Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

رثاء للشاعر الوطني الكبير محمود درويش

نقصتنا فمن يكملك
(1)
نقصتنا فمن يكملك وبأي الكلمات ترى نرثيك وكيف تريدنا أن نقف في حضرتك منصتين صامتين دون صراخ وبكاء في المكان ،،، نعرف انك تحب الهدوء ما استطعت إليه سبيلا كما عشقت رائحة الخبز في الفجر ، سنقف صامتين مبكمين في حضرتك وأنت مسجاً أمامنا ،،، وأنت تحملنا لقريتك التي لم تعد منذ الآن منسية ،،، ولوالدتك التي لطالما حرصت على دمعها لا تحزني ، أماه فمحمود اليوم عاد حراً كما أراد ، عاد حراً كما شاء وكما تمنى أن يكون ،،، محمود لم يخشى يوما من الغياب ولا حضرته ،،، لم يخشى يوما من الإبعاد وغربته ظل حنينه يأخذه الى سفح جبل الكرمل ، لم يخشى الغياب بل حرص أن يرتب بدلته مثلما كان يفعل كل يوم ،،، احتسى فنجانا من القهوة التي أعدها بنفسه ،،، أشعل سيجارةً وحمل معطفه الأسود على ساعده الأيسر وتذكرة سفر ،،، وبضع أوراق يخط بها كلماته من على متن طائرة تقله الى ولاية تكساس ،،، لم يكن يريد لأحد أن يعلم بموعد الغياب ،،، أحبَ الرحيل بهدوء ، دون ضجيج في المكان أو صراخ ،،، كما كان يحب ذلك دائما عند إحيائه لإحدى أمسياته الشعرية ،،، يصر أن يأتيه الموت في لحظة هدوء كبرى ،،، عله يكتشف سر لحظة الغياب الأبدية ، التي كثيرا ما كتب عنها من وحي خياله الواسع ،،، أراد أن يعيش لحظة الموت الأخير بهدوء ليرى لحظة غيابه ويحيا وقت الصعود الى الحياة الأبدية ودونما خوف أو تردد أو امتعاظ ،،، جرئ كعادته يذهب الى الغياب دون أن يعرف احد .




(2)

نقصتنا فمن يكملك وأدمعتنا وأوجعت قلوبنا وأبكيتنا في رحيلك الأخير، وانعطافك السريع نحو الغياب والرحيل ،، لا وقت للبكاء وأنت مسجا أمامنا، صامتا ، هادئاً ، كأنك تعد نفسك لكتابة قصيدة جديدة ،هي المرة الأولى التي ستجمعنا دون أن تشدوا لنا نشيدنا الوطني ، لن نسمع منك على هذه الأرض ، ننشدها نحن بصمتنا ننشدها بحزننا ننشدها بالألم الغياب الآن في حضرتك نسجل برأس الصفحة الأولى نحبك أولاً ونحبك آخراً، ونحبك ما استطعنا إليك سبيلا ،، سافرت الى الغياب الطويل دون تمرد أو تردد ، وحدك وحالة الغياب كنتما معاً ، ليس هناك من وقت لوداعك فعقارب الساعة لا تسير ببطيء ، وكأنك تتعجل الغياب فهل مللت منا ، أو انك تستعد لكتابة جداريه الغّياب هناك ، أم لان الكتابة والثقافة العربية أتعبتك ، وتحاول البحث عن لغة أخرى تكتب بها جدارية السماء ،، أمهلنا قليلا كي نتأملك أكثر ونقترب من نرجسيتك التي أُسرنا طوعا لها ، في حضرتك والغياب يسير الحمام أمامك ونحلق نحن معك نحو حيفا ورائحة البرتقال بفرحة العائد من منفاه الى الوطن ، نحمل أوجاعنا معاً وذكريات من رحلوا الى الخلود.

(3)
نقصتنا فمن يكملك ،،، ورحلت قبل ان نخوض تجربة اكتشاف عالمك وسحر كلماتك وعبقريتك الأدبية ،،، نستبقيك فينا جميلا جميلاً كما أنت ،،، نحاول قراءة لحظة غيابك الصامتة ، الهادئة، مرات ومرات حتى نفهمها – نصرّ أن نفهمها ولو استغرقنا الوقت طويلا – نحفظ أشعارك ، وكتاباتك ونصوصك الأدبية بهدوء كما تحب ،،، نعيش فيها حالات الحب والتعب وحالات المنفى و المقهى والجريدة ،،، نسكن إليك في حالة تمني ، نصحو في الصبح لأننا نحاول اكتشاف رائحة الخبز في الفجر ،،،، نستبقيك فينا طيبا كما أنت ونعيش الحياء كإحدى حالات التفرد والشجن، نجهش في البكاء ما استطعنا لغيابك الأبدي ورحيلك الدائم ونعتز بك كلما اقتربنا من خياليتك الواسعة وفضاء شعرك وعلّوك الأدبي والإنساني ، نحاول الإبحار إلى محيط ثقافتك في رحلة التعرف على الذات والتمايز عن الآخرين علنا نقترب فيك أكثر من ذاتنا الوطنية ، نستبقيك وطناً نعود إليه كلما شعرنا بمنفانا لنكتشف انك الان تعود من منفاك وتبقينا وحدنا في منفانا.
(4)
كما كل الكبار انت في رحيلك الاخير ، كما كل الطيبين النرجسيين ، رحلت ولم يعد هناك مساحات للكتابة فموتك احدث انهيار في الكلمات وشطب أجزاء من المفردات كنت وحدك تتقنها هي بساطة ألبلاغه ودقة المعنى وسرعه التعبير وعبقرية اجتياز منعطفات المعنى ، موتك غير شكل البلاغة والنصوص الأدبية – الشعرية والنثرية ، الجدلية والمرثية – سافرت إلى حيث أخذك سيد الموت مسلماً بحتمية مفارقة الحياة والى الأبد ، بصمت انصعت له بهدوئك ونرجسيتك وجمالك ، انصعت له رغم انك ترفض فكرة الانصياع للأشياء الخفية ، هي جدليه الموت غلبتك في خضم الحياة ، كنت تتمرد وترفض فكرة تقبلها ، أسكنتها قصائدك وأشعارك ولم تسكن إليها، لست أنت أنت وليست بطاقة هويتك ولا شخصك الذي نعرف ، أم انك تيقنت من حالة الغياب القصري هذه حان وقتها ولا جدوى من التمرد والرفض الذي لطالما سكن قصائدك وكلماتك لهذا رتبت حاجياتك وأنهيت قصيدتك الأخيرة وتركتها لنا كي نقرأها بصوتنا نحن لا بصوتك وتجاهلت اننا نحب حنجرتك مثلما نحب قراءتك ،، نحب سماع شجن المنفي وسط زحام الشتات وحنجرتك الماسية تحرك فينا الذكريات وشغف الحياة في المستحيل .

(5)
كما قلة من العظماء يرحلون وهم في قمة عطائهم الادبي ، استبقك الموت ام استبقته واستبقيته حاضراً في أشعارك ، ذهبت الية مرات ومرات قبل ان ياتي اليك ، حاصرته قبل ان يحاصرك و جعلت له مكانا في كلماتك وتحدثت عنه بفعل الحاضر الغائب فكان في حضرة قصائدك قبل ان تكون الان في حضرته ، وكأنك في حالة تواصل معه وهو الغائب الحاضر ، ونسجت علاقة غير عادية لم يقمها أحدا غيرك من البشر إلا الرسل والأنبياء وقله من الأدباء الذين تمرسوا في حضرة الغياب ، احتل هو قصائدك ام اسكنته فيها واوجدت له مكانة تفوق صفة الغائب حتى اننا اعتدنا عليه في قصائدك وكتاباتك دون ان نشعر بغرابته ووحشيته وظلمته ولم ندرك انك كنت تهمس لنا باقترابه منك وباقتراب وقت الرحيل إليه كلما كررت ذكره في كلماتك اقترب اكثر ، قرأناه بحب وتعطش رغم قساوته ونسينا تاثيرة فينا واعتقدنا انها حالة كأي حالة أخرى تلقي بظلالها علينا وترحل .

(6)
كما كل المتمردين على اللغة ترفض السكون امام الكلمات العابرة ، ترفض عبثية المفردات الضائعه ، فاخرجت نسقاً جديدا ، جميلا ، جديرا بفن الكتابة وفككت اسر القصيدة بين القافيه والتفعيلة ونسجت قصائدا اكثر جمالا في الحب والعشق والوطن واللجوء والخيمة والحنين الى الام ، وصنعت دستورنا الوطني ، نصاً جميلا مزركشاً وخلّاقاً حتى صار من ابلغ الجداريات والمعلقات على جردان مخيمنا ، صرنا نحن نرفض الانصياع حتى اقمنا في داخل كل واحد منا ثورة ترفض فكرة الاذعان او الذوبان ، فككت اسر القصيده وحررتها من عبوديه التفعيلة واخرجتها من نسقها المنضبط الى عالم الاندماج مع الذات ، لنعشق اكثر ونحب حيث نحب في نسقنا الجديد .

(7)
كما الفراشات الطائرات العائدات من المنفى الى الوطن ، كما الحمام المهاجر يحط بأرض الكرمل ، أنت في رحيلك المفاجئ الى حد الغرابة التي لا يتصورها العقل ، فهل هذا الرحيل ام انها العودة الحقيقية لقرية البروة بعدما اتعبك المنفى والمنفى والشتات ووحدانيه العيش ، عودة تلخص باختصار المعاني قصة عاشق لأرض استحق عليها الحياة ، عودة مفكر فسرّ ملحمة الحصارات وحكايا اللجوء ورسم جدارية فلسطين .

(8)
ولسنا اليوم نرثيك او نكتبك بين سطورنا ، ولسنا اليوم نبكيك جفت اقلامنا وكأنها ترفض فكرة الكتابة من بعدك ، جفت اقلامنا حزننا ودمعا على غيابك ، فالاستثنائيين لايمكن اختزالهم اوحتى محاولة وضعهم وتشكليهم في كلمات وجملٍ ومفردات هم بالاصل صنعوها ببلاغة المبدعين المتألقين ، الاستثنائيين دائما يكونوا متمردين خارج الكلمات يرفضون الانصياع لقواعد الكتابة والانضباط داخل نسق يحتكم إلى إليه الشعر المقيد ، فالاستثنائية ليست صفة تلازم العاديين مثلنا بل إنها تعلونا وتفوق قدرتنا الى الارتقاء نحوها مع حبنا الشديد وحاجتنا في كثير من الأحيان الى الوصول إليها .


Opinions