Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

تقسيم العراق: هل هو كالكي.. آخر الدواء؟

هاج العالم العربي وماج في الأسبوع الماضي عندما صوّت 75 شيخاً من شيوخ الكونجرس البالغين 100 شيخ لصالح الفيدرالية الاتحادية العراقية المنصوص عليها أصلاً في الدستور العراقي، شرعاً وقانوناً، وأطلق عليها "التقسيم"، وليس الفيدرالية ، كما جاء في المادة الأولى من دستور العراق لعام 2005 الذي ينصُّ على أن العراق دولة فيدرالية اتحادية. ولكن الدستور العراقي ذاك، لم يقل بالتقسيم صراحة.

أين الجديد في القرار؟
الرفض عادة العرب ومهربهم في العصر الحديث، لتجنب التصدي للقرارات المصيرية الأخرى، بدءاً من قرار تقسيم فلسطين 1947 وإلى الآن. لقد تمَّ رفض قرار مجلس الشيوخ الأمريكي من ديمقراطيين وجمهوريين، من قبل فئات عربية كثيرة لم تقرأ نص القرار، وإنما فزعت من " ثعبان التقسيم". ورُفض القرار كذلك بشدة من قبل فئات عراقية قيادية، اشتركت في وضع المادة الأولى من الدستور العراقي الذي صوّت له 12 مليون عراقي عام 2005، وهي المادة التي تنصُّ على قيام الفيدرالية الاتحادية العراقية. وما فعله مجلس الشيوخ الأمريكي هو تبنيه تبنياًٍ سياسياً تشريعياً أمريكياً غير ملزم للفيدرالية الاتحادية العراقية المنصوص عليها في المادة الأولى من دستور 2005 . وهي الفيدرالية التي اتفقت عليها المعارضة العراقية في مؤتمر عام 1999 وقبل سقوط صدام حسين. ولكن الجديد في هذا القرار أن العرب قالوا إنه بالتقسيم وليس بالفيدرالية مما اضطر السيناتور بايدن وليزلي غيلب إلى إصدار بيان توضيحي نشر في "الواشنطن بوست"، يؤكد أن " خطتنا ليست التقسيم، بالرغم من أن بعض المؤيدين ووسائل الإعلام وصفتها خطأً بذلك. فهي ستحافظ على العراق بإحياء نظام الفيدرالية المتضمن في دستوره. عراق فيدرالي هو عراق موحد، ولكنها تعني منح القوة إلى حكومات محلية، وتتحمل حكومة مركزية محدودة مسؤولية القضايا المشتركة مثل حماية الحدود وتوزيع عائدات النفط. والتقسيم حقيقةً في العراق حاصل وواقع الآن على الأرض، رغم أن الكثير من العراقيين في الداخل والخارج ومعهم معظم العرب لا يعترفون به.
هل فاض الكيل بالأمريكيين؟
وهذا القرار غير مُلزم للعراقيين كما أُعلن، ولكنه - برأي مجلس الشيوخ الأمريكي – خارطة طريق للاستقرار، ونشر الأمن والأمان لمن يريد الأخذ به. ويأتي هذا القرار على غرار خطة تقسيم البوسنة والهرسك. ويعتبر – في رأي الشيوخ الأمريكيين - الحل الوحيد لوضع حد لأعمال العنف التي تجتاح العراق. وهذا القرار تعبير عن فيض الكيل عند صانعي القرار الأمريكي، والرأي العام الأمريكي والقيادات السياسية الأمريكية الفاعلة والمؤثرة التي – على ما يبدو - فقدت الثقة بالنخب السياسية العراقية الحالية. فجاء الشيوخ الأمريكيون بقرار التقسيم وهي الكلمة المكروهة والمنبوذة في القاموس السياسي العربي، وتعمّد الشيوخ الأمريكيون استعمالها بالذات كمخلب قط، لكي تخيف النخب السياسية العراقية، وتوقظهم من سباتهم. وهي كالكي آخر الدواء، عندما تعجز كل الأدوية السياسية والعسكرية الأخرى عن معالجة الصراعات المذهبية والدينية والعرقية.
ويقول مؤيدو هذا القرار الذي تقدم به السيناتور الديمقراطي جوزف بايدن المرشح للرئاسة، إنه يقدم حلاً سياسياً في العراق، يمكن أن يسمح بانسحاب القوات الأمريكية دون ترك البلاد في حالة من الفوضى. وقد يبدو تشكيل فيدرالية بين مناطق كردية وشيعية وسنية عراقية فكرة جيدة على الورق، إلا أن منتقديها يقولون أنها تتجاهل المدن التي يعيش فيها خليط من هذه المجموعات الثلاث جنباً إلى جنب وتتزاوج فيها الطوائف، ولا تفصل بينها حدود على الخريطة. ويمكن حل هذا الموضوع بإنشاء أقاليم تضم هذه المدن التي يختلط فيها أديان وأعراق مختلفة. فبدلاً من أن يكون في العراق ثلاثة أقاليم، واحد للكُرد، وواحد للشيعة، وواحد للسنة، تصبح هناك خمسة أو ستة أقاليم، تضم أدياناً وأعراقاً مختلفة.. الخ. كذلك فإن وضع مدينة كركوك سيكون شوكة في حلق هذا القرار. لكن حل وضع مدينة كركوك قد رسمت طريقه المادة 140 من الدستور العراقي لعام 2005. وبالتالي فإن قضية كركوك قضية عراقية بحتة، سوف تحلُّ بالتآلف العراقي.
وهكذا فحال العراق الآن هذا، يشبه حال أولئك الإخوة الذين ورثوا أرضاً زراعية كبيرة عن آبائهم وأجدادهم، ولكنهم اختلفوا على تقسيم غلالها السنوية، وكادوا أن يقتلوا بعضهم بعضاً نتيجة لهذا الاختلاف، فتوصلوا إلى قرار تقسيم الأرض ليأخذ كل فريق منهم حصته القانونية دون ظلم أو تعدٍ على حق الآخر. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية العراقية تعليقاً على قرار مجلس الشيوخ الأمريكي بقوله: "إن فكرة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق فيدرالية متأتية من أنه إذا لم يتمكن العراقيون من التعايش معاً، فالحل ضمن تصور أصحاب القرار هو فصل كل هذه الجماعات الإثنية والطائفية في المناطق التي تعيش فيها."
فالحال الآن في العراق أمام خيارين:
إما الحرب الأهلية العراقية.
وإما الفيدرالية الاتحادية العراقية التي يُطلق عليها المشرعون الأمريكيون: التقسيم.
عقدة سايكس - بيكو
ولكن الفيدرالية ليست التقسيم كما فهمه من قرأوا أو استمعوا إلى قرار مجلس الشيوخ الأمريكي. فكما قال وأكد البيان الرئاسي لإقليم كردستان العراق، فإن "الفيدرالية لا تعني التقسيم، ولكنها الوحدة الطوعية، والحل الوحيد للمشكلة العراقية". واعتبر البيان أن الفيدرالية هي "اعتراف بحقوق وواجبات جميع مكونات الشعب العراقي، بما فيها شعب كردستان الذي يناضل منذ عشرات السنين."


والرأي العام العربي لم يَمُجْ ولم يَهجْ عندما أقرَّ الدستور العراقي مبدأ الفيدرالية الاتحادية في مادته الأولى لعام 2005 ، كما هاج وماج اليوم عندما تبني مجلس الشيوخ الأمريكي هذا القرار، واعتبره غير مُلزم في الوقت نفسه للعراقيين. فكل قرار يأتي من أمريكا ملعون ومرفوض في الوعي العربي، حتى وإن كنا نحن أصحابه الأصليين، ومذكور في نصوصنا المقدسة.
والرأي العام العربي ربما أنه محق في هذا الهيجان، لأنه ما زال يعيش في هاجس التقسيم عشية الحرب العالمية الأولى. ويتذكر تقسيم بريطانيا وفرنسا للعالم العربي بموجب اتفاقية سايكس - بيكو السرية عام 1916، التي استبقت بسنوات طويلة النزاعات الدينية والعرقية في العالم العربي، بعد رفع السيف العثماني عن رقاب العرب، ووفرت على العرب حروباً أهلية كثيرة بتقسيمها العالم العربي إلى دول حالية، أصبحت حامدة وشاكرة للغرب صنيعه ذاك! والدليل أن محاولات للوحدة الفاشلة قد جرت عدة مرات (أكثر من عشرين محاولة) بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن العشرين، وإلغاء بنود اتفاقية سايكس – بيكو، وعودة العالم العربي موحداً كما كان قبل الحرب العالمية الأولى. لكن العرب فضّلوا الصيغ والكيانات السياسية التي أقرتها تلك الاتفاقية. وظلت اتفاقية سايكس - بيكو رغم هذا نذير شؤم، وعلامة التقسيم المشين، والتفرقة الاستعمارية، وشعار الانفصاليين في العالم العربي، حسب ما كان وما زال يردده القوميون وخاصة حزب البعث، والدينيون، وحركة الإخوان المسلمين التي تسعى إلى إقامة خلافة إسلامية تنضوي تحتها كل الدول الإسلامية في آسيا وإفريقيا. Opinions