ثقافة القانون طريق لبناء دولة القانون
يتفق عموم الناس بجميع أصنافهم على إن النظام والأمن أساس الحياة الهادئة ولبنة مهمة في طريق البناء الصحيح، فلا يمكن لأحد الحديث أو التفكير بأي شيء بوجود الفوضى العارمة، بل إن مقتضى الأصل أن يطمئن الفرد على سلامته واستقراره قبل البدء بأي عمل آخر، وكما هو معروف إن اللانظام سمة عامة في اغلب المواقع قبل وجود المنسق لها، إلا إنها تبقى حالة عابرة تنتظر من يرتبها ويطورها وفق منطق قانوني وعقلي وشرعي، وهذا ما يتقدم به بنو البشر على سائر المخلوقات، بإنشاء اللوائح النظامية أو تطبيق الشرائع السماوية المتعددة وجميعها تسير الى هدف إنشاء المجتمع المنظم.الحديث عن القانون يأخذ جانبا مهما من عملية بناء الدول المتقدمة ويعد مرتكزا أساسيا لتثبيت القواعد الصحيحة لهيكلة الدولة، والمقصود بالقانون هنا ما بني على أساس المهنية الصرفة والتطبيق المستقل لتعليماته.
في بلد مثل العراق لم يرق القانون بأغلب فتراته الى الحالة المنشودة، حيث قدم النظام السابق أسوء نموذج للقانون المسيس مقيداً وقامعا بذلك للكثير من الحريات والنشاطات المختلفة، وحتى الممارسات والطقوس الدينية لم تسلم من المنع، بحجة مخالفة التعليمات والقوانين، ونفذ أنظمته بشكل غير متوازن على فئات من الشعب فيما كانت القوة المفرطة العلامة الوحيدة لتطبيقه وفرضه بكل سلبياته، في وقت تركت مجاميع تابعة للسلطة تخالف أصل القانون الموجود آنذاك ، كونها تقع على مسافة قريبة من سدة الحكم أو لارتباطاتها الشخصية والحزبية معه، مما سببا نفورا كبيرا من فكرة ومصطلح (القانون) عموما والذي بدوره ولد ثورة داخلية تمردية ظهرت الى الشارع بردة فعل عكسية بمجرد زوال القوة الحاكمة السابقة من أجهزة أمنية تابعة للنظام السابق او الخلايا البعثية المنتشرة في الشارع العراقي قبل دخول القوات الأمريكية.
الفوضى امتدت الى جميع مرافق الحياة وصور السلب والنهب كانت علامة بارزة رافقت تلك الأحداث بانهيار كامل وشامل لجميع الأنظمة والقوانين وساعد على ذلك وقوف قوات الاحتلال موقف المتفرج، ثم تطورت حالة الانفلات الى تسلح عصابات قتل وخطف ومليشيات مدججة بالسلاح تنتشر في أي لحظة وتفرض سيطرتها على مناطق واسعة من البلاد، ليستمر المشهد قرابة الأربعة أعوام.
وبعد الثلاث سنوات تلت التغيير السياسي وتولي حكومة السيد المالكي رئاسة الوزراء جاءت خطة (فرض القانون) بلباس جديد، وللإنصاف فقد أحدثت الخطة تغييرا امنيا ملحوظا وحجمت و ألغت الكثير من المظاهر المسلحة ومنحت الشارع نظاما معتدا به وللحكومة هيبة واضحة، استمرار هذه الخطة ولد ثقة لدى المواطن البسيط بقدرات الأجهزة الحكومية وبرهنت على إن أهل الدار اعرف بمكامنها والقضية لم تكن سوى قضية وقت وتدريب وتجهيز.
غير إن ثمة قلق وهاجس رافق تلك العملية على مساحة البلد عموما، ناتج من التجاوزات التي مارسها البعض من أجهزة الأمن ودوائر الدولة على القانون وعلى المواطن بذريعة القانون، ونخشى أن تتحول هذه الممارسة الى طبيعة وثقافة متداولة كما كانت متواجدة إبان النظام السابق، ولا يستطيع احد التحدث عنها كون الموظف لديه سلطته التي من المفترض أن تحاسبه، غير انها تسكت عنه إن لم تكن تحميه حتى وان كان مخطئا.
الآن وبعد أن تجاوزنا القسم الأكبر من هذا العمل المضن والمهم، وبعد (فرض) الدولة الأمن والقانون على الشارع، بحيث أصبحنا نتلمس الجو القانوني في مرافق مهمة وكبيرة ، جاء الدور كي (تبني) الحكومة (القانون) بصيغة مغايرة لما يفهم أن القانون لا يطبق إلا بالقوة، ويجب أن نبدأ هذه المرة من داخل أجهزة الدولة حيث تعاني الكثير من تلك الأجهزة باعتراف رئيس الوزراء نفسه من وجود المفسدين فيها وان عقوبتهم (على حد تعبيره) لن تقل عن عقوبة من ارتكب الجريمة خارج الدولة.
وكما هو معروف فالقناعة التي تتولد لدى الإنسان تكون كالوتد الثابت والمرتكز المتجذر لبناء باقي أفكاره وأطروحاته، وما نحتاجه اليوم وما يتطلبه الوضع العراقي المتحرر من قيود الحكم الشمولي هو أن يكون القانون ثقافة وقناعة تستقر في عقول الجميع ومبدأ سامي لا مساومة عليه، ومعيار لمدى انضباط الشخص ومواطنته، قبل أن يكون الخوف من العقوبة وسيلة لتطبيقه، لذا فان ما نحتاجه واقعا هو ثقافة البناء لكل شيء وفي مقدمة ذلك ثقافة بناء القانون.
قد يرى البعض الفكرة صعبة المنال، لكنها ليست بالمستحيلة بل قد تحقق نتائج اكبر بكثير مما حققه منطق السلاح، وخير مثال على ذلك اليابان التي يعترف الجميع بتقدمها ورقيها في جميع الميادين والتي شهدت حروب أسوء بكثير مما تعرض له العراق، إلا إنها حولت الهزيمة العسكرية الى نجاح سياسي واقتصادي وقبل ذلك كله نجاح ديمقراطي وقانوني بحيث أصبح القانون والأنظمة لديهم بمثابة(شريعة مقدسة) لا يمكن تجاوزها احتراما لبلدهم وأنفسهم.
لقد اخذ الملف الأمني من الدولة عموما والحكومة خصوصا وقتا وجهدا باهظا وهو شيء مقبول عقلا لما يستلزمه هذا الملف من أهمية في تثبيته، ولكي تتجاوز الحكومة بشكل خاص مهمة المتابعة الأمنية المستمرة والمنهكة لقواتها العسكرية، فإنها قادرة على الاستعاضة بذلك الجهد المضني أو دعمه بجانب مهم وكبير وذلك من خلال طرح مشروع البناء العام للثقافة القانونية والتي نراها تبدأ من:
1- إشراك المنظمات الدولية والمجتمع المدني بإقامة الندوات والبرامج التطويرية الخاصة بثقافات تطوير ثقافة القانون ومساعدة المواطن على تفهم القانون والمشاركة الفعالة في تطبيقه.
2- إدخال القوات الأمنية في برامج ودورات مكثفة حول أفضل الطرق للتعامل اليومي والقانوني مع المواطنين وتحويل رجل الأمن من عنصر مخيف الى مصدر للاطمئنان والمساعدة.
3- توعية المواطن باهمية احترام القانون من خلال قيام جهاز الدولة الامني والوظيفي باحترام المواطن والتعامل معه باسلوب حضاري وانساني، وماترفعه بعض مراكز الامن والشرطة من لافتات (احترم... تحترم) تسيء لثقافة القانون، ولابد ان تكون اللافتة (نحترمك فاحترمنا)، أي تكون ثقافة القانون قائمة على شعار الاحترام المتبادل.
4- البدء بحملة واسعة ضد مافيات الفساد والعناصر المخلة بسمعة أجهزة الأمن وتقديمهم للمحاكمة ضمن الأطر القانونية بعيدا عن أي تدخلات سياسية، وإعادة النظر بالمادة ب/136 والتي تمنع محاسبة أي موظف الا بموافقة مسؤوله.
5- عقد المؤتمرات العلمية والقانونية لمناقشة واقع تطبيق القانون بحيث يتحول الى روح تسري في سلوكيات وقيم المواطنين.
6- الاستماع لشكاوى المواطنين الذين تم التجاوز عليهم من قبل بعض أجهزة الأمن والمخبرين السريين بقضايا كيدية وتعويضهم عن ذلك ماديا ومعنويا، ومحاسبة المتورطين بذلك علنا لردع التجاوزات مستقبلا.
7- تفعيل الجانب الإعلامي بشكل اكبر وبيان أهمية احترام القوانين وكيف تطورت الدول بتطبيقها للقانون بالمشاركة من الجميع مسؤولين ومواطنين.
لقد قطعنا الشوط الأكبر وقدمنا التضحيات الكبيرة من اجل تثبيت أسس دولة تنعم بالحرية ومهيئة للعيش بنظام ديمقراطي تعددي حر، وتجاوزنا الكثير من العقد والمشكلات، وما بقي امامنا هو وضع الحروف على النقاط، من خلال العمل بجدية في مجالات الأعمار والبناء والتخلص من المفسدين داخل الجهاز التنفيذي العام ورسم سياسية بعيدة الأمد حيث ان اكمال مسيرة الانجازات يتم عبر الالتزام بالأولويات وثقافة القانون هي في صدر هذه الاولويات ليكون (القانون فوق الجميع) واقعا لا شعارا فقط.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com