Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

بين صحافتين جيدة وسيئة

 

في سنة 1852 كتب رئيس تحرير جريدة " التايمز" اللندنية يقول : " ان الواجب الأساسي للصحافة هو الحصول على أحدث وأدق المعلومات عن الأحداث ونشرها على الفور ، بحيث تصبح ملكاً للأمة بأسرها ." ورغم مرور ( 162 ) سنة على هذه المقولة فأنها ما زالت صحيحة وتشكل حداً فاصلاً بين الصحافة المهنية الناضجة وبين أنواع أخرى عديدة من  الصحافة اللامهنية ، وأصبحت أكثر أهمية في عصر عولمة الأتصالات ، التي أتاحت نشر أحدث المعلومات لحظة بلحظة عبر وسائل تقنية متطورة .

 فالمحك الحقيقي لأية صحافة ، هو مدى دقة ومصداقية المعلومات المنشورة ، فالصحافة الجيدة ، تتحرى الحقائق وتتأكد من مصادرها ، وتثقف جمهور القراء بما تنشره من تحليلات وآراء وتحقيقات وأستقصاءات  .

 

الصحافة المهنية وصحافة البروباغاندا :

 

الصحافة المهنية بمفهومها الحديث ،  هي  تلك التي تلقي الأضواء على ما يحدث في المجتمع والعالم من احداث وتطورات أولاً بأول وبكل موضوعية وتراقب الأداء الحكومي  وتكشف عن مكامن الخلل فيه ، ليس من أجل النيل منه ، بل في سبيل لفت أنظار الحكومة والرأي العام  اليها وتنشر التحليلات المتعمقة والمفيدة لوجهات نظر متباينة وليس لوجهة نظر واحدة  ، صحافة شفافة تحترم جمهورها وتلتزم بالمعايير الأخلاقية والقانونية للعمل الصحفي وتراجع أعمالها وتصحح مسارها اذا دعت الحاجة الى ذلك .

الصحافة المهنية وليدة الديمقراطية ، نشأت وتطورت مع نشؤ وتطور الديمقراطية الغربية  وفصل واستقلال السلطات التنفيذية ، والتشريعية ، والقضائية عن بعضها البعض . ومن دون وجود هذه السلطات الثلاث المستقلة  لا يمكن تصور وجود صحافة مهنية حرة ومستقلة.

 هذا الفصل بين السلطات  أمر جوهري للغاية . ففي النظم الشمولية هناك سلطة واحدة فقط هي السلطة التنفيذية ، التي تهيمن على السلطتين التشريعية والقضائية ولا توجد صحافة حقيقية ،  وان وجدت فهي ( بروباغاندا ) أو دعاية سياسية لرأس النظام وللحزب الحاكم .

هكذا كان الأمر في ألمانيا الهتلرية و روسيا الستالينية والعراق الصدامي وليبيا القذافي، وهذا هو حال الصحافة اليوم في معظم الجمهوريات السوفيتية السابقة  وفي روسيا البوتينية نفسها.

الصحافة بالمفهوم العلمي لهذا المصطلح لا يمكنها ان تعيش الا في أجواء الحرية والشفافية والعلنية.

.

ففي ظل النظام السوفييتي كانت ثمة ( صحف ) تتباهي بأنها تطبع وتوزع ملايين النسخ يومياً ومنها صحيفة ( البرافدا ) أي ( الحقيقة ) التي كانت تعتبر نفسها الصحيفة الأكثر توزيعاً في العالم . وعندما كنت في موسكو خلال الستينات من القرن الماضي وفي زياراتي التالية لها،  كنت أرى وأسمع غالبا كيف يتهكم القراء الروس على صحيفة ( البرافدا – الحقيقة ) قائلين : ان " لا حقيقة في صحيفة الحقيقة " ولم تكن الصحف السوفيتية الأخرى الا تنويعاًت على ما تنشره ( البرافدا ) ولا أحد من الصحفيين السوفييت – وبينهم عدد كبير من الصحفيين الشرفاء المخلصين لمهنتهم والذين بلغوا مرتبة رفيعة من الأحترافية  - كان قادراً على قول الحقيقة كما هي ، وان فعل ذلك ، يفصل من وظيفته أو يلقى به في غياهب السجون . وفي أفضل الأحوال كان مصير ما يكتبه الى سلة المهملات .

 ولم تكن صحافة صدام أفضل من ( الصحافة ) السوفيتية .، ان لم تكن أسوأ بكثير .

في الثمانينات من القرن الماضي  ، قال لي صديق  بولوني مثقف كان مديرا لمكتب شركة ( بول سيرفس ) البولونية في العراق -  وهي الشركة التي وضعت التصميم الأساسي لمدينة بغداد -  وكان يتابع  بحكم وظيفته ما تنشره الصحافة العراقية ، قال لي هذا الصديق : " أنا لا أفهم لماذا لا تصدر الحكومة صحيفة يومية واحدة فقط توفيراً للجهد والمال ، لأن الصحف اليومية الخمس التي تصدر الآن ، متشابهة المحتوى تماما ولا تختلف الا من حيث الشكل والأخراج ، وكلها تتحدث عن صدام و تزين صفحاتها الرئيسية بصوره.

 

 وصفوة القول ان التعددية السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير ضرورية للصحافة المهنية  كالهواء للأنسان ولا قيمة لصحافة لا تستطيع قول الحقيقة  .

 

صحافة ( البروباغاندا ) بكافة أشكالها وصورها ، صحافة  تعتاش على التضليل المتعمد للجمهور وحجب او تشويه الحقائق وتجميل النظام الشمولي الحاكم  وتلميع صورة القائد الضرورة أو الأخ الأكبر- حسب اورويل -  وتبرير افعاله مهما كانت شنيعة .

هذا النوع من الصحافة ليست  مقصورة على الصحافة الرسمية للأنظمة الشمولية ، بل تشمل الصحافة الأهلية المنحازة وصحافة المعارضة المؤدلجة خاصة في بلدان الشرق الأوسط ، عندما تنتهج خطا ايديولوجيا واحدا ومحدأً وتفسر كل شيء بمقتضاه ، ولا تنشر الا ما يؤيد وجهة نظرها ، متجاهلةا الآراء الأخرى .  وتنتقد السلطة بأستمرار وتتحامل عليها  ولا ترى الا جانباً واحداً من اعمالها ، وهو الجانب السلبي.

 

مثل هذه الصحافة تدعي الأستقلالية بذريعة أنها غير تابعة للدولة .  ولكن استقلالية الصحافة لا تعني فقط عدم تبعيتها للدولة او جهة ما  ، بل عدم انحيازها في سياستها التحريرية.

ونرى أحيانا ان الصحافة الحزبية الجادة ، أكثر موضوعية من بعض الصحف التي تدعي الأستقلالية ، لذا فأن تقسيم الصحافة الى صحافة حكومية أو حزبية وصحافة أهلية (مستقلة) ، أمر غير صائب ،  لأن المحك الحقيقي للصحافة هي مدى الألتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية للصحافة .

 

الصحافة الجادة والصحافة الشعبية :

 

يرى بعض خبراء ومنظري الصحافة أن ثمة نوعين من الصحافة هما :

  الصحافة الجادة أو الرصينة والصحافة الشعبية أو صحافة التابلويد (  Tabloid ) أ و الصحافة الصفراء  .وهذه الألوان  الثلاثة الأخيرة ، متقاربة ومتشابهة من حيث المحتوى   وان أختلفت في أخراجها ودرجة ( اصفرارها ) .

 

تتميز الصحافة الجادة  بغلبة المعالجات الصحفية التحليلية ( المقالات ، تقارير المراسلين ، النقد الأدبي والفني ، عرض الكتب ، التلعليقات . وهذا لا يعني أنها لا تهتم بآخر الأخبار ، فتقارير المراسين تكون في العادة من مواقع الأحداث مباشرة ، أضافة الى  ما تبثه وكالات الأنباء العالمية ، وهي تلتزم المعايير الأخلاقية للعمل الصحفي وتتوجه أساساً الى أفراد النخبة الواعية  في المجتمع - وهم في الأغلب الأعم من المثقفين والساسة ورجال الأعمال والمديرين ... الخ -  حيث تقدم لهم  نظرة متعمقة للظواهر والأحداث تستند الى معلومات موثوقة تساعدهم  في تشكيل قناعاتهم وآرائهم وتسمح لهم بأتخاذ قرارات صائبة في مجالات عملهم وفي حياتهم اليومية وتساعدهم في تكوين قناعاتهم خلال الأنتخابات والأستفتاءات.

 

النخب المثقفة في الدول الأوروبية المتقدمة وخاصة في بريطانيا تحرص على اقتناء الصحف الجادة  وليس صحف التابلويد ،  حتى لا تصنف نفسها ضمن الباحثين عن ثقافة الإثارة.

وتعد صحيفة ( الغارديان ) البريطانية نموذجاً رفيعاً للصحافة الجادة الى جانب صحف أنجليزية أخرى .

وفي فرنسا هناك صحيفة   لوموند (  Le Monde) الرصينة التي حازت ثقة الأوساط الثقافية والأكاديمية بما تنشره من معلومات موثوقة وما تتميز به تحليلاتها من موضوعية ومهنية رفيعة  ، الى درجة ان أساتذة وطلبة الجامعات الفرنسية يستخدمون موادها المنشورة كمراجع دراسية ، كما تتسم خصائصها الطباعية واخراجها الصحفي بمستوى عال من الحرفية الفنية وهي تفضل غالباً التعليقات النصية على الصور المثيرة وتصدر بحجم (  А2)

 

أما  الصحافة الشعبية أوصحافة التابلويد او الصحافة الصفراء ، فأنها تهدف في المقام الأول الى تحقيق أقصي ما يمكن من أرباح بصرف النظر عن المعايير الأخلاقية الصحفية وتتميز بسياستها التحريرية الهابطة ولغتها الصحفية المبتذلة وهي تتميز بقطعها وشكلها المستطيل غالباً، وتصميم أخراجها وحروفها المطبعية الكبيرة ، بحيث يعرفها القارئ من النظرة العجلى ،  صحافة تدغدغ مشاعر القراء وتكثر من نشر الصور الملونة الجذابة للمشاهير  والعناوين الخادعة واستعمال المختصرات ، وتميل إلى معالجة الموضوعات المثيرة. وهي موجهة أصلا الى الجمهور العام الذي ينشد الترفيه وتجذبه فضائح المشاهير والجرائم الشاذة وغرائب الأخبار ، و طرائف النوادر ، وتوافه المعارف .

 

وقد تطور هذا النوع من الصحف بمرور الزمن واصبح أصغر حجماً من اجل اجتذاب مسافري السكك الحديد وقطارات الأنفاق والحافلات لأن الصحف التقليدية تأخذ حيزاً كبيرا  بين يدي القارئ وربما يضايق بذلك الآخرين في المقاعد المجاورة أو يثير فضولهم لقراءة الصحيفة التي أقتناها الراكب لنفسه .

 

صحافة جيدة ... صحافة سيئة :

 

يرى الصحفي البريطاني  البارز ديفيد راندال "  David Randall " في كتابه القيم " الصحفي الشامل " إن هناك نوعين فقط من الصحافة : جيدة وسيئة . ويقول في هذا الصدد " ليست هناك صحافة غربية او شرقية ، ولا صحافة أميركية أو روسية أو فرنسية أو بريطانية أو بولونية أو عربية.

 كما لا توجد صحافة ليبرالية أو ماركسية او محافظة أو جمهورية أو ديمقراطية ، ثمة فقط صحافة جيدة وأخرى سيئة ، وكلتاهما عابرة للقارات ولا تعرف حدوداً جغرافية ويمكن أن تكون بأية لغة من لغات العالم .

 

ومقابل كل صحفي جيد ، مخلص لمهنته وملتزم بالمعايير الأخلاقية للعمل الصحفي ، ثمة صحفي ينتقي الأخبار والمعلومات ويعالجها بما يرضي رؤسائه لا الحقيقة ً ، وكلاهما يتسم بطابع عالمي ، أي انهما  موجودان في كل أنحاء العالم .

 

وبطبيعة الحال فأن لكل شعب ثقافته وتقاليده ولكل لغة صوتها المميز . ولكن ما يوحد الصحفيين الجيدين في جميع أنحاء العالم أكثر عمقاً وأهميةً مما يفرقهم

 

أن  ظروف عمل الصحفيين تتباين في البلدان المختلفة ومن بلد الى بلد  ، ففي الأنظمة الشمولية يعمل الصحفيون في ظل الرقابة الحكومية على وسائل الأعلام وبضمنها الصحافة الورقية ولا يحصلون على المعلومات الحقيقية  الا بشق الأنفس ، كما استخراج حبات الذهب من رمال النهر .

، في حين أصبحت الرقابة في الدول الديمقراطية من تراث الماضي ،  حيث التدفق الحر الهائل للمعلومات من دون قيود أو حدود .

 

البعض يكتب في صحيفة تصدر بأربع صفحات والبعض الآخر في  صحيفة تصدر بمائة صفحة مع الملاحق ،  ينؤ القاريء بحملها ناهيك عن قراءتها . ... ولكن الصحفيين الجيدين ، أينما كانوا يسعون دائماً الى ان تكون صحفهم ، صحافة مهنية ذكية مبنية على الحقائق : صحافة صادقة المقصد وتخدم هدفاً واحداً : الحقيقة دون تحريف أو تشويه أو مبالغة .صحافة تخاطب القراء أيا كانوا ، ومهما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم .

 

هذا الهدف العام يجمع الصحفيين الجيدين ويوثق بينهم أواصر الزمالة الحقة أكثر من أي شيء آخر مثل محل الولادة أو الأقامة . ويستثني من ذلك الذين يتعجلون الحكم بدلاً من اكتشاف الحقيقة، هؤلاء لا يبحثون الا عن مصالحهم بدلا من مصالح القراء . اولئك الذين يفضلون التعليق والتأويل على المعلومة الدقيقة والتهكم والأنانية وخرق المعايير المقبولة على المثل والمبادئ .، والمعالجة الصحفية الضحلة  على العمل الشاق والمتعب في البحث عن الحقيقة

.

ان الصحافة الجيدة  ذكية وممتعة ، وموثوقة في معلوماتها  ولا تخدم سوى الحقيقة ، وبغض النظر عن القراء ، والثقافة ، واللغة ، والظروف . أما الصحافة السيئة فهي كل ما عداها من أنواع الصحافة ،  سواء أكانت صحافة (البروباغاندا ) أو صحافة الترفيه والتسلية بشتى مسمياتها  .

 

جـــودت هوشـيار

jawhoshyar@yahoo.com

 

 

Opinions