تذكار مار أنطونيوس أبي الرهبان
مار أنطونيوس الكبير أبي الرهبان: هو ذاك الكوكب الساطع الضياء، الذي أشرق في صحاري مصر العليا، فبدد ظلماتها، وملأها أنواراً سماوية، وجعل تلك القفار تموج بطغمات النساك والرهبان، واسمع تلك الفلوات مئات من السنين، بتسابيح ملائكية آناء الليل وأطراف النهار، ونشر في تلك البلاد عبير الفضائل المسيحية والكمالات الرهبانية، فعطرت تلك الصخور وبللت تلك الرمال، ولم يزل شذاها يفوح ويضوع ويملأ المسكونة.ولد أنطونيوس نحو سنة 251 في مدينة كوما في صعيد مصر وتعرف اليوم بـ كوم العروس. نشأ في بيت كريم من أرباب الوجاهة والغنى. إلا أنه كان ميالاً منذ نعومة أظفاره إلى التقوى والتمسك بأهداب الفضيلة، وازدراء ملذات هذه الدنيا ونعيمها. ولم يرغب في العلوم العالية والآداب اليونانية، خوفاً من أن تفسد الوثنية عقله وتنال من فضيلته. ومات والداه وهو شاب يافع، وله أخت صبية أصغر منه. فلم تبهره الأموال الطائلة التي ورثها، بل بقي محتفظاً على فضيلته وطهارته، متمسكاً بحبال التقوى. وعني بأمر شقيقته، فكان لها الأخ الصالح المحب الشفيق.
وكان أنطونيوس دائم التأمل بالإلهيات، كثير التفكير في زوال الدنيا ودوام الأبدية. فدخل الكنيسة يوماً، فسمع الكاهن يتلو الإنجيل ويقول: " إذا أردت أن تكون كاملاً فأذهب وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء، وتعال اتبعني ". فسقطت تلك الآيات على قلبه سقوط الندى على الرياض، فأنعشت عواطفه وحركت كوامن رغائبه، وسمع في داخله صوتاً يقول له: " إن السيد له المجد يقول لك ذلك يا أنطونيوس، ويدعوك إلى ذلك الكمال المسيحي ". فسجد للرب وتضاءلت الدنيا في عينيه، ونظر إلى الصحراء القريبة، فاستهواه سكونها وعظاتها الصامتة.
فذهب وباع أملاكه وضياعه وأعطى شقيقته ما يعود إليها من ميراث والديها، ووكل أمرها إلى بعض العذارى المتعبدات. ووزع ما خصه على الكنائس والفقراء، وقصد أحد النساك فتتلمذ له، وبدأ تحت إرشاده حياة الزهد والصلاة والطاعة والتجرد. ويخضع جسده بجميع أصناف التقشف والزهد. فلا يأكل إلا مرة واحدة في النهار، ويقضي أيامه ولياليه في التأمل والصلاة والشغل اليدوي، ويرقد على الحضيض، ويجلد ذلك الجسد الطموح المتمرد المملوء صحة ونضارة وشباباً واندفاعاً. إلا أن الله الذي يريد للفضيلة السامية أساساً صخرياً، سمح للشيطان أن يمتحن عبد أنطونيوس بجميع أنواع التجارب، فهاجمه الشيطان بكل قواه. فذكره بما كان يملك من ثروة واسم كبير ومجد أثيل فبدده. لكنه نظر إلى المصلوب، وصمد لذلك الهجوم الشيطاني بكل ثبات، فرحاً لكونه أضحى فقيراً ذليلاً لأجل المسيح. فعاد الشيطان ونازله في ميدان الأهواء الجسدية، فقاومه بكل ما اوتيه من عزم، بواسطة الصلاة والصيام وإماتة ذلك الجسد المتمرد والالتجاء إلى والدة الإله.
وانفرد أنطونيوس يوماً في الصحراء ودخل قبراً قديماً، وبقي هناك أشهراً يمارس أعمال النسك والتقشف. فكان الشيطان يناوئه كثيراً. وجمع مرة جموعه وهجم عليه بصورة وحوش ضارية مخيفة من السباع والضباع والدببة والخنازير والحيات والعقارب. فكانت تزأر وتعوي وتزمجر وتصفر وتهجم عليه وتمزق جسده بأنيابها ومخالبها. وكان هو يقاومها بإشارة الصليب ويصلي وينظر إلى السماء، وهكذا الليل بطوله. ولما لاح الفجر هدأت العاصفة وعادت تلك الوحوش أدراجها مكسورة، تاركة أنطونيوس مطروحاً على الأرض مخضباً بدمه. أما إرادته فكانت واقفة تهاجم لا تنثني ولا تستسلم.
وبعد أن مارس سنين عديدة أعمال النسك استهوته الصحراء، فترك الديورة القريبة من المدن، وانفرد في الصحراء. فحمل معه شيئاً من الخبز يكفيه ستة أشهر. ولما رأى نفسه وحيداً في تلك الصحراء، شعر بداخله بفرح لا يوصف، وتراءى له مجد الله يملأ تلك البراري الصامتة. لكن الشيطان كان يتبعه وينظر إليه بعين الغضب، لعلمه بأن تلك البراري الموحشة سوف تصبح عما قليل آهلة بالرهبان، وأن ذلك الصمت الرهيب لن يلبث حتى يتحول إلى أصوات التسبيح تتصاعد إلى عرش الرب. وبقي كذلك سنين طويلة، وكان أحد الأخوة يأتيه كل ستة أشهر بشيء من الخبز والتمر والماء. وعندما عرف الناس مقره، أخذوا يأتونه زرافات ووحداناً، ليتبركوا به ويسمعوا أقواله ونصائحه. ورغب إليه كثيرون أن يقبلهم في عداد تلاميذه، ويسمح لهم بإتباع طريقته، فترك عزلته ونزل إلى ضفاف النيل في سهول الفيوم[1]، حيث أنشأ لهم ديورة عديدة، كانت تحيط بصومعته إحاطة الكواكب السيارة بالشمس المضيئة. وكان أنطونيوس مثالاً للجميع بالصوم والصلاة والتأمل العقلي وحفظ الصمت وشغل اليدين. وكان يلبس المسح على جسمه، ويرتدي من فوقه برداءٍ من جلد الغنم. وكان طعامه الخبز والملح وقليلاً من البلح. وكان لا يأكل إلا مرة واحدة كل ثلاثة أو أربعة أيام. وكانت مواعظه لأبنائه ولزواره بسيطة قليلة الكلام، ألا أنها كانت سهاماً نارية تذهب مسرعة إلى القلب فتستقر فيه.
وبعد الاضطهاد الذي جرى بحق المسيحيين سنة 350، وكثر عدد الشهداء في البلاد المصرية، تألم أنطونيوس كثيراً لهبوب تلك العاصفة الهوجاء، وأوصى رهبانه أن يلتجئوا إلى الله بالصلاة والصوم ليخفف عن الكنيسة ويلاتها، ويشدد عزائم الشهداء تحت سيوف المضطهدين العتاة. وذهب إلى الإسكندرية ليشجع إخوانه في الإيمان، ويحملهم على الثبات في احتمال أنواع الآلام. ثم سافر مع قافلة تريد البحر الأحمر[2] عن طريق الصحراء، حتى أتى إلى جبل القلزم ووجد هناك عين ماء وبعض أشجار النخيل. وصعد إلى الجبل فوجد مغارة فدخلها وجعلها مسكنه وصومعة نسكه وعباداته. وأخذ يزرع القمح وبعض الخضار لمعيشته، لكي لا يكون عالة على غيره. وقضى أنطونيوس في تلك الصحراء زمناً طويلاً بعيداً عن أبنائه وأدياره وزواره. ولما طال غيابه أخذ أبنائه بالبحث عنه حتى عثروا على مخبئه، فنزل إليهم وعاد إلى ديورته. وكم سُرَّ وبارك الله لما رأى شقيقته آتية إليه بعد غياب خمسين سنة، ومعها طغمة من العذارى البتولات، اللواتي كن قد تتلمذن لها في أديار النساء التي أنشأتها لهن. وقد أمتاز أنطونيوس في حياته وبعد وفاته بصنع العجائب، ولذا ترى الناس يركضون إليه لينالوا ما يبتغون من النعم. وكان كلما تقدم في السن ازداد كمالاً وتواضعاً وسيرة ملائكية. وكتب إليه الملك قسطنطين يطلب صلاته وأدعيته. وكان شديد الاحترام لرجال الإكليروس، حتى لأصغرهم سناً ودرجة، يركع أمام الأساقفة والكهنة الذين يأتون لزيارته ليأخذ بركتهم، رغم شيخوخته وجلال هيبته وإقبال الألوف على طلب بركاته وصلواته.
وعندما شعر بدنو أجله فرح لرحيله إلى الدار الباقية والأخدار العلوية. فدعا تلميذيه مكاريوس وأماسيوس وقال لهما: " عما قليل سأنضم إلى آبائي فأثبتوا في الإيمان واهربوا من الهراطقة. لا أريد أن تدفنوا جسدي باحتفال، بل واروه في التراب ولا تعلموا أحداً بمقري. أما ثيابي فوزعوها هكذا: ترسلون إلى البطريرك أثناسيوس ردائي الأول، كان قد وهبه لي جديداً فأعيده إليه خَلقاً. أما ردائي الثاني فترسلونه إلى سيرابيون أسقف توميس. والمسح الذي يغطي جسدي يكون لكما ". ثم باركهما وتمدد على الأرض وفارق الحياة بهدوء وسكينة. فعمل تلميذاه كما أوصاهما، ودفنا جسده ولم يعلما أحداً بمكانه. وكان ذلك في 17 كانون الثاني سنة 356، وكان له من العمر مئة وخمس سنين. وبقي جسده في رمال تلك الصحاري حتى سنة 561 حتى عرف الإمبراطور يوستنيانس[3] بإلهام إلهي موضع قبره، فحملت عظامه إلى الإسكندرية. ثم نقلت إلى القسطنطينية، واستقرت أخيراً في مدينة أرل في جنوب فرنسا. وقد تعبد له الشرق والغرب عبادة كبيرة، فهو بالحقيقة كوكب البرية ومجد الحياة الرهبانية وشفيع الشعوب والأفراد في كل زمان ومكان.[4]
وتحتفل كنيسة المشرق بتذكار مار انطونيوس أبي الرهبان في الجمعة الثانية من سابوع موسى.
--------------------------------------------------------------------------------
1_ الفيوم: مدينة في مصر تقع جنوب القاهرة تسقيها مياه النيل، وتشتهر بزراعة الأرز وقصب السكر والتين والعنب. فيها أنقاض أديرة وكنائس. وهناك تقليد يقول أنها دعيت فيوم لأنها بنيت خلال ألف يوم. المنجد في الأعلام ص 539.
2_ البحر الأحمر: ويعرف ببحر القلزم، وهذا البحر ينحصر بين أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. وينفذ إلى البحر المتوسط بترعة السويس شمالاً، وإلى المحيط الهندي بمضيق باب المندب جنوباً. تكثر فيه جنوباً مغاوص اللؤلؤ، وتتعدد فيه الجزر الصغيرة. المنجد في الأعلام ص 26.
3_ يوستنيانس الأول ( 482 _ 565 ): إمبراطور بيزنطي حكم بين سنتي 527 _ 565. حاول توطيد وحدة الإمبراطورية في السياسة والدين والقانون. أمر بتدوين القوانين الرومانية. كمل في القسطنطينية بناء كنيسة أجيا صوفيا. حارب الفاندال والفرس، واستعاد إيطاليا والأقاليم الأفريقية. ساعدته زوجته تيودورا ولكن سياستهما أخفقت في الحقل الديني حيث شجعا المونوفيزية. المنجد في الأعلام ص 755.
4_ السنكسار المشتمل على حياة القديسين المطران ميخائيل عساف ج 1 ص 53 _ 65.