بوادرُ فَشَلِكَ بانتْ فتداركْها يا وزيرَ الزراعة
تصفيرُ جهودِ الغير:كمواطن بسيط، أتمنى النجاح كل النجاح لجميع الوزراء مهما كان إنتماؤهم؛ لأن نجاح الوزير، بل نجاح أي مسؤول في الدولة العراقية، يعني أن خدمة حقيقية قد أنجزت للشعب الذي ظُلم كثيراً وطويلاً حتى فقد توازنه، كأفراد وأحزاب، منذ زمن بعيد وأصبح يتخبط ويجرح نفسه بنفسه.
من هذا المنطلق فأنا أنبِّهُ وزيرَ الزراعة السيد عز الدين الدولة إلى خطأٍ جسيم إقترفه سيتسبب في فشله بكل تأكيد إذا ما أغفل معالجته أو تمادى فيه.
في حديث له ولمستشار وزارة الزراعة الدكتور فيصل رشيد ناصر مع قناة "العراقية" الفضائية بتأريخ 2/3/2011 ، ضمن برنامج "الزراعة العراقية... الواقع والطموح"، كانت أول جملة نطق بها الوزير عبارة عن تصفير لأعمال الوزارة قبل تسلّمه إياها منذ شهرين تقريباً. ثم أردف قائلاً، ربما لتعزيز رأيه بتقديم السبب،: "لا يمكن أن تُدار الوزارة عن طريق الوكلاء". (أعتقد أنه كان يلمِّح إلى إنشغال الوزير السابق الدكتور أكرم الحكيم بملف "المصالحة" إضافة إلى وظيفته كوزير للزراعة).
عجبتُ لهذا الهجوم الصاعق لأن متابعاتي، رغم تواضعها، للوضع الزراعي بالأخص عبر برنامج "بالعراقي" الذي تنضمه فضائية "الحرة" وعبر برامج قناتي "العراقية" و "الفيحاء" وقراءات هنا وهناك، ولَّدتْ لدي الإنطباع بأن إهتماماً ملحوظاً كانت توليه الحكومة العراقية للواقع الزراعي ما ساهم في إحراز تقدم ملحوظ في ذلك المضمار. علمتُ أن هناك ما تُسمى " المبادرة الزراعية" التي أطلقها رئيس الوزراء السيد نوري المالكي وأثبتت جدواها وفهمتُ أنها ستستمر للسنة الثالثة.
فكيف، إذاً، يطلق الوزير ذلك التصريح الخطير؟
فنَّدَ الوزيرُ نفسَه بنفسِه:
لم يقطع الحوار إلا شوطاً قصيراً حتى فنَّد الوزير نفسه بنفسه. إذ وافق على ما طرحه المستشار من أن هناك مشاريع بمختلف الحجوم تتراوح بين العملاق وبين المتوسط والصغير جاري العمل بها ومنذ مدة غير قصيرة مثل مشروع الري بالتنقيط الذي يستهدف تغطية (3) ملايين دونم، إقراض الفلاحين بدون فائدة إذ بلغ الإقراض لحد اليوم (622) مليار ديناراً. وشملت المساعدات والدعم لمربي الدواجن والأسماك والعجول وشملت نشاطات المكننة الزراعية وحفر الآبار. كما دعمت الوزارة أسعار الأسمدة والعلف بواقع 40% من سعرها الأصلي، وقامت بتوزيع النايلون والهياكل والساحبات للبيوت البلاستيكية بأسعار مدعومة تبلغ 50% من سعرها؛ كما سمحت الوزارة للفلاحين والمربين بشراء سيارات نقل (بيك أب) دون الحاجة لإسقاط سيارة بالمقابل. وقال الوزير أن جميع الأراضي المستصلحة مستغلة للإنتاج الزراعي رغم أن بعض مستغليها يقومون بذلك متجاوزين حق الملكية أو التعاقد ولكن المهم أنَّ الأراضي مستغلة وتنتج. وأعلن المسؤولان أنه تم لحد الآن إنجاز أربع محطات نسيجية لتنمية النخيل التي هبط عددها في العراق من (30) مليون نخلة إلى ما بين (10 – 12) مليونأ بسبب حروب النظام البعثي الطغموي* أساساً. وأخيراً أعلن الوزير والمستشار عن وجود خطة لإنشاء (30) قرية عصرية زراعية تستوعب كل منها العشرات من المهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين. أشار المستشار إلى أن إستملاك الأرض كانت العائق الذي حال دون المباشرة بمعظم هذه القرى حيث يتطلب التخصيص، من جانب مجالس المحافظات، وقتاً غير قليل بسبب وجوب حصول على موافقات من جهات مختلفة كوزارة النفط والدفاع وهيئة الآثار وغيرها. تم التمليك والمباشرة بالعمل في محافظة كربلاء؛ وتم الإعتراض على الأرض الممنوحة من قبل محافظة السماوة لعدم صلاحيتها للزراعة.
وأعتقد، فوق هذا، أنه لو أتيح المجال للمستشار لأبلغنا عن مشاريع أخرى هامة كان يلوِّح بها.
نطق الوزير بجملة وجدتها صادقة وفي محلها، إذ قال: "لدى الوزارة قصور في أدائها الإعلامي". وفي الحقيقة أرى أن هذه ملاحظة لها مصداقيتها على عموم الوضع العراقي في ظل إلغاء وزارة الإعلام وفي ظل إطلاق الحريات العامة مع ترك الرقابة منوطة بضمائر العاملين بهذا الحقل وشعورهم بالمسؤولية الوطنية ما زرع في الوسط الإعلامي، مع بالغ الأسف، بعضَ جهاتٍ وقنوات مموَّلة خارجياً بهدف تخريب التوجه الديمقراطي الذي يرعب الكثيرين في المحيط.
الزراعة العراقية والسياسة:
بعد الكلمة الصاعقة للوزير في بداية الحديث، أعقبه مستشار الوزارة الدكتور فيصل رشيد ناصر شارحاً مشروعاً للوزارة إعتبرَه عملاقاَ بحجمه وأهمية هدفه. فنظراً لشحة المياة الواردة من تركيا وإيران وسوريا، عمدت الوزارة،، منذ عدة سنوات، إلى إطلاق مشروع "الري بالتنقيط" الذي كان سيوفر كميات هامة من المياهً بعد تقليل الفاقد منها عند هجر الأسلوب التقليدي في الري.
هنا وقبل أن يُكمل المستشار حديثه قاطعه الوزير مدلياً بتصريح صاعق آخر إذ قال: "هذا ليس حلاً جذرياً". وراح يشرح "الحل الجذري" الذي كان مفاده أن تستخدم الحكومة العراقية آلية الضغط الإقتصادي على الدول الثلاث (إيران وتركيا وسوريا) حيث يبلغ حجم التبادل التجاري مع كل منها عدة بلايين من الدولارات وذكر الرقم (9) ملياراً.
هنا دخلت السياسة على خط الزراعة وعلى الوجه التالي:
أولاً: أظهر الوزير جهلاً بقضية الخلاف العراقي - التركي حول كمية المياه المطلقة من تركيا إلى العراق. فأكثر من حلقة من حلقات برنامج "بالعراقي" في فضائية "الحرة – عراق"، تناولتْ هذا الموضوع وشاركَ فيها خبراء من وزارة الموارد المائية وأكاديميون، مالوا فيها إلى وجود مصداقية بقدر كبير في إدِّعاء الحكومة التركية بكون ما تُطلقه من مياه إلى العراق يكفي لإحتياجاته وفق القوانين والمعايير الدولية، غير أنَ المياه المفقودة والتبذير داخل العراق، والكلام مازال للحكومة التركية، يشكلان هدراً هاماً لهذا المورد الحيوي. من هذا المنطلق دعى اولئك الخبراء العراقيون السلطات المعنية إلى وجوب تقليل الفاقد من المياه عبر إتخاذ إجراءات فعالة وجادة يقف على رأسها مشروع "الري بالتنقيط".
ثانياً: بإثارة وزير الزراعة موضوع إستخدام آلية الضغط الإقتصادي على الجيران وتنويهه، ضمناً، بتقصير الحكومة العراقية في إستخدام هذا الحق لصالح مياه العراق، يكون قد أبدى نفاقاً سياسياً ما بعده من نفاق وكما يلي:
- أقام إئتلاف العراقية، الذي ينتمي إليه السيد وزير الزراعة، الدنيا ولم يُقعدها عندما أبدت الحكومة العراقية قليلاً من الحزم حيال الجيران لأمر أكثر إلحاحاً وخطورة من قضية المياه وهو تصدير الإرهاب والإرهابيين إلى الداخل العراقي حيث حصدوا الأرواح البريئة بالجملة. فراح السيد أياد علاوي وغيره من قياديي إئتلاف العراقية يلقي باللوم على حكومة المالكي لتدني العلاقات وهي التي حاولت إقامة علاقات طيبة مع الجيران دون إستجابة. فماذا كان سيفعل قادة إئتلاف العراقية لو إستخدمت الحكومة العراقية آلية التجارة للضغط على تركيا وهو أمر لا تبيحه قوانين "منظمة التجارة العالمية" (الكَات) التي يطمح العراق إلى الإنضمام إليها؟
- أما كان حريّاً بالوزير السيد عز الدين الدولة أن يوجه لومه لا لحكومة المالكي بل إلى زملائه، هو، في إئتلاف العراقية وجبهة التضامن الذين أكثروا من زياراتهم إلى تركيا لمختلف الأغراض إلا منفعة العراق، الأمر الذي شجع تركيا وغير تركيا كإيران والسعودية وسوريا على الإستهانة بالحقوق العراقية؟ فمِنْ تركيا خاطب الدكتور عدنان الدليمي ، رئيس جبهة التضامن، العالم الإسلامي مستنجداً به من "كارثة" سيطرة الشيعة على "بغداد رشيد هارون" (من شدة إنفعال الرجل نسي الإسم الصحيح: هارون الرشيد!!). ومن شاشة التلفزة التركية أطلَّ نائب رئيس الجمهورية السيد طارق الهاشمي، أيام التجاذبات لتشكيل الحكومة بعد إنتخابات 7/3/2010، على تركيا وعلى العالم ليطالب بتغيير الدستور العراقي!!! بعد أن أكَّد للجمهور العراقي الناطقُ الرسميُ بإسمه، السيدُ عبد الإله كاظم، بأن زيارات السيد النائب المتكررة إلى تركيا تهدف إلى تأمين تدفق الماء إلى العراق!!
بعد هذا آمل أن يبادر السيد وزير الزراعة إلى تصحيح خطإه وأن ينصرف إلى أعمال وزارته ويعمل كوزير في الدولة العراقية لا كمروِّج لدعاية حزب أو إئتلاف يسعى إلى الظهور بمظهر الوحيد القادر على إدارة شؤون العراق وحماية مياهه ومصالحه. آمل أن يدرك أيضاً أن الأمة العربية بعد الثورات الديمقراطية السابقة والقائمة واللاحقة ما عادت بحاجة مفترضة إلى وظيفة "حارس البوابة الشرقية".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*: الطغمويون والنظم الطغموية: هم أتباع الطغم التي حكمت العراق وبدأت مفروضة من قبل الإحتلال البريطاني في عشرينات القرن الماضي، ومرت النظم الطغموية بمراحل ثلاث هي: الملكية السعيدية والقومية العارفية والبعثية البكرية-الصدامية. والطغمويون لا يمثلون أيا من مكونات الشعب العراقي القومية والدينية والمذهبية بل هم لملوم من الجميع ، رغم إدعائهم بغير ذلك لتشريف أنفسهم بالطائفة السنية العربية وللإيحاء بوسع قاعدتهم الشعبية. مارستْ النظمُ الطغمويةُ الطائفيةَ والعنصريةَ والدكتاتوريةَ والديماغوجيةَ كوسائل لسلب السلطة من الشعب وإحكامالقبضة عليها وعليه. بلغ الإجرام البعثي الطغموي حد ممارسة التطهير العرقي والطائفي والإبادة الجماعية والمقابر الجماعية والجرائم ضد الإنسانية كإستخدام الأسلحة الكيمياوية في حلبجة الكردستانية والأهوار. والطغمويون هم الذين أثاروا الطائفية العلنية، بعد أن كانت مُبَرْقعَةً، ومار سوا الإرهاب بعد سقوط النظام البعثي الطغموي في 2003 وإستفاد الإحتلال من كلا الأمرين، فأطالوا أمد بقاءه في العراق بعد ثبات عدم وجود أسلحة الدمار الشامل. كان ومازال الطغمويون يتناحرون فيما بينهم غير أنهم موحدون قي مواجهة الشعب والمسألة الديمقراطية؛ كماإنهم تحالفوا مع التكفيريين من أتباع القاعدة والوهابيين لقتل الشعب العراقي بهدف إستعادة السلطة المفقودة.
**: الطائفية: للطائفية معنيان: أحدهما عقائدي وهي طائفية مشروعة إذ تبيح لائحة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة حق إعتناق أية ديانة وأي مذهب ومعتقد ديني أو سياسي أو إيديولوجي شريطة ألا يدعو إلى الكراهية والعنف والحرب. إن محاولة توحيد أصحاب المذاهب من الديانة الواحدة هو ضرب من الخيال. فالطريق الأسلم والحل الصحيح هو أن يحترم كلُ شخصٍ قوميةَ ودينَ ومذهبَ وفكرَ الآخر على ما هو عليه دون قمع أو إقصاء أو تهميش أو إكراه على التغيير القسري؛ ويتم كل ذلك في إطار الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات. أما الطائفية المقيتة والمدانة فهي الطائفية السياسية، بمعنى إضطهاد وإقصاء وتهميش طائفة على يد طائفة أخرى أو على يد سلطة طغموية لا تمت بصلة لأية طائفة. لو تعمقنا في موضوع الطائفية السياسية لوجدناها ترتبط بمصالح طبقية. والطائفي هو من يمارس الطائفية بهذا المعنى أو يؤيدها أو يدعو لها. طائفية السلطة الطغموية ضد الشيعة وغيرهم هي التي حصلت في العراق إبان العهد الملكي السعيدي والقومي العارفي والبعثي البكري- الصدامي؛ ولم يحصل إضطهاد طائفة لطائفة أخرى. وعلى يد تلك النظم الطغموية مورست العنصرية، أيضا، ضد الأكراد والتركمان والقوميات الأخرى، كما مورس إضطهاد الأحزاب الديمقراطية واليسارية وخاصة الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي بسبب أفكارها الديمقراطية والوطنية والتقدمية. وقد حوربت الأحزاب الدينية الديمقراطية بوحشية خاصة أثناء الحكم البعثي الطغموي. الحل الصحيح للقضاء على الطائفية السياسية يكمن بإعتماد الديمقراطية بكامل مواصفاتها اساساً لنظام الدولة وعدم حشر الدين في الشئون السياسية. لا نجد اليوم في الدستور العراقي والقوانين ما ينحو بإتجاه الطائفية. وحتى برامج الأحزاب الدينية لا تحتوي على هكذا إتجاهات. وهو أمر يدعو إلى التفاؤل والتشجيع، آخذين بنظر الإعتبار ضرورة التمييز بين ما هو شأن سياسي وما هو شأن ثقافي تراثي شعبي قابل للتطوير في أشكاله الطقوسية.