تعقيب على تصريح المطران لويس ساكو الموقر بشأن الحكم الذاتي
habeebtomi@yahoo.noفي الحقيقة أنا شخصياً اتجنب الكتابة في الأمور اللاهويتية والأمور الدينية البحتة ، لوجود الاباء الأجلاء والأكليوس ألذين أفنوا حياتهم في الدراسات اللاهوتية والعلوم الفلسفية والبحوث الأجتماعية والتاريخية . ولكن حينما تندرج كتابات الآباء والمطارنة الأجلاء في شؤون السياسة ، سيكون بمقدورنا مناقشة ما يطرحون من آراء وأفكار ، فمجال السياسة عالم قائم على الديالكتيك والحوار والدبلوماسية والمصالح والأخذ والرد والأقناع ... فهو عالم مفتوح للجميع ، إن سيدنا المطران ساكو ، قد تطرق الى رأي سياسي ويبدو واضحاً انه تبنى خطاب سياسي واضح ومطابق
لخطاب جهة سياسية من احزاب شعبنا ، وهكذا كان من الضروري مناقشته المطران بلغة سياسية بعيدة عن منطق الدين والفلسفة اللاهوتية .
قرأت تصريح المطران الموقر لويس ساكو لاصوات العراق بشأن المطالبة بالحكم الذاتي للمسيحيين يقول :
ان “المطالبات بأقامة منطقة حكم ذاتي للمسيحيين في سهل نينوى (شمال الموصل) وهم وفخ وتضييع للوقت ويجلب عدة مشاكل على المسيحيين.”
وأضاف ان “الاعلام المفرط في إقامة إقليم للمسيحيين كان السبب وراء ما جرى للمسيحيين في الموصل ومناطق أخرى… المنطقة لايعيش بها المسيحيين فقط بل هناك قوميات أخرى وسيكون المسيحيون لقمة سائغة لمن يحيط بهم… وسيكون لنا مشاكل يوميا ..
أقول :
في ان المطالبة بالحقوق يجلب عدة مشاكل للمسيحيين ، هذه فرضية صحيحة لا غبار عليها ، لكن متى كان ( عدم )المطالبة بهذه الحقوق ، يجلب السلام والوئام للمسيحيين ؟ وهل طالب المسيحيون في بغداد والبصرة بالحكم الذاتي حينما قتلوا وشردوا وفجرت كنائسهم ؟
ثمة فرضية تقول : هنالك اسلام اصولي هو الذي يقوم بقتل وتشريد المسيحيين ، وهذا الاسلام نفسه هو الذي يقتل ويشرد المسلمين ايضاً ، والى الجانب الآخر ثمة اسلام معتدل وهو الذي يعيش مع الآخر بروح من التسامح والوئام ، فنحن مهما فعلنا سيكون ثمة خطأ نرتكبه ، بحسب فرضية تروجها الجهة التي تريد الأنتقام ، ولتكن هذه الفرضية المطالبة بالحكم الذاتي ، فهي حجة لمن لا حجة له .
هل ان المطالبة بالحقوق عن طريق الصحف والمقالات في المواقع يرد عليه بأسلوب الأغتيالات والقتل والتشريد ؟
الا يحق للانسان في القرن الواحد والعشرين ان يقول إنني أطالب بالمطلب الفلاني ، هل ان هذا المطلب يشكل مسوغ للقتل والأنتقام ؟
في قصة عالقة في ذهني من كتاب القراءة الأبتدائية ، تقول القصة :
في يوم سلام في الغابة منع الأفتراس به ، وكان هنالك ذئباً يشرب من ينبوع ، وفي مجرى ماء الينبوع كان خروفاً يشرب الماء ، ودنت نفس الذئب لافتراس الحمل الوديع رغم وجود شريعة يمنع فيها الأفتراس في ذلك اليوم ، وقال للخروف : لماذا وسخّت الماء علي وانا أشرب ؟ فقال الخروف للذئب : كيف لي ان الوث الماء وأنت تشرب من مصدر النبع وانا من أسفله ؟
فكر الذئب ملياً وقال ، انت محق لم تلوث الماء ، لكن تذكرت الأن ، ان والدك هو الذي وسّخ الماء علي والدي ، والتف عليه وأفترسه . الحجة دائماً يمكن اختلاقها ، ومن يقبل الآخر يقبله كما هو ، ويقبله بمفاهيمه وبأخطائه ايضاً ، فليس ثمة من ليس له اخطاء .
لقد أورد المطران الجليل لويس ساكو احصائية لوجود شعبنا تشير الى الأعداد القليلة والى الخلل الديمغرافي الذي حل بشعبنا إن كان في مدن البصرة وبغداد او في سهل نينوى ، وأنا اسأل سيدنا المطران : ماهو سبب هذا الخلل الديمغرافي في تعداد شعبنا المسيحي إن كان من الكلدانيين او السريان او الآشوريين ؟
ما يفيد هذا المقال نحاول استخلاص بعض الأحصائيات من التاريخ بعد الفتح الأسلامي للعراق ، ونعتمد على فيليب فارح ويوسف كرباج في كتاب : المسيحيون واليهود في التاريخ الأسلامي العربي والتركي ، وترجمه بشير السباعي ، ص 25 والمؤلفان يعتمدان في عملية الأحصاء على مقدار واردات ضريبة الجزية من الدراهم في زمن الخلافة الاسلامية ، فقد بلغت في عهد عمر بن الخطاب مبلغاً مقداره يتراوح بين 100 مليون ـ 120 مليون درهم ، وهكذا كانت النفوس بحدود 7 ـ 9 مليون نسمة بواقع 14 درهم لدافع الضريبة الواحد ، وبمعدل أن لكل منهم عائلة متكونة من 5 أشخاص .
ويرى المؤلفان ان الأديان القديمة الأخرى مع اليهود لم يشكلوا سوى عشرة بالمئة ، كان المسيحيون يشكلون 90% من السكان في العراق ولهذا الزعم دلالات تاريخية اركيولوجية في اعداد الكنائس والأديرة والمدارس المبثوثة في تضاعيف هذه الديار في تلك الأزمنة ، لقد كان العراق قبل الأسلام دولة مسيحية بحق .
في زمن الأمويين وفي عهد عبد الملك بن مروان ( 685 ـ 705 م ) انخفظت الواردات من المسيحيين الى 40 مليون درهم فقط ، وهذا يفسر النقص في تعدادهم الى الثلث وتحولهم الى الدين الجديد تخلصاً من الجزية الثقيلة ومن الأحكام المنهكة التي كان يحكم بها اهل الذمة او اهل الكتاب . < ومن يريد ان يراجع تلك الأحكام فعليه بكتاب ابن قيم الجوزية : احكام أهل الذمة > .
واليوم سيدنا المطران يشير الى الاحصائية التي تنذر بالخطر الديمغرافي حيث تعتبر بداية النهاية في تفريغ الوطن العراقي من سكانه الأصليين ، فهل الخلل الديمغرافي الحالصل في تلك القرون كان بسبب تمادي المسيحيون بمطالبهم إن كان الحكم الذاتي او غيره ؟
يقترح سيدنا المطران ساكو ان“يكون هناك نوع من الإدارة الذاتية للمسيحيين في المناطق التي يشكلون فيها أغلبية “
إن هذا الطرح يتناغم مع موقف الحركة الديمقراطية الأشورية التي تنأى بنفسها عن مسألة الحكم الذاتي ، وتطرح بديلاً عنه الادارة الذاتية التي لا تحتاج الى مطلب باعتبارها مدونة في المادة 125 من الدستور ، أي بالعربي الفصيح ان الحركة لا تطالب بشئ البتة .
فالواقع الفعلي اليوم هنالك نوع من الإدارة الذاتية وهذه الحالة منصوص عليها في الدستور العراقي كما قلت في المادة 125 التي تدعو الى منح الحقوق للقوميتين الكلدانيـــة والآشورية مع إدارة ذاتية في مناطقهم ، وسنلاحظ في تلكيف هنالك قائمّقام مسيحي وفي القوش كذلك مدير ناحية مسيحي وشرطة مسيحيين فهل توصلنا الى ما نصبو اليه بموجب الأدارة الذاتية المذكورة في الدستور ؟
بشأن حقوق الأقليات كان ثمة ملحق اعتُمد في الجمعية العامة للامم المتحدة عن حقوق الأشخاص المنتمين الى اقليات قومية او اثنية والى اقليات دينية ولغوية ، وجاء في المادة الأولى :
1 ـ على الدول ان تقوم ، كل في اقليمها ، بحماية وجود الأقليات وهويتها القومية او الأثنية ، وهويتها الثقافية والدينية واللغوية ، وبتهيئة الظروف الكفيلة بتعزيز هذه الهوية .
2 ـ تعتمد الدول التدابير التشريعية والتدابير الأخرى الملائمة لتحقيق تلك الغايات .
إن الأقليات من المجتمعات البشرية تمثل التنوع البشري الحيوي ، فكوكبنا هو مزيج من الأقليات القومية والدينية والأثنية والمذهبية واللغوية والأقليمية والقبلية .. وإن الحركات الأقلوية تنتشر وتنشط وإن الخريطة الأثنوغرافية في العالم في تبدل مستمر .
إن الوطن العربي ليس في منأى من هذه الرياح ، وهو يعترف بالواقع الموضوعي . إنه يرى ان ينفتح على الثقافات والأقوام التي تعيش ضمن الحدود العربية من المحيط الى الخليج :
الأكراد ، التركمان ، الأرمن ، السريان ، اليهود ، الكلدانيون ، ، الشبك ، الكاكائيون ، الآشوريون ، البربر او الأمازيغ ، المندائون او الصابئة ، اليزيدية ، الشركس ، النوبيون ، القبائل الزنجية .. هذا التنوع في العالم العربي ينبغي ان يُخرج هذا الوطن من قوقعة التعصب القومي وأن يتحرر من شرنقة التعصب الديني . إن البشرية تتجه صوب حقوق الأنسان والتي يأتي في مقدمتها حقوق الأقليات .
يتساءل الدكتور سيار الجميل وهو الأبن البار لمدينة الموصل الحدباء في مقاله الأخير الموسوم : محاكمة الثقافة العربية : لماذا ؟
(( ثمة أسئلة أخرى علينا أن نسألها ليس من اجل محاكمة الثقافة العربية نفسها ، وكأنها ثقافة مقصّرة بحق الآخرين ، بل من اجل تطوير الرؤية الإنسانية لها ، أو إعادة الروح الإنسانية لها بعد معاناتها الطويلة من حبسها واضطهادها .. كيف غدت سلاحا بأيدي المتعصبين والمتطرفين ضد الآخرين من أبناء أوطاننا ؟
كيف استخدمت بعض أدواتها للقهر والإمعان في تحجيم الآخرين ؟
لماذا استخدمت أبشع خطاباتها في التبشير بالفاشية القومية ؟
لماذا لم تستخدم صفحاتها الناصعة في أن تكون ثقافة إنسانية ، بدل أن تغدو ثقافة متوحشة على أيدي من لا يعرفون منها إلا مثالب التراث ، وبشاعة بعض ما جرى فيه قديما أو حديثا ؟ )) .
باعتقادي ان اهل الموصل قد احسنوا الاختيار حينما انخرطوا في اللعبة السياسية ومارسوا الأنتخابات لمجالس المحافظات وحققوا نتائج طيبة ، إنه الوجه الأجمل والأنصع للموصل بدل ان تكون مدينة القتل والأغتيالات والأشباح ، إنها موصل الحدباء ام الربيعين ، انها موصل التجارة والثقافة والأدب والفن والرياضة ، أنها متحف العراق الفولكلوري وموطن التنوع العراقي بازيائه الملونة الجميلة ، بمأكولاته اللذيذة ، بأسواقه العامرة بصناعاته اليدوية المتنوعة .. هذا هو الوجه الجميل لمدينة الموصل .
الموصل التي عهدناها ونحن اطفال لا يمكن ان تكون ضد تطلعات المكونات العراقية الأخرى ، هذه هي الثقافة التي نخاطب بها أهل الموصل والعشائر العربية والعشائر الكردية والأخوة اليزيدية والشبك والتركمان . هذا هو الخطاب الذي نخاطب به الجميع من أجل تحقيق مطلب الحكم الذاتي لشعبنا .
إن طرح سيدنا المطران ساكو عن الحكم الذاتي لايمكن ان يتسم بالواقعية ، فالحكم الذاتي في سهل نينوى لا يعني تجميع كل المسيحيين ووضعهم فيها ووضع سياج يحيط بهم ، إنها فرضية لا يمكن ان يكون لها وجود ، ولا تنسجم مع معنى الحكم الذاني المقترح .
لقد كان للاكراد منطقة الحكم الذاتي منذ اوائل التسعينات من القرن الماضي وكان المواطن الكردي يتاجر في البصرة ويفتح له مطعماً في العمارة ، ويشارك في عمل تجاري مع اصدقائه في بعقوبة او مدينة الحلة ... إنها قيود افتراضية يطرحها المطران الجليل ليس لها مسوغ قانوني او سياسي على أرض الواقع .
إن إقرار الحكم الذاتي يحتاج الى متخصصين لتدوين تفاصيله ، ولكن الخطوة الأولى والذي نطالب به هو إقراره في مادة دستورية ، فبدلاً من احتواء الدستور على مادة تقول الأدارة المحلية وهي ليست مفصلة لحد الأن ، نحن نطالب كشعب عريق ان يكون لنا نوع من الحكم الذاتي ، فهل مثل هذا (( المطلب )) ، وأي مطلب آخر ، يسوغ عملية الأنتقام ؟
من الناحية السياسية ينبغي ان يكون إقرار الحكم الذاتي كإفراز طبيعي لمسالة الديمقراطية في العراق ، وليس كممارسة موجهة ضد أي فريق ، فلماذا يكون هنالك أعداء ، إن كانت الممارسة غير عدائية او انتقامية او عمل تحدي ؟
أزعم ان ما طرحه المطران الجليل لويس ساكو ينطبق تماماً الرؤية السياسية للحركة الديمقراطية الآشورية ، فالحركة سبق ان طرحت موضوع الحكم الذاتي ووضعته بنفس الأطار الذي اورده سيادة المطران ساكو ، وبنظري كان يتعين على الحركة الديمقراطية الآشورية ان تكون في مقدمة من يطالب بالحكم الذاتي وهي الحركة القومية حسب اسمها الآشوري ، فلماذا تتنصل عن هذا المطلب اليوم ؟ إنه أمر غير مفهوم .
أن المطران الجليل يطالب بإجراء تعديلات دستورية ويقول :
“لضمان حقوق المواطنة دون ضرورة أن يكون هناك حديث عن دولة علمانية أو دينية وقال”الدستور يجب أن يحتضن الكل, والغالبية يجب أن تحتضن الأقلية وتدافع عنها وتشركها في السلطة… ويجب تحقيق المساواة للجميع دون الانتماء الديني والعرقي .
برأيي ان حقوق المواطنة تكون مضمونة في الدولة العلمانية الديمقراطية فحسب ، لا سيما ما يخص شأن الأقليات الدينية ، وهذا ما نعهده في الدول الأوروبية العلمانية والتي سبق ان مزقتها الحروب الدينية والمذهبية واليوم استقرت هذه الدول على الحكم العلماني الذي يحترم جميع الأديان والقوميات والأثنيات دون تمييز ، حتى ان كثير من المسلمين يهجرون بلدانهم الأسلامية ويلجأون الى البلدان الأوروبية العلمانية لينعموا بحرية المواطنة الحقيقية والتي افتقدوها في بلادهم الأسلامية .
لا أدري لماذا نستكثر على شعبنا بعض الحقوق التي اصبحت من بديهيات حقوق المواطنة ، ولماذا نفترض بوجود مخاوف للأكثرية العربية او الكردية من منح بعض الحقوق للقوميات الصغيرة ، وهي برمتها لا تعدو ان تكون حقوق مواطنة حقيقية لشرائح مجتمعية ساهمت على مر الدهور على بناء هذا الوطن ، ولم تتمرد او تتآمر عليه يوماً .
هل اقول لنستفيد ولو قليلاً من تجربة سويسرا وهي اكثر بلدان العالم استقرارأً ؟ هذه الدولة تتكون من 22 مقاطعة او كما تسمى عندهم كانتوناً ، وكل مقاطعة لها حكومة محلية ودستور محلي وبرلمان للمقاطعة وميزانية وقوانين خاصة ، كل هذا متاح ما لم يتعارض مع قوانين الدولة الأتحادية .
في سويسرا ثلاث قوميات ، الالمانية والفرنسية والأيطالية ، ويحكم البلاد حسب نظام الجمعية أي عن طريق البرلمان المنتخب ويعمل بهذا النظام منذ سنة 1848 وهي الى اليوم من أنجح الحكومات وأكثرها استقراراً ، ومرد ذلك ان الشعب السويسري يتسم بقبوله للفكر الديمقراطي والتسامح ، وهو البلد الوحيد في العالم الذي يرفع في احتفالاته 22 راية تمثل كل المقاطعات في الأتحاد السويسري الذي ينفرد في هذه التجربة الديمقراطية الفريدة في عالمنا المعاصر .
ونحن لا نطمح ان نكون مثل سويسرا ، لكن على الا نخاف لمجرد المطالبة بحقوق مكونات عراقية صغيرة بعد ان طالها كل هذه المظالم على مر العصور ؟ ولماذا ينبغي ان تكون حالة المطالبة سبباً ومسوغاً لسفك الدماء والتشريد والتدمير ؟
إن العراق الديمقراطي وطن الجميع دون استثناء ، وينضوي تحت مظلته كل الآطياف العراقية ، وينبغي النظر الى تطلعات هذه الأطياف بروح المواطنة العراقية والأخلاص للوطن ليس إلا .
حبيب تومي / اوسلو في 25 / 03 / 2009