بسبب تهميش النخب منذ العهد العثماني وحتى العصر الديمقراطي.. تجمع جديد لكفاءات العراق الأكاديمية والمهنية
عانى العراق عبر كل حقباته التاريخية من ظاهرة خطيرة أدت إلى تراجعه وتخلفه عن التقدم الحضاري وتمثلت هذه الظاهرة بتجاهل وتهميش النخب الأكاديمية والكفاءات المهنية في إدارة الدولة بتحمل مسؤولية اتخاذ القرار المتعلق بحياة الناس وتقدم البلاد .إن هذا التجاهل الذي استمر لقرون طويلة لم يكن مستغربا لان الذي كان يرسم سياسة البلاد هو الباب العالي في الأستانة حين كان العراق وبلدان عربية كثيرة هي مجرد ولايات ينصب عليها والي بفرمان عثماني ليس من أهالي البلاد ويصعب عليه معرفة أحوال الناس ، وحين زال الاحتلال العثماني دخل علينا من بعده الاحتلال البريطاني وأصبحت الشؤون العامة بيد المندوب السامي البريطاني وجنرالاته وأذنابه ، ومن الطبيعي إن يهمش الكفاءات والخبرات وتستبدل بواجهات تؤدي ما يريده الاحتلال ، واستمر الحال حتى سقوط النظام الملكي الذي شهد فترات قصيرة ونادرة باستثمار الطاقات الوطنية والعقول النيرة .
ودخلنا هذه المرة بعد عام 1958 في دوامة الانقلابات العسكرية التي كانت تعتمد على أسس خاصة في تشكيل الحكومات لأسباب سياسية باستثناءات قليلة واستمر الحال حتى وقوع الكارثة الكبرى في انقلاب عام 1968 التي استكمل فيها البعث المقبور سياسته الدموية التي شرع فيها في 8 شباط 1963 وكان التهميش هذه المرة واسع النطاق حيث تم استبعاد اغلب الكفاءات لأسباب عقائدية فليس هنالك مقعدا أو وظيفة لمن لا ينتمي للحزب الواحد وزاد على ذلك استبعاد قوميات بكاملها ومذاهب بكل تشعباتها واختصر الأمر على اختيار نخب معينة لأسباب معروفة أولها الولاء المطلق للقائد الضرورة واشتراطات أخرى لا نحتاج للدخول في تفاصيلها لان العراقيين يعرفونها بأدق أمورها وكان الأساس هو الولاء وعلى الطريقة الصدامية إما الكفاءة والتميز العقلي والفكري فهذه أمور قد تؤدي صاحبها إلى الهلاك خصوصا إذا ما تميزت أو رفضت الطاعة العمياء لسياسات النظام العفلقي .
وبهذا وعبر كل العقود التي مرت خسر العراق فرص متراكمة في أعماره وتأهيله مدنيا وحضاريا لان العقول الناضجة لم تكن لها قدرة في صنع القرار أو إبداء المشورة وكانت دائما خارج المشهد بل هي تعاني من الاضطهاد والقمع والاعتقال والقتل مما دفع أعداد كبيرة جدا منها للهجرة إلى الخارج لتجد من يحسن استقبالها واستثمارها .
لقد استبشر الناس خيرا بانهيار النظام البعثي الصدامي السابق ولعل الأحلام وأعظم الأمنيات قد جالت في خاطر عشرات الآلاف من الأكاديميين من أصحاب الشهادات العليا المقموعين داخل البلاد أو المهجرين خارجها ومعهم مئات الآلاف من أصحاب الخبرات المهنية في التخصصات كافة إن تفتح لهم كل الأبواب لانتزاع استحقاقاتهم في تولي المسؤولية والمساهمة في صنع القرارات المصيرية لنقل البلاد نوعيا في المستوى الذي يستحقه الشعب العراقي وتؤهله لذلك ثرواته النفطية الطائلة وتراكم خبراته وتوفر العقول المتخصصة والتاريخ العريق وهي عوامل كانت معطلة في الماضي وقد تعطلت أيضا بعد سقوط النظام لشدة الموجات الإرهابية والفوضى التي تركها الاحتلال والتي أدت إلى تكالب أعمى للسيطرة على السلطة بدون شروط أو استحقاقات وكانت الارجحية للهيمنة السياسية وليس العلمية ونتج عن هذا الواقع حكومات متعاقبة فاسدة وغير قادرة على تنفيذ إستراتيجيات حقيقية في التنمية البشرية فتبعثرت جهودها وضاعت مليارات الدولارات دون إن يتحقق الحد الأدنى من الانجاز الذي يبهر القريب ويدهش البعيد والسبب كما قلنا إن العقول الناضجة والخبرات المتخصصة كانت بعيدة ومهمشة وغير قادرة إن تدخل حلبة المنافسة السياسية أو إبرام الصفقات المريبة التي لا تليق بها ولا تنسجم مع تقاليدها المهنية والأكاديمية .
في ضوء استقراء هذا المشهد والنتائج التي أسفرت عنه فقد عقدت قبل أيام نخبة من الأكاديميين والمهنيين اجتماعا في بغداد وشكلوا لجنة تحضيرية وصفها الدكتور يوسف التميمي بأنها نواة لتجمع جديد أطلق عليه تجمع كفاءات العراق وشعاره الأساسي ( تجمعنا قوة للعراق ) ويهدف هذا التجمع للخروج من حالة الخوف والتردد والمراقبة والاندفاع بقوة للتفاعل مع العملية الديمقراطية الجارية في العراق لتأخذ الكفاءات وبكل اختصاصاتها وأنواعها دورها التاريخي في صناعة الحياة خدمة لعموم أبناء الشعب ولعموم الإنسانية لان أدوارها غير تقليدية بل تفاعلية تستطيع حين تنتزع وتسترد مواقعها الحقيقية تلعب إن دورها في قيادة البلاد وان تغير الواقع وتحدث ثورة تصحيحية في المجالات كافة وتصبح بؤرة لتغيير كل فئات المجتمع محققة التنمية المنشودة القادرة على ردع الإرهاب ومكافحة الفساد ومن خلال ذلك تسود العدالة والمساواة وتحقيق الديمقراطية الحقيقية ، وأضاف الدكتور التميمي إن هذا التجمع يضم رؤساء جامعات وعمداء كليات وقضاة وأطباء ومحامين ومهندسين وكتاب ومثقفين وإعلاميين وصحفيين ومفكرين ورجال دين وآخرين مميزين بمهنهم وحرفهم .
إن هذا التجمع سيكون له نظاما داخليا يرسم حدود عمله في إطار منظمات المجتمع المدني المتخصصة غير الحكومية وله فروعه في كل مدن العراق وسيكون لهذا التجمع العديد من الأنشطة العلمية والثقافية والتضامنية الاجتماعية والورش التاهيلية التي تسهم في بلورة الوعي العلمي للشباب وبرامج أخرى لتحسين واقع المرأة والرقي بمستواها العلمي .
إن تفعيل هذه التجمعات والمنظمات النوعية سيكون بديلا حقيقيا عن المنظمات الوهمية والشبحية والأحزاب التقليدية وبارقة خير لعودة المفكرين والعلماء لأداء دورهم في نهضة العراق الجديد .
وقال الشيخ محمد باقر السهيل إن هذا التجمع يعد خطوة نوعية بالاتجاه الصحيح ويشرفنا إن تكون نواته الأولى وشارة البدء تنطلق من قبيلة بني تميم ذات المجد التليد والتاريخ العريق والمعروفة برجالتها الذين تميزوا بالعطاء الفكري والثقافي والأدبي والعلمي عبر مراحل التاريخ كافة فظلا عن المواقف المشهودة لأبنائها في التضحية والشجاعة والكرم منذ العصور القديمة ومع فجر الإسلام وفتوحاته الخالدة حيث طرزت هذه القبيلة صفحات التاريخ بمواقف أبناء بني تميم .
وأضاف الشيخ السهيل قائلا لقد عقدنا العزم لإقامة تجمع لكفاءات العراق بمختلف عشائرهم وانتماءاتهم في سبيل بلورة دورهم الريادي في قيادة المجتمع العراقي في هذه المرحلة الانتقالية إلى الديمقراطية ونجد إن توقيت هذا التحرك ضرورة ملحة يريدها الشعب الذي جرب حظه على مدى العشر سنوات الماضية مع السياسيين ولم يتوصل لغاياته المنشودة وقد حان الأوان لان تتقدم النخب الأكاديمية وأصحاب الكفاءات والخبرات المهنية لتدخل إلى العملية السياسية بقوة وشفافية وتحول مسارها إلى الاتجاه الصحيح لنحقق الشعار الذي كنا ننادي فيه على الدوام لنترك التكنوقراط يخططون لإدارة البلاد وقيادتها بعد إن أعلن الآخرين فشلهم في الإدارة والقيادة .
firashamdani@yahoo.com
Mr. FIRAS G. AL-HAMADANI
WRITER & JOURNALIST
Baghdad - IRAQ