تصفّح كتاب الدكتور أفرام عيسى يوسف وأزمنته السناطية
الأستاذ سمير زوري الصديق الوفي من القوش الحبيبة ، يعرف ان الهدية اغلاهم عندي هي الكتاب ، فأهداني مشكوراً مجموعة من الكتب من بينها كتاب للدكتور افرام عيسى يوسف ـ والموسوم " أزمنة في بلاد الرافدين ذكريات وأحداث 1830 - 1976 " وهو من منشورات دار المشرق الثقافية ، ترجمه علي ابراهيم وراجعه فخري العباسي ، طبع سنة 2009 في دهوك ويقع في 254 صفحة .في سبع ساعات من الزمن الثمين كانت رحلتي من ستوكهولم بالسويد الى اوسلو بحافلة النقل ، وكان رفيقي الوفي في هذه الرحلة الكتاب ، فأردت تصفح الكتب التي اهداها لي الصديق زوري ، باشرت بكتاب الدكتور افرام عيسى يوسف ، وبدأت به متصفحاً ولكن ذلك لم يدم طويلاً إذ بدأت أقرأ ، ثم بدأت أعجب بما أقرأ ، وأحب ما أقرأه ، فرافقني الكتاب في رحلتي ، ورايت المنفعة في الكتابة عما قرأته إن كان مويداً او ناقداً .
مقطع من عنوان الكتاب " أزمنة في بلاد الرافدين " لم يكن متناغماً مع ما ورد في متن الكتاب من أحداث تدور رحى معظمها على لسان الجد او الجدّة او آباء كبار مسنين يحملون ذكريات معظمها يدور حول الأعمال البربرية والأنتقامية التي طالت المسيحيين في الأرياف والقرى المبثوثة في تلك الوديان والوهاد والقمم العاصية والمنسية في مفكرة الأزمان المتعاقبة ، فكان ما يقع من الظلم والعدوان والبربرية على هؤلاء الناس يلفه الأهمال والنسيان مع مرور الزمن ، لكن المؤلف الجليل الدكتور افرام عيسى يحاول شحذ الذاكرة وإنارة كهوفها المعتمة لتسليط الأضواء على تلك
الزوايا المظلمة من عمر الزمن القاسي على هذا الشعب ، الشعب المسيحي من الكلـــدان والسريان والآثوريين والأرمن .
لقد تصفحت الكتاب في البداية كما اسلفت ، واعتقدت ان العنوان " أزمنة في بلاد الرافدين " لم يكن مناسباً مع اسلوب السرد على لسان عدداً من كبار السن من الأقارب والجيران في قرية سناطي العزيزة ( أسناخ ) ، وعلى الأقل تولد هذا الأنطباع بالنسبة لي شخصياً ، لكن بالعودة الى مقولة في في الصفحة 3 من الكتاب يورد الكاتب على لسان الكساندر سولجنستين يقول :
في كل عصر ، يعيش على الأرض أناس لا يملكون فن موهبة جلب الأهتمام اليهم ، أناس لا يمتلكون فن تدوين مشاعرهم لمن سيأتي بعدهم ، وإنما يتمتعون بموهبة سرد الذكريات الى الذين يسمعونهم والذين سوف يأتون بعدهم بعشرات السنين .
كانت هذه ملاحظة ذكية من الكاتب لكي لا يقع القارئ في مطب التخمينات كما وقعت أنا .
في الحقيقة إن الكاتب الجليل لم يدخر جهداً في التعرض لمختلف المسائل التاريخية واللغوية والتراثية .. وغيرها بأسلوب لذيذ ورشيق ، لقد كتب مواضيعه المتناثرة كباقات ورد تشغل مكانها المناسب في أروقة الغرفة الجميلة .
لكن في محطات كثيرة كان الكاتب مجبراً على المرور على تلك المحطات الجرداء الخالية من المحبة الأنسانية المغمورة في مستنقع الحقد والكراهية والتي كانت تتواتر على المسرح الجغرافي عبر السيرورة الكرونولوجية المتتابعة دون توقف او استراحة لالتقاط الأنفاس .
ولج المؤلف الجليل من عالمه البعيد الى ذرى ووهاد وصحاري وسهول وطنه العراقي وسلط مصباحه المضئ على نقطة منسية في هذه الديار حيث كشف ذلك المصباح كهوف قرية سناطي الجميلة والتي تخفي في ثناياها هموم وعذابات شعب كان يوماً سيد هذه البلاد .
يشير الكاتب في صفحة 13 الى محطة مهمة في تاريخ الشعب الأصيل لهذه الديار فيقول :
في القرن السابع الميلادي ، شهدت بلاد دجلة والفرات قدوم فرسان الفتوحات الأسلامية وسرعان ما غدا العرب المسلمون سادة هذه الأصقاع وهيئ لاهل الكتاب من اليهود والمسيحيين ان يحتفظوا بثقافتهم ودينهم ولغتهم ، ولكنهم صاروا من أهل الذمة ، مضطرين ، بشكل او بآخر ، القبول بالحماية التي عرضها لهم العرب لقاء دفع الجزية ..
نعم كانت الفتح الأسلامي هو القشة التي قصمت ظهر البعير ، إذ طفق اهل هذه الديار الأصلاء بين ليلة وضحايا يتحولون من منزلة المواطنين الأصلاء في وطنهم الى اهل الذمة حيث الأحكام الجائرة ، والمؤسف انها مستمرة لحد اليوم بشكل وآخر رغم تنامي لوائح قوانين حقوق الأنسان والتي لا تفرق بين البشر بسبب اللون او الشكل او الدين او الأثنية ...
من قريته الجميلة سناطي ينطلق المؤلف الى عالم اللغة ، اللغة الآرامية ، لغة الأجداد ، ولا ينسى ان يعرج نحو الأنقسامات الكنسية بسبب الجدالات الحامية اللاهوتية حول طبيعة المسيح والأزمات والأنقسامات الكنسية ، وهي لا زالت قائمة حتى الساعة .
رأيت ان المؤلف يستخدم تعبير الشعب الكلداني السرياني الآشوري ، وهو مصطلح مستحدث بتأثير الأحزاب القومية الآشورية ، لكنه يوظف هذا المصطلح وكأنه من مصطلحات الحرب العالمية الأولى ، فكان على الكاتب ان يسمي الأشياء بأسماءها ، وكما كانت في ذلك العصر فهو يتكلم في ص 55 عن مصطلح " سفر بلك " والتي تعني التعبئة العامة للحرب الكونية الأولى 1914 ـ 1918 فكما هو معروف فإن معاهدة سيفر التي أبرمت سنة 1920 استخدمت لفظة منح الحقوق القومية للكلدانيين والآشوريين ، ولم يكن ثمة ما يعرف اليوم بالمصطلح الذي اخترعته الأحزاب الآشورية حول شعب اسمه كلدان سريان
آشوريين ، فلا يوجد في الخارطة الأثنوغرافية لشعوب العالم لاسم مركب كالأسم المطروح والذي يعمل على دفن اسماءنا التاريخية الجميلة في غياهب الخيال والعبثية .
في محطات كثيرة يشير المؤلف الجليل الى معاناة السكان في قرية سناط وفي قرى أخرى فيقول ص 92:
في اعقاب تأسيس الدولة العراقية في العشرينات من القرن الماضي بدأ اشخاص من القبائل الكردية المتمرسين بالنهب يرتكبون عدداً من اعمال السطو فارضين شريعة الغاب في بداية القرن العشرين ، كان النهب والقتل ما يزالان يكدّران العيش والحياة في القرى المسيحية ..
والكاتب في نفس السياق يشير الى الصيف الدامي في فيشخابور سنة 1933 والتي كانت جزء من احداث سميل الدامية يقول الكاتب ص 104
وصلنا زاخو ، توجهنا الى الى حي كيستا ، حيث تتكاثر في أرجائه دكاكين التجار الكلدان والأرمن .. سألنا ما الأمر ؟
كان الجواب : .. خلال ليلة الرابع والخامس من آب اندلعت في منطقة فيشخابور معركة بين الجيش العراقي والآشوريين .. ثم أخذ الجيش العراقي بعد المعركة بالعودة الى ثكناته وارتكب في طريقه متجاً الى الموصل مجزرة رهيبة في في قرى الآشوريين ...
إن الأب البير أبونا يشير الى هذه الأحداث بتفصيل ايضاً في كتابه فيشخابور ص111 ـ 126
في التسلسل الزمني يشير الدكتور افرام عيسى يوسف الى حوادث الحرب العالمية الثانية وما لحق بالأقليات الدينية ومنهم اليهود الذين طالهم ما عرف بالفرهود من اعمال القتل والأغتيال ومن عمليات الأستيلاء ونهب اموالهم على يد أفراد من الجيش والشرطة وأفراد القبائل العربية . ثم يعرج المؤلف على الثورة الكردية التي اندلعت عام 1943 على يد القائد الكوردي ملا مصطفى البارزاني وما تلا ذلك من تطور هذه الثورة في مطاوي العقود القادمة ، ويطعم المؤلف كتابه بعدد من القصص الأجتماعية الحية كقصة حاوا وقصة نونا حنا وكثير من قصص الشخصيات الأجتماعية التي كان
لها دور في مسيرة هذه القرية التي كانت بمثابة مثال حي مواز للقرى المسيحية الكثيرة المنتشرة في هذه الأصقاع .
وأخيراً لا بد لي ان اقف امام العبارات الوجدانية التي خطها الكاتب في وداع سناط العزيزة ، وهي نابعة من القلب والضمير ، إنها كلمات وداعية ليس الى نسيانها سبيل يقول ص 248
وداعاً يا سناط ، يا حسناء الشمال ، يا من سحرني سحرها دائماً وأبداً ، ايتها القرية التي غزا جمالك روحي وقلبي سوف أبقى مخلصاً لك حيثما اتوجه ..ويمضي المؤلف الى القول :
وتوقفت أمي مع ابي لبضعة لبضعة دقائق .. ولم يملكا أنفسهما إلا وهما يقفان أمام أشجار الحور التي كانا قد غرساها بأيديهما في حقل واسع ، قبل اكثر من ربع قرن عندما احتفلا بزواجهما .. وتودع امي كلمات الوداع :
وفي ص 246 يقول :
بدأت أمي وارينا عيسى بزيارة أخيرة لحقول القرية وبساتينها وكأنها تودعها فتجولت بين الأشجار المثمرة واستنشقت أريجها وداعبت بأطراف اناملها جذوعها بخشوع ، وكأنها تلتحق بعالم سرمدي ..انتهت بقطف بضع خيارت طرية وقليلاً من الطماطم الأرجوانية ومثلها من الفلفل الأخضر اللامع والباذنجان المغلف بقشرة مصقولة .. وعادت أمي حزينة الى البيت وكأنها قد فقدت سحنتها الطبيعية من شدة آلامها .. نعم هذه الهجرة هذه هي قلع الجذور ، التهجير من أرض الآباء والأجداد مأساة أنسانية في كل العصور والدهور .
وأخيراً أقول ان الكتاب جدير بالقراءة ويعتبر شمعة مضيئة تنير جوانب مهمة من تاريخ شعبنا من الكلدان والسريان والآشوريين في الوطن العراقي العزيز .
حبيب تومي / اوسلو في 17 / 05 / 2009