبطةً وغرقتُ أنا في هول ما نعيش من ضياع وتشتت. أيكون زمننا هو فعلاً "زمن الإنحطاط" مثلما نردد حين يكفهر وجه السماء بالمحن وتجري أنهر الدم تحت أقدامنا ؟
أأكون فعلاً متخلفة لو إكتفيتُ بسماع القدماء والمخضرمين وأرحتُ رأسي من هدير ما عدت أفهم لغته ؟!
نعم .. اني أقر وأعترف باني اخترت ان أكون "متخلفة" وأدعو كتاب وملحني أغنيات عصري الى أن يتخلفوا معي وينظروا الى الوراء على أمل أن يلهم القديم جديدهم !
ليلى كوركيس
مونتريال – كندا
20 نيسان 2006 Opinions