ثورة 14 تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها/ الحلقة الحادية عشرة
4/11/2009ثامناً: حكومة الثورة تواصل تدعيم كيانها:
كان لابدّ للثورة الوليدة أن تقوم ببعض الإجراءات السريعة لتثبيت أركانها، وصيانتها من أي تحرك معادي لها، وإجراء تغييرات جذرية في جهاز السلطة، بشقيه الأمني والإداري، والمقصود بالجهاز الأمني جهاز الشرطة والأمن، والمخابرات العسكرية التي أنشأها ورباها ودرّبها النظام السابق بأشراف الإمبريالية وهيمنتها، وقد قامت الثورة بإصدار عدد من المراسيم الجمهورية في هذا الاتجاه، إلا أن تلك الإجراءات لم تتخذ طابعاً جذرياً أبداً، وفي كثير من الحالات، اكتفت بتغيير فوقي محدود جداً، مما أبقى ذلك الجهاز القمعي دون أن يصيبه ضرر كبير، وكان له دور فاعل فيما بعد في شل أعمال وتوجهات الثورة، ودق إسفين بين الشعب والقيادة، والتستر على نشاط انقلابيي 8 شباط 1963، وبالتالي اغتيال الثورة وقائدها عبد الكريم قاسم، كما سنرى في فصول قادمة.
أما المراسيم التي صدرت في الأيام الأولى للثورة فكانت ما يلي:
1ـ مرسوم جمهوري بإلغاء الاتحاد الهاشمي الصادر في 15 تموز1958
2ـ مرسوم جمهوري يقضي بمصادرة جميع أموال وأملاك العائلة المالكة والصادر في19 تموز.
3ـ مـرسوم جمهوري يقضي بإحالة [112] من كبار ضباط الجيش والشرطة على التقاعد خلال شهري تموز وآب 958 ، وقد أُعيد استخدام العديد منهم في وظائف مدنية.
4 ـ مرسوم جمهوري يقضي بطرد [ 4] من رجال الأمن، العاملين في مديرية التحقيقات الجنائية[الأمن العامة] تحت رئاسة [ بهجت العطية ] ولابدّ أن أشير هنا إلى أن هذا الأجراء لم تكن له سوى تأثيرات طفيفة على هذا الجهاز الخطير، الذي رُبي على انتهاك حقوق الإنسان العراقي، وقد كان الواجب يقتضي حلّ هذا الجهاز تماماً، وإعادة تشكيل جهاز جديد، يحرص على الثورة، ويصون حقوق وحريات الشعب.
5 ـ صدور قانون المقاومة الشعبية، وبدء التطوع في 9 آب 1958، وقد عُين العقيد شاكر علي قائداً عاماً لها، وقد أنظم إليه أكثر من [ 10] آلاف مواطن في اليوم الأول، ووصل العدد إلى [30] ألفاً خلال أسبوع.
6 ـ صدور قانون تطهير الجهاز الحكومي، في 14 آب 1958، ويهدف القانون كما هو واضح من أسمه، إلى التخلص من العناصر الفاسدة التي أعتمد عليها النظام السابق إلا أنه لم يجر تغيراً جوهرياً في الجهاز الإداري واكتُفى بفصل حوالي 100شخص فقط، وبقي هذا الجهاز دون أن تُجرى عليه تغيرات هامة، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى إضعاف مسيرة الثورة، وإبعاد جماهير الشعب عن قيادته بسبب تصرف ذلك الجهاز.
7ـ صدور مرسوم جمهوري بتكوين المحكمة العسكرية الخاصة[ محكمة الشعب] لمحاكمة رجال العهد الملكي السابق، ومحاكمة العناصر التي تحاول التآمر على الثورة، وأشار المرسوم إلى اختصاصات وصلاحيات المحكمة، ونص على محاكمة كل من أستخدم نفوذه، أو شارك في توجيه سياسة البلاد لغير المصلحة العامة، وتعريضها لخطر الحرب، أو زجها فيه أو أستخدم القوات المسلحة ضد الدول العربية الشقيقة، أو هدد باستخدامها، وكل من يتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الشقيقة، أو يقبل المتآمرين كلاجئين، أو يشوه سمعة رؤساء تلك الدول في المحافل الدولية.
كما أعتبر بموجب القانون، متآمراً على سلامة الوطن، كل من صادر حقوق وحريات المواطنين المقررة في القانون الأساسي السابق، عن طريق المراسيم والأوامر والتعليمات والبيانات، أو تدخّل في شؤون القضاء، أو أستخدم القانون لمصلحة شخصية، أو زّور الانتخابات، أو قام بالتأثير على معنويات الشعب، أو عرقل تطبيق القوانين الهادفة للعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين، وكل من يبدد أموال الدولة، يعتبرون مفسدين لنظام الحكم .
وقد نص القانون على معاقبة المتآمرين على سلامة الوطن، بالأشغال الشاقة المؤبدة، أو الإعدام، كما نص القانون على معاقبة مفسدي نظام الحكم بالأشغال الشاقة المؤقتة، وخول القانون القائد العام للقوات المسلحة، حق إيداع أي قضية، أو سحبها من المحكمة، وتصديق القرارات الخاصة بالإعدام، ونص القانون أيضاً على أن يطبق قانون العقوبات الساري المفعول بما لا يتعارض وقانون تشكيل المحكمة.
لقد تمّ في 19 آب 1958، إحالة ثلاثين من كبار الضباط، وواحد وسبعون من كبار المسؤولين من رؤساء الوزارات، والوزراء، وكبار رجالات الدولة إلي المحكمة التي بدأت محاكماتها في 16 آب 1958، واتخذت من مقر مجلس النواب السابق مقراً لها وجرت المحاكمات بشكل علني، حيث تم نقلها بالإذاعة، وعبر شاشة التلفزيون، على الشعب مباشرة.
8 ـ في 24 تموز 1958 أعلن وزير العدل عن إلغاء محاكمة السياسيين المعتقلين من قبل النظام السابق.
وتم تشكيل لجنة لدراسة قضايا كافة المعتقلين، لغرض إطلاق سراح السياسيين، وذلك لأن النظام السابق كان قد ألصق بالسياسيين تهماً غير سياسية، لغرض حرمانهم من كل حقوقهم وحرياتهم، وقد أطلقت الثورة سراح أكثر من[220] سجيناً شيوعياً كانوا قد قضوا سنين طويلة في السجون، وتعرضوا لشتى أنواع التعذيب النفسي والجسدي.
9 ـ في 4 أيلول صدر قانون العفو العام عن جميع الأفعال الجرمية، ما بين سنة 1939، وحتى يوم 13 تموز 1958.
تاسعاً: إصدار قانون الإصلاح الزراعي:
كان إصدار قانون الإصلاح الزراعي في العراق في 30 أيلول 1958 ثورة اجتماعية حقيقية في أبعادها الإنسانية، إنه بحق تاج المنجزات التي حققتها الثورة لصالح ثلاثة أرباع الشعب العراقي، طبقة الفلاحين، التي كانت تكدح وتشقى، ولا تملك من دنياها شيئاً، تعمل طوال حياتها لصالح الإقطاعيين الذين استغلوها أبشع استغلال، وتركوا الفلاحين يعيشون في فقر مدقع، يسكنون الأكواخ الخالية من أبسط الشروط الصحية، حيث لا ماء نقي صالح للشرب، ولا كهرباء، و لا كساء، ولا أية خدمات صحية، أو ثقافية، أو تعليمية يعملون بأكل بطونهم لا غير.
كانت ديون الإقطاعيين قد أثقلت كواهلهم، وأجبرتهم على العمل في خدمة الإقطاعي، حيث ينص قانون العهد الملكي على عدم جواز ترك الفلاح عمله في خدمة الإقطاعي طالما هو مدين له، وكان الفلاح مضطراً للاستدانة طول السنة من أجل تأمين الحاجات المادية له ولعائلته انتظاراً لموسم الحصاد، واستلام حصته من الريع الذي كان يذهب معظمه إلى جيب الإقطاعي، وهكذا فقد جاء هذا القانون ليحرر هذه الملايين الغفيرة من أبناء الشعب الذين يكونون العمود الفقري للمجتمع العراقي، ولينتزع المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية من الإقطاعيين، ويحدد الحد الأعلى للملكية الزراعية [1000] دونم من الأراضي المروية، و[2000] دونم من الأراضي الديميةـ تعتمد على المطر ـ وتوزيع الأراضي المستملكة على الفلاحين الفقراء.
كما فرض القانون على جميع الملاكين استغلال الأرض وزراعتها لحين إكمال إجراءات الاستملاك والتوزيع، وتقرر البدء باستملاك الإقطاعيات الكبيرة، وأوضح القانون أن دفع التعويضات للإقطاعيين سوف يجري حسب القيمة الحالية للأرض، تسدد على مدى 20 سنة بفائدة سنوية مقدارها 3 % سنوياً، وتوزع قطعاً لا تزيد عن 30 دونما من الأراضي المسقية، وما بين 60ـ 120 دونماً من الأراضي الديمية على أن يدفع الفلاح ثمن أرضه المقرر بقرار اللجان المختصة مضافاً إليها 20 % من أصل القيمة، لتسديد مصاريف الاستملاك، وُيقسّط المبلغ على 20 سنة، هذا ما جاء به الفصل الأول من القانون.
أما الفصل الثاني فقد أختص بأحكام تأسيس الجمعيات الزراعية التعاونية وتنظيمها من أجل رفع كفاءة الفلاح العراقي، وزيادة الإنتاج، ولتسهيل الحصول على المعدات الزراعية الضرورية والأسمدة والمبيدات الحشرية.
أما الفصل الثالث فقد نظم العلاقة بين صاحب الأرض والفلاح المستأجر، وفرض العقود الكتابية بينهما بصورة مباشرة، على أن لا تقل مدة العقد عن 3 سنوات، ومنع القانون طرد الفلاح، أو حبس وسائل السقي على أن لا يخل الفلاح بالتزاماته تماماً، وحدد حصة الفلاح من الزراعة ما بين 55 ـ 60 % من الإنتاج السنوي.
أما الفصل الرابع فقد أهتم في تحسين وضع الأجير الزراعي، حيث نص على تحديد الحد الأدنى للأجور السنوية لمختلف المناطق الزراعية على أن تقوم بتحديد الأجور، لجنة يشكلها وزير الزراعة، ويرأسها موظف كبير في الوزارة، وممثل لأصحاب الأراضي، وممثلان عن الفلاحين المزارعين، على أن يصادق الوزير على قرارات اللجنة.
كما نص القانون على إلغاء قانون [ حقوق وواجبات الزراع لسنة 933] وتقرر بموجب القانون تشكيل اللجنة العليا للإصلاح الزراعي برئاسة رئيس الوزراء، وتكون قرارات اللجنة قطعية.
حدد القانون مدة تنفيذه بخمس سنوات، وأعلن عبد الكريم قاسم ـ رئيس الوزراء ـ غداة إعلان القانون في 30 أيلول 58 ـ بأن الثورة وجدت أن القانون المذكور هذا هو الأساس في الإصلاح الاجتماعي، وأضاف بـأن الملاكين الصغار لن تمس أراضيهم، أما الكبار فسوف يعوضون تعويضاً عادلاًً، وبذلك سجل عبد الكريم قاسم مأثرته الكبرى بتصفية الإقطاع ركيزة الإمبريالية والنظام الملكي المنهار في العراق .(21)
نظرة في قانون الإصلاح الزراعي:
من خلال قراءة متأنية لهذا القانون نستطيع القول أن القانون الذي نال موافقة جميع أطراف جبهة الاتحاد الوطني بمختلف اتجاهات أحزابها، وموافقة اللجنة العليا للضباط الأحرار، كان بحق ثورة اجتماعية كبرى تخص حياة أغلبية الشعب العراقي، وكانت له نتائج إيجابية كبيرة أثرت على مستوى حياتهم المعيشية، وحررتهم من نير الإقطاع، وفتحت الطريق واسعاً أمام إجراء تغييرات كبيرة واسعة في علاقات الإنتاج لصالحهم مما لا يمكن نكرانها أو التقليل من شأنها.
غير أن القانون لم يكن يخلُ من السلبيات التي يمكن تلخيصها بما يأتي:
1ـ كان تحديد الحد الأعلى 1000 دونم من الأراضي المروية و2000
دونم من الأراضي الديمية يمثل مساحة كبيرة، وكان بالإمكان تحديد نصف هذه المساحة.
2 ـ إن جعل مدة نفاذ القانون خمس سنوات كان طويلاً جداً، وكانت ذات تأثير سلبي على القانون نظراً لما قام به الإقطاعيون من تخريب اقتصادي بسبب استمرار نفوذهم طيلة تلك المدة، وكان من الأفضل أن لا تتجاوز مدة نفاذه أكثر من سنتين على أغلب الأحوال.
3 ــ إن مبلغ التعويضات الذي فرضه القانون أثقل كاهل الفلاح، في وقت كان فيه لا يملك شيئاً عندما صدر القانون، وكان بالإمكان التعويض كحد أعلى عن 10000 دونم فقط، وما زاد عنها يستملك دون تعويض مما يخفف عن كاهل الفلاح المعدم، ويوفر له مجالاً أوسع لتطوير أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية.
كما كان يقتضي مصادرة الأراضي العائدة للخونة من كبار الإقطاعيين الذين ساموا الفلاحين سوء العذاب طوال عقودً طويلة من الزمن دون تعويض.
4 ـ كان المفروض أن يتعرض القانون لمسألة صيانة الإنتاج الزراعي، وإدامته، وصيانة المشاريع الزراعية كمشاريع الري والمكائن الزراعية، والحفاظ على إنتاجية الأرض الزراعية، ومراقبة توزيع المياه بصورة عادلة، ومنع الإقطاعيين من القيام بأي تخريب يؤدي إلى هبوط الإنتاج الزراعي، والنص على فرض العقوبات الصارمة بحق كل من يحاول التخريب، وحرمانه من أي تعويض.
لقد سببت تلك الثغرات في قانون الإصلاح الزراعي هبوطاً حاداً في الإنتاج، وعرضت البلاد إلى مشاكل كبيرة كان بالإمكان أن لا تقع لو ألتفت مشرعو القانون لتلك الثغرات.
كما أن امتداد مدة نفاذ القانون إلى خمس سنوات كان سبباً في خلق الصراعات الحادة، والمشاكل الكثيرة بين الفلاحين التواقين إلى إنهاء سيطرة الإقطاع، والتحرر من نيرهم، وبين الإقطاعيين الذين عملوا جهدهم على عرقلة تنفيذ القانون.
كما لعب الجهاز الإداري الذي خلفه النظام السابق، والذي لم يمسه سوى تغير سطحي طفيف، دوراً بارزاً في خلق العقبات أمام تنفيذ القانون، واستغلال الإقطاعيين لعلاقاتهم السابقة بذلك الجهاز من أجل وضع العراقيل وخلق المصاعب أمام اللجنة العليا للإصلاح الزراعي.
عاشراً: صدور قانون الأحوال المدنية:
كان قانون الأحوال المدنية الذي أصدرته حكومة الثورة، ثورة اجتماعية أخرى بعد قانون الإصلاح الزراعي، حيث عالج القانون حقوق وحرية المرأة، التي تشكل نصف المجتمع العراقي، وقد أكد القانون على حقوق المرأة، ومساواتها بالرجل في الحقوق والواجبات، ومنها حق الإرث، وتنظيم شؤون العائلة، وقضايا الزواج و الطلاق، ومنع القانون الزواج بأكثر من واحدة، إلا في حالات خاصة، كعدم الإنجاب، والأمراض الخطيرة والمعدية.
أحدث هذا القانون دوياً هائلاً في الأوساط الشعبية، ولاقى دعماً وتأيداً كبيراً من قبل الأوساط التقدمية. لكن الأوساط الرجعية عارضته وحاربته بشدة بادعاء أن القانون يخالف الشريعة الإسلامية، وقد ألغى انقلابيوا شباط 1963 مواداً عديدة من هذا القانون.
أحد عشر:إجراءات الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية:
كان على حكومة الثورة أن تقوم بالعديد من الإجراءات، ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي، المتعلقة بحياة الشعب المعيشية منها:
1 ـ تخفيف الضرائب غير المباشرة عن أبناء الشعب.
2 ـ تخفيض إيجار المساكن، والمحلات التجارية.
4 ـ زيادة رواتب الموظفين والعمال، ووضع رقابة على الأسعار.
5ـ توزيع مئات الألوف من قطع الأراضي السكنية لذوي الدخل المحدود والموظفين والعمال لغرض بناء دور لهم عليها، وتقديم كل المساعدات الممكنة والقروض بشروط بسيطة لإنجاز بنائها.
6ـ إلغاء حزام الفقر حول بغداد من الصرائف وبيوت الطين التي أقامها مئات الألوف من الفلاحين الهاربين من جور الإقطاع والعبودية والاستغلال، وقيام الحكومة ببناء مدينتي الثورة والشعلة، وتوسيع مدينة الحرية، وتوزيع آلاف المساكن على هؤلاء المعدمين والبؤساء.
7ـ فتح معاهد الأيتام والأطفال المشردين، والأحداث الجانحين، والاهتمام بتربيتهم، ونشأتهم نشأة صالحة.
8 ـ تقليص ساعات العمل، وجعلها 8 ساعات، بعد أن كان العمال يعملون من شروق الشمس وحتى غروبها.
9 ـ تشجيع استثمار رأس المال الوطني في المشاريع الصناعية بدلاً من الاستثمار العقاري والمضاربة العقارية.
10ـ تطبيق قانون الضمان الاجتماعي للعمال الذي صدر عام 1956، ولم ينفذ حتى قيام الثورة
11 ـ فتح مجال الاستيراد والتصدير لكل فئات البرجوازية الوطنية بعد أن كانت حكراً على كبار الرأسماليين المرتبطين بالنظام السابق.
12 ـ حماية الصناعات الوطنية أمام المنافسة الأجنبية.
13 ـ وضع حد لتهرب كبار الرأسماليين من دفع الضرائب.
14ـ رفع معدلات التصدير للحبوب والجلود والتمور وغيرها.
15ـ سن قانون ضريبي جديد، وشمول الإنتاج الزراعي بالضريبة، حيث كان الإقطاعيون لا يدفعون الضرائب عن الإنتاج.
16ـ إلغاء تكبيل السجناء بالحديد، وتخفيض عقوباتهم إلي خمس المدة.
17ـ سن قانون مكافحة البغاء، وإنشاء مراكز إصلاح إجبارية لكافة المومسات، من أجل إصلاحهن، وتوجيههن نحو حياة جديدة ذات بعد إنساني، وتأمين مصدر دخل لهن.
18ـ توسيع وتطوير كافة الخدمات الصحية والتعليمية، وبناء الطرق والجسور، والمشاريع الصناعية على قدر توفر الإمكانات المادية.
19ـ تأسيس جامعة بغداد، وتوسيع القبول فيها، من أجل تخريج الكوادر التي يحتاجها الوطن في عملية البناء والتطور والنمو في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية.
كانت هذه أهم الإنجازات التي حققتها الثورة في الأشهر الأولى من عمرها في الحقل الداخلي .
أما في الحقل الخارجي فقد كان أمام الثورة مهمات كبيرة وخطيرة يتعلق عليها مصير البلاد في المجالين السياسي والاقتصادي، وكان على رأس تلك المهمات ما يلي:
1ـ الخروج من حلف بغداد:
كان على رأس المهمات لحكومة الثورة في الحقل الخارجي الخروج من حلف بغداد، وتحرير العراق من التبعية السياسية والعسكرية للإمبريالية التي تهيمن على الحلف، والتي سخرت ثروات البلاد لكل ما يحقق أهدافها في المنطقة.
لم تستطع حكومة الثورة الإقدام على هذه الخطوة عند قيامها، بسبب الوضع الحساس الذي كانت تمر به الثورة، والتكالب الإمبريالي الهادف إلى إجهاضها، لكن عضوية العراق في واقع الأمر كانت قد انتهت منذُ اليوم الأول لقيام الثورة، ولم يشترك العراق في أي اجتماع لذلك الحلف.
وفي 24 آذار 1959 قررت حكومة الثورة الخروج من الحلف بصورة رسمية، وقام وزير الخارجية [هاشم جواد ] في ذلك اليوم بإبلاغ سفراء بريطانيا وتركيا وإيران والباكستان بقرار العراق الانسحاب من الحلف وتحرير العراق من أي قيد أو معاهدة تمس سيادته واستقلاله، وأن هذا القرار يعبر عن رغبة الشعب العراقي في التخلص من كل أشكال الهيمنة الإمبريالية، وبذلك أصبح حلف بغداد بدون بغداد، واضطر الإمبرياليين إلى تغير أسمه ومقره، وأصبح يدعى [منظمة المعاهدة المركزية]، وتخلص العراق لأول مرة من الهيمنة البريطانية منذُ احتلاله إبان الحرب العالمية
الأولى ، وتمتع بحقوقه الكاملة كدولة مستقلة ذات سيادة. (22)
2 ـ الخروج من منطقة الإسترليني:
كان ضرورياً أن تُتابع حكومة الثورة تحرير العراق السياسي بتحرير اقتصاده من الهيمنة البريطانية، والقيود التي فرضتها على العراق بارتباطه بمنطقة الإسترليني، حيث كان الدينار العراقي يتأثر بصورة مباشرة بتقلبات الجنيه الإسترليني، وخاصة عند ما كانت بريطانيا تقرر تخفيض عملتها، حسبما تقتضيه ظروفها الاقتصادية، أو نتيجة عوامل اقتصادية خارجة عن إرادتها.
لقد سبب ارتباط العراق بالإسترليني تضخماً هائلا في العملة العراقية إبان الحرب العالمية الثانية، مما أدى إلى التردي الخطير في الأوضاع المعيشية للشعب العراقي.
كما أدى هذا الارتباط بالإسترليني إلى عرقلة الإنتاج، وخفض أرباح التصدير والتأثير على الأسعار، وأدى إلى الحد من دخول رؤوس الأموال، وإلى الانكماش النقدي، و الأضرار بحركة الإنتاج.(24)
وهكذا فقد كان ارتباط العملة العراقية بالإسترليني يصب في خدمة الاقتصاد البريطاني يشكل عام، وكان لابدَّ لحكومة الثورة أن تُقدِّم على تحرير العملة العراقية، وفك ارتباطها بالإسترليني.
وهكذا دعت حكومة الثورة الجانب البريطاني إلى إجراء مباحثات بين الطرفين في 31 أيار 1959، وامتدت المباحثات حتى 4 حزيران، حيث أعلن عبد الكريم قاسم في خطابه، في مؤتمر المهندسين في 4 حزيران 1959 عن انسحاب العراق من منطقة الإسترليني، وبذلك أصبح العراق حراً في استعمال أرصدته الأجنبية بما يلائم مصلحة البلاد، وتنويع أرصدته من العملات الأجنبية القوية كالدولار مثلاً، وقد أكتسب الدينار العراقي قوة جديدة، حيث أصبح غطاؤه مكوناً من أقوى العملات الدولية، ومن الذهب، بعد أن كان يعتمد على الإسترليني فقط.
أّتبع العراق خطوته هذه بإقامة العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول المعسكر الاشتراكي، مما عزز استقلال البلاد الاقتصادي، وبالتالي استقلاله السياسي.
3 ـ معركة النفط وصدور قانون رقم 80 لسنة1961
كان على حكومة الثورة، بعد أن حررت العملة العراقية من هيمنة بريطانيا أن تُتبع ذلك باستخلاص حقوق العراق بثروته النفطية من شركات النفط الاحتكارية، حيث استطاعت بريطانيا بعد احتلالها للعراق خلال الحرب العالمية الأولى الحصول على امتيازات غير عادلة لاستخراج النفط بالتعاون مع شركات فرنسية وهولندية، وشملت مناطق الامتياز العراق كله من أقصاه إلى أقصاه، فقد تم مسح الأراضي العراقية من قبل الشركات، وظهر أن العراق يملك احتياطات نفطية هائلة في مختلف المناطق.
إلا أن الشركات الاحتكارية لم تسع إلى استثمار النفط، وزيادة الإنتاج واكتفت بمناطق [كركوك] و[عين زاله] في الموصل، هذا بالإضافة إلى الشروط المجحفة بحق العراق لذلك الامتياز الذي فرضته بريطانيا على العراق، مستخدمةً قضية ولاية الموصل، ومحاولة الحكومة التركية للاستحواذ عليها كوسيلة ضغط على المجلس التأسيسي، مخيرة إياه إما امتياز النفط بالشروط التي تريدها وإما أن تذهب ولاية الموصل، والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية إلى تركيا، وهكذا تم إجبار الحكومة العراقية على الرضوخ لمطالب الإمبرياليين.
ولما قامت ثورة الرابع عشر من تموز 1958، كان عليها أن تضع نصب أعينها انتزاع حقوق العراق من شركات النفط الاحتكارية، والعمل على رفع معدلات الإنتاج، واستثمار الاحتياطات النفطية بغية تأمين الأموال اللازمة للنهوض باقتصاديات البلاد، وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية والعمرانية، والنهوض بالخدمات الأساسية للشعب كمشاريع الماء والكهرباء، والإسكان، وبناء المدارس والمستشفيات وشق الطرق، وبناء السدود، واستصلاح الأراضي الزراعية، وكثير غيرها من المشاريع الطموحة التي كان العراق بأمس الحاجة إليها، لكثرة ما يعانيه من تخلف في كافة المجالات.
وعلى ذلك فقد سعت حكومة الثورة، بعد أن رسخت الثورة أقدامها، إلى دعوة الشركات النفطية لإجراء مفاوضات من أجل تعديل الاتفاقيات النفطية، واستخلاص حقوق الشعب العراقي في ثروته، والعمل على إشراك العراق برأسمال الشركات المستثمِرة، وإشراكه في مجالس إدارتها.
كان عبد الكريم قاسم قد نوه في أوائل أيام الثورة عن نيته في إجراء المفاوضات مع شركات النفط لاستخلاص حقوق العراق في إحدى خطبه أمام حشدٍ كبيرٍ من جماهير الشعب حيث قال:
{إن حكومة الثورة سوف تفي بتعهداتها، ولكنها سوف تعمل من أجل المحافظة على مصلحة البلاد الوطنية العليا، وآمل بأن شركات النفط سوف تتجاوب مع رغبة الحكومة في الاستمرار باستثمار مصادر ثروتها النفطية لفائدة الاقتصاد الوطني}.
لقد أراد عبد الكريم قاسم إفهام شركات النفط، أن العراق لن يرضى أن تتحكم فيه شركات النفط كما تشاء، وأن مصلحة الوطن فوق كل المصالح. هكذا إذاً دعت حكومة الثورة، بعد تم تثبيت أركان النظام الثوري الجديد إلى إجراء المفاوضات حول المسائل التالية:
1ـ توسيع الاستثمار ليشمل كافة المناطق التي استحوذت عليها شركات النفط بموجب الامتيازات المعقودة مع العراق، وخاصة تلك المناطق التي ثبت وجود احتياطات نفطية هائلة فيها مثل حقل الرميلة.
2ـ طلب العراق زيادة حصته من واردات النفط، حيث أن معظم تلك الواردات تذهب إلى جيوب الشركات الاحتكارية، ولم يكن يصيب العراق منها إلا القليل.
3 ـ طلب العراق المساهمة في رأسمال الشركات المنتجة للنفط لكي يرفع من حصته من الإنتاج، ولكي يكون له أعضاء في مجالس إدارتها التي كانت حكراً على شركات النفط فقط.
4 ـ طلب العراق إجراء تصحيح أسس حسابات النفقات والأسعار ورفع الغبن الذي أصاب العراق جراء تلاعب شركات النفط بها.
5 ـ طلب العراق أن تكون مصافي النفط في العراق خاضعة للدولة وملكاً لها، ورفع يد شركات النفط العاملة في العراق عنها.
كانت هذه هي أهم المطالب التي قدمها العراق لشركات النفط عند بدء المفاوضات معها في أوائل شهر آب 1958، إضافة إلى الطلبات الثانوية الأخرى. (24)
لم تبدِ الشركات النفطية أي مرونة، أو تنازل تجاه مطالب العراق، وخاصة حول الطلب الأول، وأصرت على مواقفها في جميع مراحل المفاوضات التي دامت أكثر من سنتين، وكل ما حصل عليه العراق في مفاوضاته تلك لا يعدُ أن يكون في المسائل الثانوية، مما دفع قيادة الثورة إلى توجيه إنذار للشركات النفطية بسحب المناطق غير المستثمَرة، والتي يشكل مجموعها حوالي 99.5% من مناطق الامتياز إذا لم تقم الشركات بالاستثمار فيها.
أما شركات النفط فقد تحدت حكومة الثورة فيما إذا كانت قادرة على الأقدام على مثل هذه الخطوة، وعلى الرغم من أن الوفد العراقي المفاوض ابلغ الشركات النفطية عن عزم الحكومة العراقية الأكيد على استرجاع حقوقه، وسحب المناطق غير المستثمرة، واستثمارها وطنياً، كان جواب رئيس الوفد المفاوض لشركات النفط ينم عن التحدي قائلا للوفد العراقي جواباً على الإنذار:[سوف نرى]!!، وكان يبدو واضحاً من هذا الكلام أن شركات النفط سوف تمنع ذلك بكل الوسائل والسبل، وفي المقدمة من ذلك السعي لإسقاط النظام الثوري في العراق.
لقد كانت شركات النفط تبغي الضغط على حكومة الثورة، لعرقلة كل مشاريعها الطموحة لتطوير البلاد في كافة المجالات متذرعة ببنود المعاهدة المفروضة على العراق فرضاً، وفي سبيل تنفيذ خططها المعادية لعراق الثورة بدأت تكيل التهديدات لعبد الكريم قاسم وحكومته، وعملت كل ما في وسعها لبث الشقاق والصراع بين أطراف جبهة الاتحاد الوطني، ودفعها للتناحر من أجل تهيئة الظروف لتوجيه الضربة القاضية للنظام الثوري في العراق، ولم تقدم سوى تنازلات ثانوية فقط، كان من بينها التنازل عن مصفى الدورة في بغداد، ومصفى الوند في خانقين، والتنازل عن امتياز شركة خانقين، وإلغاء وكالة التوزيع لشركة نفط خانقين، واستلام العراق شؤون التوزيع، وتعريب المصافي المذكورة، والاستغناء عن خدمات الأجانب فيها، وإنشاء جهاز لتوزيع الغاز السائل على المستهلكين. (25)
لم تجد قيادة الثورة بُداً من تنفيذ تهديداتها لشركات النفط لاسترجاع حقوق العراق في ثروته بعد تلك المفاوضات العقيمة التي دامت مدة طويلة دون التوصل إلى نتائج حاسمة تلبي مطالب العراق.
حيث أعلن عبد الكريم قاسم في 21 كانون الأول 1961 القانون رقم 80 لسنة 1961، والذي تم بموجبه استعادة 99,5 % من مناطق الامتياز من شركات النفط، وجاء القانون ضربة قاصمة لتلك الشركات أفقدتها صوابها وجعلتها تصمم على اغتيال ثورة 14تموز وقائدها عبد الكريم قاسم، وبدأت تعد العدة لانقلاب عسكري يطيح بحكومة عبد الكريم قاسم .(26)
4 ـ اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي:
وضعت حكومة ثورة الرابع عشر من تموز نصب أعينها استكمال تحرر العراق الاقتصادي، وإقامة العلاقات الاقتصادية مع سائر بلدان العالم، وخاصة بلدان المعسكر الاشتراكي التي كان النظام السابق قد قطع كل صلاته بها بضغط من الإمبرياليين، مما جعل الاقتصاد العراقي وحيد الجانب تتحكم به الدول الإمبريالية حسب مشيئتها.
وهكذا أقدمت حكومة الثورة على إعادة علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع تلك البلدان، وعملت جاهدة للاستفادة من إمكانيات وخبرات الاتحاد السوفيتي، وسائر البلدان الاشتراكية من أجل إقامة المشاريع الحيوية التي يحتاجها العراق، وتحرير تجارة العراق من هيمنة الإمبرياليين، وشروطهم المجحفة بحقه .
وجاءت اتفاقية التعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفيتي تتويجاً للعلاقات الجديدة القائمة على أساس احترام سيادة العراق واستقلاله، وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، والمنفعة المشتركة، واستطاع العراق بموجب هذه المعاهدة الحصول على قرض بمبلغ 55 مليون دينار عراقي بفائدة بسيطة لا تتجاوز 2,5 % سنوياً لتغطية نفقات التصاميم والمسوح والبحوث، وكذلك المكائن والآلات والمعدات، لمختلف المشاريع الصناعية والزراعية
والري، والاستفادة منها خلال 7 سنوات من تاريخ توقيع الاتفاقية.
وبموجب الاتفاقية تعهد الاتحاد السوفيتي بتقديم كافة المساعدات الفنية والخبراء، والاستشارات ونصب المشاريع، وتنفيذها، وتدريب العراقيين للعمل عليها، وقد شملت تلك المشاريع، الفولاذ والأسمدة والكبريت، والأدوية، ومعامل إنتاج الكائن والآلات الزراعية، ومعمل اللوازم والعدد الكهربائية، ومعمل المصابيح الكهربائية، ومحطة إذاعة مع أربع مرسلات ومعمل للزجاج، ومعامل للمنسوجات القطنية والصوفية، والتريكو، ومعمل للتعليب، وبناء سايلوات كونكريتية للحبوب، ومساعدات فنية لتأسيس خمس مزارع حكومية، ومشاريع الري وبزل الأراضي، وتأسيس أربعة محطات لتأجير التراكتورات، هذا بالإضافة إلى القيام بأعمال المسح الجيولوجي، وتصليح الأجهزة الجيولوجية، كما نصت الاتفاقية على بناء خط سكة حديد جديد بين بغداد والبصرة. (27)
لقد اعتبرت تلك الاتفاقية خطوة جريئة من جانب حكومة الثورة لبناء القاعدة الأساسية للاقتصاد العراقي، وتحريره من التبعية للدول الإمبريالية.
كما استطاعت حكومة الثورة أن تعقد مع الاتحاد السوفيتي، اتفاقية أخرى لتسليح الجيش العراقي والحصول على الأسلحة المتطورة التي حرمه منها الإمبرياليين، وبأسعار تقل كثيراً عن الأسلحة الغربية.
التوثيق
(21) الإصلاح الزراعي في العراق - عبد الرزاق الظاهر - ص 15 .
(22) مذكرة وزارة الخارجية العراقية / الدائرة السياسية / الشعبة الغربية / الرقم غ /63/63
(23) خطاب الزعيم عبد الكريم قاسم في مؤتمر المهندسين في 4 حزيران 1959
(24) هذا طريق 14 تموز ـ إبراهيم كبه ـ ص 41 .
(25) المصدر السابق ـ إبراهيم كبه ـ ص 43 .
(26) نفس المصدر ـ ص 45 .
(27) دراسة حول اتفاقية التعاون الجاسم ـ ص 3 ، 4 .
ملاحظة: للحصول على نسخة من هذا الكتاب الاتصال بالمؤلف على العنوان التالي
Alhamdany34@gmail.com