خنازير تأكل أبناءها، وأرهاب مجنون... كيف ومتى يصدق الناس ما هو غير معقول؟
14 كانون الأول 2010"من يشرب الخمر يصبح حماراً"، كتب أحد المعلقين في المعركة الإعلامية حول غلق النوادي في العراق، فكتبت: لماذا لم نصبح سادة العالم إذن، وأكثرهم يشربون وأكثرنا لا يشربون؟ ثم تساءلت مع نفسي: لماذا لم يخطر بباله أن يطرح هذا السؤال ليكتشف خطأه بنفسه؟
وتذكرت أمراً قديماً... كنت صغيراً حين قرأت مقالاً في مجلة "العربي" لا أزال أذكر عنوانه تماماً: "البيرة، ذلك السم الزعاف!". صدقت في البدء، فالمجلة محترمة ومطبوعة بشكل ممتاز وورق لماع، وفجأة خطر ببالي سؤال: كيف إذن لم يقض هذا السم الزعاف على الغرب كله؟ لماذا لا يموت القساوسة الذين يصنعون ويشربون البيرة والخمرة، أو على الأقل لماذا لم يقصر عمرهم؟ بدا لي الموضوع غير معقول بشكل جلي، وتساءلت: لماذا لم يطرح كاتب المقال هذا السؤال على نفسه؟
هذه الأفكار كانت من تداعيات معركة إغلاق النوادي الليلية في العراق، ولم تكن المبالغات في الجانب الإسلامي المنطلق، والمؤيد للإغلاق فقط، بل أيضاً في الجانب العلماني المنطلق المعارض لها. فلم أوقع الدعوة لنصرة الدفاع عن الحرية، التي دعا إليها من كتب النداء، لأني وجدته يتحدث بشكل مبالغ به، وتساءلت أيضاً، هل أن الفرق بين بغداد وقندهار هو في ا لنوادي وحدها؟ ولماذا لم يشعر من كتب ذلك ومن وقعه بأنه ذهب بعيداً في المبالغةً في قلقه؟ هل هي مبالغة بفعل الخوف، أم تراكم لمخاوف واحتجاجات سابقة لم تجد فرصتها للظهور، فبدت وكأن قضية النادي أخذت حجماً أكبر من حجمها؟
في الجانب الآخر كانت المبالغات كثيرة وتم تصديقها بسهولة وبلا تساؤلات: "الإساءة إلى العوائل البغدادية" ، "الراقصات المستهترات والرقص في الشوارع" "الضوضاء والعربدة"..قال الجانب الحكومي أنه كان يريد فقط "تنفيذ القانون على نوادي بلا رخص" وأن من يعترض إنما "يدافع عن ا لمخمورين والسكارى" و "يحمي الرذيلة"، وأمثالها من الإدعاءات التي مرت بلا تساؤل عن معقوليتها وواقعيتها. لم يسأل أحد مثلاً: لو كانت قضية ترخيص فقط، فهل يعقل أن يتظاهر المثقفون بدلاً من أن يقدموا طلب رخصة لفتح نادي لهم؟ وإذا كانت المسألة مسألة تراخيص، فما علاقة مجلس بغداد؟ ولماذا يرسل فرقة مسلحين؟ هل أن النادي أعلن العصيان وحفر الخنادق وأعد المتاريس؟ وهل يصاحب سكر المثقفين دائماً "العربدة" لترتبط الكلمتان بهذا الشكل؟ وكم عائلة أشتكت فعلاً من "عربدة" سكارى نادي الأدباء والكتاب؟ أتصور لا أحد! أذكر أن الشارع الصغير في المنصور الذي يضم نقابة المهندسين والمحامين والإقتصاديين ونقابة أخرى، كل منها تمتلئ حدائقها بمن يأكل ويشرب، كان دائماً هادئاً لا تسمع فيه همسة، ولم أر فيه أية مرة خلال سنوات طوال "راقصة تترنح مع سكران"، فلماذا تم اختلاق صور المبالغة، وما الغرض منها؟
شارك في تأييد الحملة لغلق النوادي الشيخ محمد اليعقوبي، وهو يعد مرجعية كبرى، وله مواقف تجعل من الصعب اتهامه بسوء النية أو تسرع التحليل، مثل موقفه الشجاع والدقيق من التطبير والذي أعلنه قبل أيام. لذلك يحتار المرء في تفسير ما قاله من أن "شاربي الخمر يبولون على بعضهم البعض عندما تمتلئ بطونهم"، وهي عبارة "عجيبة" أحار في وصفها، فكيف مرت على ذهن تعود أن يزن الأمور ويتأكد ويراجع قبل أن يتكلم لتأثير ما يقول ومسؤوليته عنه؟ وهل يتوقع أن يصدقها الآخرون؟
لكن يبدو أن كل شيء كان ممكناً في ذلك الإشتباك وجو عدم الثقة، وكل جهة تصدق ما يناسبها من "حقائق"، مهما كانت.
قبل بضعة سنين حضرت جلسة نقاش في جامع في دولة خليجية، وانتقل الحديث في غرفة صغيرة إلى موضوع الخنزير. تحدثوا عن وساخته و"قلة غيرته" ...ألخ، وبدا وكأن الجميع كانوا يتبارون في المزايدة على مساوئ هذا الحيوان حتى وصلوا إلى أن: الخنازير تأكل أطفالها، فابتسمت لتصديق هؤلاء تلك القصة غير المعقولة!
سألت الشيخ، أليست الخنازير حيوانات نباتية؟ ساد صمت ثقيل، لكنه لم يكن عدائياً، الشيخ دار حول السؤال، مؤكداً أن الخنزير يفعل ذلك، فأكملت: وكيف لم ينقرض هذا الحيوان الذي يأكل أطفاله؟ تحول الصمت إلى ضوضاء خفيفة، وفقد الجالسون اهتمامهم بالحديث، وحين خرجت كنت أتساءل كيف لم يخطر ببال أي منهم هذا السؤال؟
الخنزير الذي يأكل أطفاله، ليست بدعة خيال بسطاء ذلك الجامع كما عرفت فيما بعد، ففي بدايات المسيحية كان الوثنيون يتهمون المسيحيون بأنهم يفترسون أطفالهم! المسيحيون تألموا كثيرا من هذا الظلم بلا شك، وتساءلوا أيضاً كيف يمكن أن يفكر الوثنيون بهذا الشكل القبيح عنهم. لكن ذلك لم يمنعهم من توجيه نفس التهمة العجيبة إلى اليهود في أوروبا القرون الوسطى. كذلك لم تجد مسرحية شكسبير "تاجر البندقية" التي تصور تاجراً يهودياً يسعى إلى أكل قلب شاب مدين له بالمال، أية صعوبة في اختراق قلوب وعقول الإنكليز في القرن السادس عشر وما بعده ولم يتساءل الناس عن معقولية هذا الطرح.
اليهود الذين عانوا من ذلك الظلم، تساءلوا بدورهم بلا شك أين عقل المسيحيين ليقبلوا مثل تلك التهمة؟ لكنهم يتهمون المسلمين اليوم بتهم لا يقبلها العقل أيضاً، ويقبل الكثير منهم يقبل بلا تفكير ما جاء كتبهم الدينية المليئة بما يعامل غير اليهود كوحوش يجب إبادتها مع أطفالها.
ربما ينظر القارئ اليوم إلى هذه الأمور، وتصديق هذا الجنون، على أنها تاريخ سحيق القدم حين كان الإنسان بسيطاً ساذجاً إلى درجة يمكن فيها أن يصدّق بمثل هذا، لكن الأمر ليس كذلك. ومثلما حصل الشيوعيون على حصة الأسد من اللوم والإشاعات في معركة النوادي، فإنهم كانوا يحصلون على مثل تلك الحصة منذ بدايتهم، ولم تكن الإشاعات الموجهة ضدهم بأكثر غرابة من تلك القديمة بين الأديان. فقد نشر الأمريكان أيضاً، بأن "الشيوعيون يأكلون أطفالهم"! وبقيت التعاليم بأن السوفيت يأكلون أطفالهم تنشر من قبل بعض الجهات مثل جمعية جون بيرج لجمهورها الواسع على الأقل حتى أواخر عام 1978. (*)
هاهي مجلة تايمز تعرض صفحة بخط عريض: "وصف لفضاعات حكم الحمر. سيمون وويلش يحكون لمجلس الشيوخ عن الفضاعات التي يرتكبها البلشفيك – تعرية النساء في الشوارع ، وجميع الناس عدا الحثالات يتعرضون للعنف من قبل العصابات".
يكتب المؤرخ فريريك لويس شومان : "كانت النتيجة النهائية لتلك الأحاديث ... تصوير روسيا السوفيتية كمكان بلا قانون، يقطنه أناس من أدنى أنواع العبيد، محكومين بمجموعة مهووسة بالقتل، تهدف إلى محو أي أثر للحضارة، والعودة بالأمة إلى البربرية".(**)
لم تكن هناك أية حدود للقصص الخيالية عن البلاشفة تعتبر مرفوضة أو غير معقولة، ليمتنع الإعلام عن طبعها ونشرها، إبتداءاً من "تأميم النساء" ووضعهم "تحت ملكية الدولة" مع كل ما يرافقها من تفاصيل مثيرة للإشمئزاز عن "الحب الحر" و "الزواج الإجباري"، إلى "أكل البلاشفة لأطفالهم" وكان ذلك ينشر من خلال ألاف القنوات في البلاد كما كتب شومان. (**)
ويعرف العراقيون أيضاً الإشاعات التي انتشرت في الخمسينات والستينات وما تلاها عن الشيوعيين، مثل التحلل الأخلاقي في التعامل مع النساء وشيوعية المرأة وتأميمها، وهكذا ترددت هتافات غريبة مثل "ماكو مهر بس هالشهر"، ونشرت في كل العراق إشاعات مسيئة عن النساء الشيوعيات أو أية عائلة فيها شخص شيوعي، وروت لي والدتي أحداث محددة بالأسماء عن قصص تشهير دمرت عوائل كريمة كاملة بلا أي ذنب، وبلا أي ضمير.
ولم تزل تلك الأفكار التشهيرية المناقضة للواقع تتردد حتى اليوم، وإن كانت بشكل نادر، مثل ترديد طارق حجي، كاتب موقع الحوار المتمدن المدلل، الذي لم يفوت أية فرصة للهجوم على الشيوعية واليسار والإساءة إليهما، مثله مثل وفاء سلطان المتخصصة بإهانة الإسلام والشيوعية معاً (وهو ما يفضح ما وراءها)، ومحاولة دفع الإسلاميين والعلمانيين بكل طريقة إلى الإشتباك بطريقة صراع الديكة وأبعد ما تكون عن التمدن، تماماً كما يفعل برنامج الجزيرة - "الإتجاه المعاكس" بين أطرافه!
الإسلاميون كانوا مستعدين لتصديق أي شيء سلبي عن الشيوعيين والعلمانيين، لكن هؤلاء لم يكونوا أفضل مقاومة لتصديق الكذب المفضوح، عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين، فكانوا أول من يصدق الوصف السيء لخصومهم التقليديين، حتى تلك الواضحة الخطأ، ويبدو أنها طبيعة بشرية لا تستثني جهةً. لذلك رأينا الكثير من العلمانيين، يصفقون في الحوار المتمدن لكل ما تقوله وفاء سلطان الهستيرية أو كامل النجار المتطرف بشكل مضحك، والذي ينكر وجود أي فضل إسلامي في التاريخ (!) حتى ما يعترف به أشد الغربيين كرها للمسلمين، أو أؤلئك الطارئين الذين يحاولون أن يبينوا "حداثتهم" بالهجوم على الإسلام (دون غيره!) وبأشد ما يتوفر لهم من كلمات، بحجة الصراحة، وغالباً بدون وجه حق، وبتهم تشهيرية ضعيفة التأسيس، إن لم تكن كاذبة تاريخياً.
هذه "التهم" الضعيفة ذكرتني بمحاولات تشهير سابقة استهدفت واحدة منها المالكي خلال الإنتخابات، حيث نشرت في الإنترنت صورة له بشكل بياع محابس في دمشق! وأخرى استهدفت أحمدي نجاد بعرض صور له وهو يستقبل حاخامات يهود على أنها تثبت ان له علاقات سرية مع إسرائيل. وتقبل خصوم الرجلين، وهم من العلمانيين غالباً، تلك الأخبار والصور بفرح واضح، وسارعوا إلى إرسالها لكل قوائم البريد الإلكتروني لديهم، رغم أن بيع المحابس ليس عيباً، ورغم أن الحاخامات الذين ظهروا في صور نجاد كانوا يلبسون بدلات عليها قطع كبيرة تمثل العلم الفلسطيني، وتحتها العلم الإسرائيلي مشطوب عليه بالأحمر، فقد كان هؤلاء الحاخامات من المعارضين لوجود إسرائيل نفسه!
لنختم الأمثلة بتجربة شخصية لي قبل بضعة أسابيع. إثر مقالاتي التي أشارت إلى قصة فراس الغضبان الحمداني حول ذبح الإرهابيين لضحاياهم في كنيسة النجاة أمام الباقين، وعندما لم يستطع الحمداني أن يجيب عن السؤال عن مصدر القصة التي ثبت تلفيقها بالشهود، ويأس من أن أتعب وأكف عن طرح السؤال، أختار الهجوم كأفضل دفاع ولجأ إلى سلاح تشويه السمعة من خلال اتهامي بأني "أدافع عن الإرهاب"، مشفوعاً ببعض التهديدات التي تضمنت محاسبتي "عشائرياً"! وصحب هذا التشهير، حملة تشهيرات من أشخاص مجهولي الهوية، بعضها حاول إلصاق تهمة الطائفية بي، وبعضها الأخشن جرب تهماً في الشرف وأخرى بالإدعاء أن لي أخاً كان يعمل في سفارة هولندا في الأمن الصدامي، ونشرت في مواقع مختلفة. التهمتين كانتا ضعيفتين للغاية، فعدا أنهما أشيعتا في توقيت مشبوه، وإنهما لم تستندا إلى أية دلائل أو فكرة تساعد على تمريرهما، فقد كانتا تهمتين يسهل علي البرهنة على خطلهما.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تنجح التشهيرات في عملها حتى عندما تكون تافهة وبلا أي أساس؟ فماذا يعني لو أن المالكي عمل فعلاً في بيع المحابس في سوريا، ولماذا يضحك خصومه كأنهم اكتشفوا شيئاً خطيراً؟ وكيف لم ير الذين أعادوا إرسال الإيميل الذي يحمل صور نجاد إلى أصدقائهم كدليل عمالته لإسرائيل، تلك القطع الكبيرة الملونة على ملابس الحاخامات؟ وهل يصدق أحد أن صائب خليل المتهم من قبل البعض بالتحيز للشيعة والمالكي وإيران لكثرة ما وقف بجانبهم عندما رآهم على حق، يقول كلاماً طائفياً ضد الشيعة أو الإيرانيين؟
لكن من الناحية الأخرى، لو لم تكن التشهيرات، حتى التافهة، تنجح أحياناً، لما استخدمها أحد، فما سر ذلك النجاح؟
أحد أسرار نجاح عمليات التشهير يقوم على صعوبة الرد عليها، فمجرد محاولة الرد تنشر التشهير أكثر. لنستمع إلى نعوم جومسكي، الكاتب الأمريكي اليساري الكبير، وعالم اللغات الأول في التاريخ، تعرض الى الكثير من حملات التشهير التي قادها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة رغم أن الرجل نفسه يهودي. يقول جومسكي أنه لا يوجد طريقة للإنتصار على التشهير، فكيفما أجبت تخسر. ويضرب مثلاً تاريخياً عن الرئيس جونسون ألذي حين اشتكى إليه أحد مرشحي حزبه إلى الكونغرس، من أنه سيخسر المقعد، نصحه بإشاعة قصة عن منافسه بأن الأخير يمارس الجنس مع الخنازير. وحين قال له المرشح: لكن هذا غير صحيح! أجاب جونسون: أعلم ذلك، لكن كيف سيجيب خصمك؟ هل سيظهر في الإعلام ليقول أنه لا يمارس الجنس مع الخنازير؟
السر الثاني في احتمال نجاح عملية تشهير تافهة الإستناد، او صعبة التصديق أنها تكون عادة مسبوقة بقصف إعلامي شديد وطويل، يهيء الذهن لمرور تلك الشائعات دون معارضة منطقية تذكر، تماماً كما تخترق فلول المشاة مناطق العدو بسهولة إن سبقها قصف مدفعي وجوي كثيف وطويل يحطم مقاومة ذلك العدو ويمزق متاريس دفاعه.
إن تذكرنا هذا فلن يصعب علينا أن نتخيل شعوباً متحضرة تصدق القصص الخرافية عن السوفيت إن علمنا أن الهجوم الإعلامي على الإتحاد السوفيتي بدأ بعد الثورة مباشرة، وقبل ان تمضي سنة واحدة عليها كانت تعابير مثل "الخطر الأحمر" و "الهجوم البلشفي على الحضارة" و "التهديد الذي يمثله الحمر على العالم" تنتشر على صفحات نيويورك تايمز، كما كتب فريريك لويس شومان.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كان كل أمريكي فوق عمر الأربعين قد تعرض إلى حوالي 25 عام من البث المضاد للشيوعية، وهي الفترة اللازمة لتثبيت حالة تمتنع على العلاج (تعديل الخطأ)، وكانت مؤسسات معاداة الشيوعية تعيش حياتها الخاصة المستقلة عن الدولة. (**)
وكتبت بلانش ويزن كوك في دراستها عن فترة أوائل الخمسينات بأن النشرات الإذاعية لـ "راديو أوروبا الحرة" كانت تركز على التشهيرات التي تشمل اتهامات ملفقة بالتعذيب والفساد والجنون والرذيلة، وأنه لم تستثنى أية وسيلة لتصوير الشيوعيين سواء كانوا في إنكلترا أو بولونيا بأنهم أغبياء وعديمي الكرامة ولا قيمة لهم. (***)
وفي إيطاليا التي كان يسيطر عليها الشيوعيون الإيطاليون في نهاية الحرب العالمية الثانية، تم إغراق الإعلام بإشاعات لا حصر لها منها أنه: "في حالة حصول الشيوعيين الإيطاليين على الحكم، سوف يتم تفكيك المصانع الإيطالية وإرسالها إلى روسيا، وسيؤخذ ملايين العمال من إيطاليا إلى روسيا ليشتغلوا قسرياً." وكانت الإذاعة تقدم باستمرار من كان يصف لهم الفضائع التي تجري خلف الستار الحديدي."
وفي إيران 1953 ، حين كانت أميركا وبريطانيا تسعيان لإسقاط حكومة مصدق البرلمانية، ارسلت السي آي إيه رجال مدربين في شوراع طهران، يتظاهرون بأنهم من حزب توده (الحزب الشيوعي الإيراني) ويلقون الحجارة على الجوامع والقساوسة.
ولم يكتف الأمريكان بتشويه صورة الشيوعيين في العالم، بل شمل ذلك الوطنيين الذين يريدون سياسة مستقلة لبلادهم، مثل سوكارنو أندونيسيا، الذي اعتبر متساهلاً مع الشيوعيين بعد حصولهم على نتائج ممتازة في الإنتخابات، فتعرض إلى ا لتشهير، فصوروه على أنه وقع تحت تأثير مضيفة روسية شقراء تعمل للمخابرات السوفيتية.
وقد حقق هذا القصف الإعلامي الطويل والمركز، نجاحات مدهشة، فحول التشهير بسوكارنو كتب جوزف سميث، مسؤول مكتب السي آي أيه في اندونيسيا منذ اواسط 1956، قائلاً: "حققنا نجاحاً ممتازاً في هذه القصة، وانتشرت في الإعلام الدولي. وعندما حللت مجلة "راوند تيبل" الهامة أسباب انتفاضة 1958، فأنها وضعت ابتزاز سوكارنو من قبل شقراء روسية كأحد اسباب تلك الإنتفاضة."
ولدفع هذا "النجاح" إلى مستوى أعلى، بذلت السي آي أيه جهوداً كبيرة لتزوير أفلام جنسية أو صور، يمكن أن تسرب إلى الصحافة على أنها لسوكارنو والشقراء الروسية. ولما لم تستطع السي آي أيه أن تحصل على أفلام يصل فيها الشبه بين ممثليها وسوكارنو إلى الدرجة الكافية (وكانت الأفلام تجهز من قبل رئيس شرطة لوس أنجلس)، قررت السي آي أيه أن تسهم بنفسها في عملية الإنتاج فأنتجت قناعاً يشبه سوكارنو وأرسلته إلى رئيس الشرطة ليضعه على وجه من يمارس الجنس أثناء التصوير. إلا أن الصور والأفلام التي تم إنتاجها لم تستخدم، لسبب ما. كما أشار سميث.
كيف يعمل هذا القصف الإعلامي لتهيئة العقول لتقبل ما لا تقبله عادةً؟ لو لاحظنا تلك الشائعات الغريبة، لوجدناها تكاد تقتصر على جهات "مكروهة" بشدة من قبل الجهة المستعدة لتصديق الإشاعة : الشيوعيون مكروهون من الأمريكان، اليهود من المسيحيين، المسيحيين من الوثنيين، الخنازير مكروهة من قبل المسلمين، وهكذا. هذه الكراهية و"الإشمئزاز" هما ما يهيء العقل لقبول كل ما هو سيء عن الشيء أو الجهة المكروهة وبدون مراجعة لمعقولية تلك التهم ودقتها. وكلما كان الإشمئزاز أشد، كانت الأسئلة أقل، ولذلك يحرص الإرهاب أن تكون له صورة أشد اشمئزاز ممكن، أن تكون الصورة هي القتل الأبشع: الذبح وليس الرصاص، فهو ما يعطي سيلان الدم خيالاً أقوى عن الألم، يجعل رأس الإنسان يدور، فلا يفكر ولا يسأل.
أما "المقاومة المنطقية" فتمثلها الأسئلة المعترضة الطبيعية. أسئلة مثل: لماذا لم ينقرض الخنزير إذن؟ هل سبق لكم أن رأيتم سنياً له ذيل؟ لماذا يضع هؤلاء "الإسرائيليون" إذن علم فلسطين على بدلاتهم؟ وهذه الأسئلة الخطرة على عملية التشهير، تصمد لدى البعض رغم القصف، لذا يجب ردعها ومن قد يفكر بها. لذلك لجأ الغضبان ليمنع سؤالي إلى التهديد بالعشائرية، ربما ليس لي، أنا الذي أسكن في الخارج، وإنما لإسماع من قد يفكر في متابعته والمطالبة بمحاسبته في داخل العراق. ولا يصعب علينا أن من يجرؤ على طرح السؤال في المجتمعات الوثنية عن حقيقة أكل المسيحيين لأطفالهم، سيجابه بتهمة الدفاع عن المسيحية، مثلما حاول الغضبان مجابهتي بتهمة الدفاع عن الإرهاب، ومثلما يواجه كل من تجرأ على التساؤل عن حقيقة عدد ضحايا اليهود، بتهمة معاداة السامية.
دعونا ننظر إلى أشياء أخرى صرنا نصدقها رغم علامات الإستفهام: قصص الإرهاب. فالإعلام العراقي والعربي المسيطر عليه أمريكياً، يبث الإشمئزاز من "إسلاميين متطرفين" و "طائفيين" باعتبارهم من السوء والوحشية بحيث أنهم يفجرون أنفسهم من أجل قتل البعض من طائفة أخرى أو دين آخر، بالرغم من أني لم أعرف في حياتي شخصاً يكره طائفة إلى درجة الموت من أجل قتل البعض منها، حتى لو لم يكن هؤلاء المستهدفين، قياديين أو مهمين او حتى معروفين من قبله، ولم أسمع بمثل هذا في حياتي. لماذا تحيط كل عملية إرهابية عشرات الأستفهامات، التي تحتاج إلى تجاوز المنطق لقبولها، تماماً كإشاعات تشويه السمعة؟ أليس معقولاً أكثر أن جميع العمليات الإنتحارية كانت بدون وعي أو قصد المنفذ لها، وأنه ملغوم دون أن يدري، أو يكون قد غسل دماغه من قبل جماعة علمية متطورة؟ الا يجب في هذه الحالة أن نستبدل عبارة "الإنتحاريين" بـ "الملغومين" لكي نضع أنفسنا على طريق البحث الصحيح ونبحث عمن يلغمهم بدلاً من البحث عن الجنون الذي يدفع بهم إلى ذلك العمل الذي لا يصمد للأسئلة المنطقية؟
هل تم إمساك أي شخص كان يقصد الإنتحار بوعي كامل، وكانت له شبكة معروفة رتبت له الأمور؟ ومن ناحية أخرى، الم يتم الإمساك ببريطانيين متلبسين بعملية تفجير إرهابية إنتحارية في البصرة؟ لماذا أهملت؟
لماذا لم يصادف أن عرف أو سمع بشخصية حقيقية من تلك الشخصيات العجيبة خلال كل تلك السنين التي سبقت الإحتلال أو بعده؟
هل يكون ذلك لأن مثل هذا المجنون غير موجود! وإنه شبح خلق في رؤوسنا من خلال التلفزيون الذي "يقصفنا" بالأخبار والإعلانات التي تؤكد وجوده كل يوم عشرات المرات، بين البرامج، وبدعوى الوقوف بوجه الإرهاب؟ أيكون الشبح الذي تكسيه في رؤوسنا اللحم والعظم، قصص كثيرة تشبه قصة فراس الغضبان الحمداني دون أن ندري، وتثبت الصورة الوحشية لإنتحاريين إسلاميين ذباحين كما أخرجها لنا التلفزيون برسائل لايمكن التأكد من مصدرها؟
لم نر ولم نعرف في حياتنا مثالاً لهذا الشبح الذي يدعيه الإعلام، مثلما أن أحداً لم ير خنزيراً أو مسيحياً أو يهودياً أو شيوعياً يأكل أطفاله، فهل هما خدعة واحدة، عن شبح خرافي غير موجود، وأن من يقوم بالإرهاب والتفجيير والتخطيط له وإدارته جهات عاقلة تماماً، تدرك ما تريد وتسعى إليه بأي ثمن؟ قد تقول: والملايين الذين يصدقون اليوم قصة الإرهاب الإسلامي والطائفي، هل يعقل أنهم جميعاً مخدوعون؟ ولكن ألم يكن الملايين أيضاً في يوم ما متأكدين من أن اليهودي يأكل أبناءه والمسيحي والشيوعي كذلك؟
مثلما نعجب نحن اليوم كيف صدق الناس في الأزمان الغابرة قصص المجانين عن أكل الخنازير واليهود لأبنائهم، أرى أن يوماً سيأتي سيتعجب أبناءنا كيف صدق آبائهم بقصص الإرهاب التي تصرخ باللامعقولية.
هل أن هذه الحكاية أزلية؟ هل البشرية محكومة بالإنخداع إلى الأبد؟ هل سيخدع أولادنا أيضاً بقصة أخرى عجيبة تناسب جهة مستفيدة ما، وأن أولادهم سيتساءلوا أيضاً كيف صدق آبائهم تلك القصص؟ هل أن معركة العقل البشري ضد التشهيرات غير المعقولة، والقصف الذي يهيء الجو لإنتصارها، معركة غير قابلة للكسب، أم ان ذلك العقل والمنطق سينتصر يوماً ويضع لها حداُ؟
(*) سان فرانسيسكو كرونكال ، تشرين الأول 1978- نقلاً عن كتاب "قتل الأمل" لـ وليام بلوم،
(**) "السياسة الأمريكية تجاه روسيا منذ 1917" – فريريك لويس شومان
(***) "آيزنهاور- الأوراق المنشورة" – بلانش ويزن كوك - نيويورك 1981