Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

بمناسبة مرور مئة عام على ولادته..على الوردي والتغير الاجتماعي في العراق

 التغير الاجتماعي من أهم المواضيع في علم الاجتماع الحديث، الذي يقترن بالتغيرات والتحولات البنيوية التي تحدث في جميع المجتمعات. فالتغير هو سنة لحياة وهو قانون طبيعي واجتماعي يتحكم في جميع أوجه وعناصر الحياة المادية والمعنوية حسب الزمان والمكان، بالرغم من ان العناصر المادية لأية حضارة هي أسرع في درجة التغير من العناصر المعنوية، وكذلك على المستوى الشخصي والثقافي الاجتماعي، حيث لا يوجد شيء ثابت ومستقر فكل مجتمع يتغير ويتبدل من شكل الى آخر حتى المجتمعات القديمة والبدائية والتقليدية فقد تغيرت وتطورت ولو نسبيا.

والتغير الاجتماعي يشمل مجمل التغيرات والتحولات والتبدلات البنيوية التي تحدث في المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وذلك بسبب عوامل عديدة تتراكم حتى يصل المجتمع الى درجة من التجمع الحضاري الذي يعمل على هدم ما هو قديم وبناء جديد مكانه عن طريق نمو الإمكانات والطاقات والقدرات العلمية والتقنية في داخله، لأن كل نظام اجتماعي يحمل في داخله بذور تغيره.

ويشهد المجتمع العراقي المعاصر تغيرات بنيوية واسعة النطاق منذ دخول عناصر الحضارة والمدنية الغربية اليها في نهاية القرن التاسع عشر وما صاحبها من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية غيرت من نظرتنا الى الكون والوجود والحياة والنظم الاجتماعية.

وتعتبر فرضية على الوردي (1913-1995) في التغير والتناشز الاجتماعي من الدراسات الاجتماعية القيمة التي تبحث في سياقات التغير والتحول الاجتماعي في العراق وبالتالي فهم تأثيراته ونتائجه على الثقافة والمجتمع وعلى شخصية الفرد العراقي، بالرغم من ان التغير الحضاري يؤثر بصورة أسرع في العناصر المادية من العناصر المعنوية وخاصة في القيم والعادات والتقاليد ولكنه لا يغير من الطبيعة الانسانية.

ولمعرفة تأثير التغير ات والتحولات الاجتماعية على المجتمع العراقي ركز الوردي على أهمية دخول عناصر المدنية والحضارة الغربية الى العراق التي دخلت بعد الاتصال الحضاري مع اوروبا منذ بداية القرن التاسع عشر. فبعد دخول الاكتشافات والاختراعات الحديثة في مجال الصناعة والمواصلات والاعلام والتربية والتعليم الى العراق تغيرت كثيرا من البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانهارت جميع الحواجز والسدود بين المعقول وغير المعقول، وأصبح كل شيء ممكنا.

فبعد دخول القوات البريطانية الى العراق حدثت تغيرات بنيوية هامة سببت تناشزا اجتماعيا ونفسيا عند فئات واسعة من المجتمع العراقي. فالحضارة الغربية الوافدة جلبت معها عناصر مدنية وحضارية عديدة كانت متقدمة علميا وتقنيا، وهو ما اثار دهشة العراقي وجعله مبهورا امامها، وهو ما فجر تناقضات وصراعات اجتماعية بين مؤيدي الحضارة الغربية "المجددين" وبين الواقفين ضدها " المحافظين". وقد اعتبر البعض المجددين "كفارا" في حين اعتبر المجددين المحافظين "رجعيين". وقد ظهر هذا الصراع في المدن أكثر من الريف وبخاصة في التربية والتعليم والوظائف الجديدة وفي الصحافة والاعلام ووضعية المرأة ومشاكل السفور والحجاب وغيرها. كما ولد توترا اجتماعيا ونفسيا وسياسيا حادا. ففي الوقت الذي لم يستطع المحافظون مقاومة اغراءات المدنية الغربية، اندفع المجددون وراء اغراءاتها وانجرفوا في تيارها مما ادى الى نوع من التحلل الديني والاجتماعي وظهور صراع اجتماعي بين الجيل الجديد والجيل القديم.

يرى الوردي بأن دخول عناصر المدنية الغربية الى العراق مر بثلاث مراحل متعاقبة من التغير هي:

أولا -مرحلة التغير البطيء، التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر واستمرت حتى الحرب العالمية الثانية وتم فيها دخول بعض المخترعات الحديثة كالبواخر النهرية والتلغراف والفوتوغراف والطباعة وغيرها. وقد ساعدت تلك المخترعات على تكيف المجتمع معها بمرور الوقت، بحيث لم تحدث تناشزا اجتماعيا حادا او صراعا بين الجيل القديم والجديد. غير ان دخول "الترامواي" زمن مدحت باشا عام 1879 ودخول السيارة لأول مرة في العراق عام 1908 كان قد أدهش العراقيين كثيرا فخرجوا يتفرجون وينظرون تحت السيارة ليكتشفوا قوائم الحصان المختفي تحتها، لأنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا ان عربة من الممكن ان تسير بدون حصان.

ثانيا – مرحلة التغير السريع، التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى واستمرت حتى السبعينات من القرن الماضي وتمت فيها تغيرات وتحولات عميقة الأثر في المجتمع العراقي، حيث ارتبطت بتشكيل الحكم الوطني عام 1920 ودخول العراق تحت الانتداب البريطاني الذي ساعد على دخول مخترعات وصناعات حديثة وبشكل سريع، مما أحدث تغيرات بنيوية عميقة ومثيرة وسببت، في ذات الوقت، تناشزا اجتماعيا ونفسيا وانقساما في المجتمع العراقي.

وثالثا – المرحلة الثالثة هي مرحل التغير السريع جدا التي بدأت مع الحروب والحصار وتنامي قوة الدولة المركزية التي لم يستطع الوردي دراستها وتحليلها لأسباب سياسية معروفة.

لقد ولَد التغير الاجتماعي والحضاري في المرحلة الأولى توترات وصراعات اجتماعية ونفسية وسياسية حادة، فالحضارة الغربية الوافدة الى العراق كانت متقدمة علميا وتكنولوجيا، ولذلك لم يستطيعوا تقبلها، ولذلك حدث صراع بين مؤيدي الحضارة الغربية وبين الرافضين لها. وقد أطلق على المؤيدين لها اسم “المجددين" وعلى الرافضين لها اسم "المحافظين". وقد اعتبر البعض المجددين كفارا. غير ان المحافظين لم يستطيعوا مقاومة اغراءات المدنية الحديثة، في حين اندفع المجددون وراء اغراءات المدنية الحديثة، مما أحدث تحللا دينيا واجتماعيا.

والحال ان من طبيعة التغير الاجتماعي أنه لا يؤثر في جميع اجزاء المجتمع على درجة واحدة، فقد يحدث تغير سريع في ظواهر اجتماعية وتغير بطيء في أخرى، وفي الحالتين يؤدي الى ظهور مشاكل وأزمات اجتماعية وتوترات نفسية مختلفة.

   وقد ظهرت نتائج التناشز الاجتماعي في التناقض بين القيم الاسلامية وبين القيم البدوية وبين القيم الإسلامية وقيم الحداثة الغربية وبين نسق التربية الليبرالية الحديثة وبين نسق التربية الاسلامية التقليدية الصارمة وبين القيم والعادات التقليدية القديمة وبين القيم الحضرية الجديدة، مثلما ظهرت في الصراع السياسي وفي العلاقات العشائرية والطائفية والتكتلات الحزبية والدخول في الوظائف الحكومية وكذلك في تغير الادوار والمكانات الاجتماعية الجديدة، وكذلك بالموقف من المرأة ودخولها في المدارس والوظائف والخدمات وما افرزه من منازعات بين مؤيدي السفور و الحجاب. كما ظهر التناشز الاجتماعي في توزيع الحقوق والواجبات وفي الفجوة الواسعة بين الشعب والحكومة وفي نزعة الجدال الذي ينشب بين الافراد الذي يقوم على العناد والاصرار على الرأي حتى لو كان الشخص مخطأ، وكذلك بالتمشدق بالشعارات الفارغة التي هي طلاء سطحي يخفي وراءه "شخصية زقاقية" لا تكاد تمس اوتارها الحساسة حتى تنتفض وتثور مثل أسد هصور وكأنه شقي من اشقياء بغداد القديمة.

 وقد شهد العراق من جراء التناشز الاجتماعي صراعات وتوترات ومنازعات عنيفة، خصوصا بعد ثورة 14 تموز 1958 التي "نبشت" ما كان مدفونا وخفيا واخذت منا ضحايا كثيرة بسبب الحماس السياسي الزائد. كما ان هذا الصراع الاجتماعي السياسي هو رد فعل للتناشز بين نسقين متناقضين من القيم الحضارية، بين قيم الحضارة وقيم البداوة، التي ما زالت كامنة في نفوسنا بشكل او آخر حتى اليوم.

والحقيقة ان على الوردي لم يتطرق الى التغيرات البنيوية الجوهرية التي حدثت في العراق خلال حكم النظام السابق نتيجة لدخول العراق سلسلة من الحروب والحصار وانهيار البنى التحتية وتشوه البنى الفوقية ولم يقدم دراسة سوسيولوجية للتغيرات التي حدثت في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي شوهها النظام السابق، وذلك لأسباب سياسية قاهرة جعلته ينسحب بهدوء خوفا ووجلا وينزوي في صومعته ويتوقف عن الكتابة والنشر لأنه كان يخشى سطوة النظام وبطشه. كما أنه لم يمال النظام السابق، فاستقلاليته الفكرية لا تنسجم مع أي نظام شمولي يقوم على الخوف والقمع.

غير ان الوردي أشار قبل أكثر من نصف قرن الى ان التجارب القاسية التي مرت على العراقيين علمتهم دروسا بليغة، فاذا لم يتعظوا بها اصيبوا بتجارب امر وأقسى منها، وربما حلت بهم الكوارث ما يفسرهم على تغيير طريقة تفكيرهم وسلوكهم. وعلى العراقيين ان يتعودا على الحياة الديمقراطية وان يمارسوها ممارسة فعلية بحيث تتيح لهم حرية أبداء الرأي والتفاهم والحوار العقلاني من دون فرض أي رأي بالقوة على الآخر. 

فهل وعى العراقيون ما قاله الوردي قبل أكثر من نصف قرن وأخذوا الدروس والعبر من المحن والتجارب المريرة الماضية التي مرت عليهم خلال العقود الأخيرة ؟!

 

Opinions