Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

حنين

قصة قصيرة
بقلم : شذى توما مرقوس
2003

...... لماذا يكون الفراق دائماً نهاية الطريق عاجلاً أم آجلاً ؟ ....... وكأنّ الأنسان لا يستطيعُ التواصُل أبداً مع الأنسان ..... مع الأخر ..... لماذا يُفارقُ الأنسان كُل من يُحِب وكُل ما يُحِب ؟! ..... لماذا دائماً يحدُثُ الأقسى ؟ ...... وأقسى مافي الأمر أن ينتهي حُب وكأنّكَ تذبحُ كائناً حيّاً فيُسفَحُ دمَهُ ويُغرِقُ كُل الدروب كالأمطار التي تغسِلُ الشوارع في يومٍ حزين ..... لقد فارقت وطنها لحاقاً بحبيبها الذي أرتأى لنفسِهِ بموافقةِ والديهِ طريق الهجرة حمايةً لهُ من الخطر المتربص بهِ ..... كان قد سبقها بمراحل في طريقِ هجرتهِ السريّة ...... لم يتبقْ لهُ الكثير من الرحلة ..... الأ أن الرحلة لم تصلْ نهايتها أبداً ....... لقد ذهبَ حبيبها في أحدى القوارب أملاً بالضفةِ الأُخرى ..... لكن القارب كانَ مُخادِعاً فأخذهُ الى ضفةِ الموت .... جرفهُ التيار قوياً وأغرقتهُ الأمواج ولم يكُنْ هُناك مُتسعاً من الوقت لأنقاذهِ ..... وقذفهُ الموج جثةً هامدة ..... بكتهُ حتى تفطرَ قلبها وحتى جفت مآقيها وحتى كرِهت حياتها من دونِهِ ... وظروف الطريق .... طريق الهجرة لا ترحم ولا تُعطي أي وزناً لأي مشاعر أو أزمات أو ظروف .... كان عليها أن تُقررّ أما الرجوع الى وطنها وعليها حينها مواجهة كُل المُسائلات القانونية والمُقاضاة والأحكام أو تُكمل طريقها السريّ نحوَ بلدٍ ما ....لم يكُن القرارُ صعباً .... وهكذا حملت جراحها وأحزانها معها وواصلت طريقها حتى أستقرت في هذا البلد الجميل الآمن الوديع ..... لكنّها كانت مُنهكة ..... كان الشوك قد نما عالياً أمام بابها غارِساً جذُورهُ في قلبِها وذاكرتها وروحها وكيانها.. ذكرى حبيبها المؤلمة سحقتها وكومتّها اشلاءاً .... كُل شئ هنا جميلٌ الى حدّ الروعة .... الا أنّها تختنق ..... ما في داخِلها من أحزان يُخيفُها ويخنُقها .... وتشعُر أنّها غيرُ قادرة على النسيان .... لقد عمقت الغُربة جراحها وملأتها مِلحاً ..... وليسَ من أملٍ في التئامها ..... أتعبها موت حبيبها وأنهكتها الغُربة وقتلها الحنين ..... والبارِحة في طريقِ عودتها دغدغت أنفها رائحةٌ مجهولة وكأنّها جاءت من الوطن ..... رائحةً أنعشت روحها .... رائحةً ممزوجة بنوعٍ من دُخان السكائر الشائعةُ الأستعمال في بلدِها ... المخلوطة بهواءِ وطنها .... ودونَ أرادة منها وجهت نظرها صوبَ من خلقت حركة جسدهُ وثيابهُ هذهِ الرائحة وهو يُهُمّ بمغادرة مقعدهِ في الحافلة للنزول منها ... فكرّت أنّهُ بلاشك سيكون رجلٌ بسحنة وملامح وبصمات بلدها .... الا أنّها لم ترى أمامها ما ظنتهُ ..... بل رجلٌ من هذهِ البلاد التي تعيشُ فيها ... أشقرُ الشعر .... أخضرُ العينين .... طويلُ القامة ... جميلُها .... كانت تتصورّ أن هذهِ الرائحة لا تحمِلُها الا الأرض التي وُلدت فيها .... وطنها .... كمّ خدّاعٌ هو الحنين وماكر .... يسوقها الى حيثُ تختلطُ الأوراق فالربُّ هو ربٌّ واحد وما أنعمَ بهِ على وطنها أنعمَ بهِ على بقية الأوطان والكُلُ أبناءُ الله ... أشقرُ الشعر .... أسودَهُ .... أفريقيُ السحنة ..... أوربيُ الملامح ..... آسيويُ التقاسيم .... كم نحنُ واهمون في أفكارنا ..... إِنّهُ وهمٌ كبير يجبُ الخروج من دائرتهِ ..... حتى تكونَ هُناكَ طريقاً مُستقيمة .... لقد تفاجأت أيضاً في ذلك الصباح الماضي بدفءٍ كانت تظُنّهُ حِكراً لوطنها وحدهُ .... وكانَ الهواءُ عابِقاً تماماً كما كان في وطنها أحياناً ..... وخدعها الحنين أكثر حينَ أستيقظت من النوم ذاتَ مرة على صياح الديك ثُمَّ تبعتهُ أصوات تغريد العصافير فوق الأشجار ..... كانت الحياة تبدو غافية يُداعِبُ جفونها صباحٌ جميل يدعوها للنهوض .... أذاً كُلُ هذهِ العطايا لا تخُصُّ وطنها وحدهُ ..... أنّها تخصُ الكون بأكملهِ ...... وحتى تكونُ أقرب الى الحقيقة أعترفت لنفسِها أنّ ذلك لا يخُصُّ المكان بقدرِ ما يخصُّ مشاعرنا ..... مشاعرنا هي التي تقول وتحكي وتُصّور وتُفسِر ......
فالمكان هو ما نحمِلهُ في دواخِلِنا لأننّا نعيشُ في مُحيطهِ ومُجرياتهِ .... المكان ليس تلكَ الأرض التي تطأُها أقدامنا بأسمائها الجُغرافية ..... المكان هو مانحمِلهُ في دواخِلِنا وذواتِنا .... ولهذا أيُّ أرضٍ تطأها أقدامنا فأننّا نحمِلُ اليها أحزاننا وأفراحنا وتشكياتنا ومتاعبنا وكياننا ..... لا نستطيعُ أبداً أن نترُكَ خلفنا في أرضٍ عبرناها كُل ذلك .... بل نعبُر بكُلِهِ الى الأرض الأُخرى ويبقى المكان هو نفسُهُ رغمَ تبدُّل الأسماء والخريطة ..... وهذهِ هي الدلالة نحو رأس الخيط الذي أرادَ الربُّ أن يضعهُ بين أيدينا ويلُفّهُ حولَ أصابِعنا ...... الدلالة التي تؤكِدُ أن الكوكب الأرض هو بلدٌ واحد وأن كُلَّ البشر اللذين يتنفسونَ نسماتهِ هم شعبُ الله .... فنسماتُ هذا الكوكب هي نسماتٌ من روح الله العظيم الرحيم ....والرب العظيم الرحيم لايشاءُ أن يرحمها فيُطفئ النيران المتقدة في قلبها .... تشعُرُ كثيراً أنّ النيران التي في قلبها أبداً لن تنطفئ حتى وأنّ خرجت الى الشوارع تركضُ بكُلِ ما أوتيت من قوة وتصرخُ بأعلى صوتها وتشكو وتبكي .... لعلّ السماء تسمعُها وتعرِفَ كُلَ مظالِمها ...... وتُفكِرُ أن ما بها من اللوعة لايتسعُ لهُ أمتداد الكون ..... فهل ستبقى معها هذهِ اللوعة دائماً وأبداً .... ألن تنتهي ؟
..... ألن تنطفئ النار في قلبها وتخمد .... أيُّ أملٍ يُداوي كُل هذهِ الجراح ويجتثُها من عُرُوقِها .... وجذورُ هذهِ الجراح غائرة في تُربةِ روحِها تتغذى من عقلها وقلبها ومنها ...... الا ترتوي من روحِها وعقلِها وقلبها وكيانها وكُلُ جزءٍ منها ؟؟ إَنّها تتسائل .... هل من مُجيب ؟ ..... من عُمقِ جراحِها النازفة صرخت الى ربّها : ..... لماذا لا تتفقدني وأنا التي أتوسلك ..... لماذا لا تستجيبُ وأنا التي أرجوك ..... لماذا تديرُ وجهكَ عني وأنا أتحدثُ اليك ....
وصُراخها ضاعَ في الهواء .... كما ضاع منها حبيبها وفقدتهُ الى الأبد ..... حملت رُزمةَ ذكرياتهِ معها الى حافة النهر .... صُورهُ ورسائِلهُ .... حُبّهُ ومشاعِرهُ ..... قد يأخذُ النهر ذِكراهُ كما أغرقهُ .... لو ترمي بهذهِ الرُزمة الى النهر .... لو تستطيع .... لرُبّما شُفيت من ذِكراهُ وعذاب فراقه .... رُبّما تُصبِحُ قادرةً على الحياة أو على الأقل الأستمرار فيها أو على هامِشِها .... لو تستطيع أن ترمي بهذهِ الرُزمة الى شفتي هذا النهر ليبتلعها ..... لكنّها لا تستطيع ...... أستلقت على الحافة .... هائمة .... مُتخبطة زمناً ما لم تعرف أبداً كم دام ..... وحين نهضت لألتقاط الرُزمة من مكانها سرقتها الريحُ المفاجئة من بين يديها ودفعتها الى النهر .... فطفت مُتناثرة فوق وجهِ المياه مُبللّة ..... مُقطعة الأوصال .... أندفعت بجنون نحو الماء محاولةً لمّ مايمكنُ لمّهُ من هذهِ الذكريات .... لكنّ لم يعُد هناكَ ما يُمكِنُ جمعهُ ..... وفوق تلك الذكريات تناثرت دموعها بلا أنقطاع ......
بقلم : شذى توما مرقوس
2003
ShathaM@hotmail.de

مُلاحظة : ــ { حنين } قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير المنشورة ـــ حكايات جدُّ صغيرة .... كبيرة ـــ .... عن الغربة Opinions