رد على السيد حبيب تومي ألا يتحمل رجال الدين قسطا كبيراً من مسؤولية وضعنا الحالي؟
إن النقد البنّاء ليس تعنيفاً بل هو وضع النقاط على الحروف، وهذه مسؤولية كل إنسان صادق ونزيه ويحس بالمسؤولية. نحن أعضاء في الكنيسة ولسنا قطيعاً يقاد. أنني لست بصدد الإساءة إلى مرجعياتنا الروحية أو الزمنية والتي أكن لها الاحترام، لكننا في منعطف تاريخي يُحدد من خلاله مصيرنا، ولا بد لنا أن نعبر عن وجهة نظرنا محبةً بكنيستنا وشعبنا، لكي نستفيد من الأفكار ونستنتج العبر، وألا تكون عدم مبالاتنا نقطة سوداء في صفحات التاريخ. أني من بين من يعتقد أن تكون أمور شعبنا المصيرية في يد رئاستنا الكنسية، شرط أن تكون هذه الرئاسة قيادية ورائدة ومخلصة وبعيدة عن التكتل القبلي - العشائري، والمصالح الفردية الرخيصة، والتي أساءت إلى مسيرة الكنيسة وشعبها.نشر السيد حبيب تومي مقالاً على موقعي عينكاوا ونركال كيت تحت عنوان: " بطريركية بابل على الكلدان بين مطرقة الإرهاب وتعنيف الكُتاب " يشتكي فيها من عنف ما يُكتب ظلماً بحق المؤسسة البطريركية، والسيد البطريرك معداً دوره على ما يرام .
هذه بعض أسئلة أتمنى أن تلقى جواباً: ماذا حقق غبطة البطريرك لشعبنا المهجر والمبعثر، ما هي الرعاية الروحية والمعنوية والمادية التي تقدمها البطريركية لهذه العائلات في داخل العراق وفي بلدان الجوار ؟. لماذا لا نسأل عن عدد العائلات التي تركت كنيستنا، وانضمت إلى الكنائس البروتستانتية، بسبب عدم مبالاة كنيستنا بمعاناتهم، والتي لم تبذل أي جهد يذكر لتخفيف مصاعبهم. أليس كل شيء بتراجع: الكهنة يهربون ويعينون في بلاد الاغتراب من دون قانون. تاركين الرعية في وقت هي في أمس الحاجة ليكونوا بجانبها. البطريرك اليوم يبارك هذا الفريق وغداً يخونه ؟ أليس هو من دعا في البداية للتسمية الموحدة لشعبنا الكلداني الآشوري، ثم غير رأيه وقسّمنا من جديد ؟. فهل هذا هو الموقف المشرف حسب رأيك ؟. نحن نفرح أن يكون بطريركنا جريئاً وقوياً وصاحب مواقف شجاعة وثابتة، وأن تكون مؤسساتنا على أحسن وجه. من المؤكد أن الأساقفة والكهنة يتحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية. وهل أضحى خلاصنا رهينة الصراع على التسميات، متناسين الأهم وهو المحافظة على إيماننا وحضورنا في ظل الحملات الظالمة التي تقترفها ضدنا زمر الجهل والغباوة.
البطريركية ليست فقيرة مادياً، حتى يأخذ غبطته مبلغ 100 مليون دينار عراقي من الحكومة لإصلاح الكنائس التي دمرت. ويطبل ويزمر لهذا الإنجاز الكبير في وسائل الإعلام، وما قيمتها أمام ما تركته عائلاتنا. كان الأجدر به ألا يستلمها ويسجل موقفا نبيلاً ؟؟ وأية كنائس سيتم إصلاحها بعد أن فرغت المنطقة من سكانها المسيحيين، الذين هجروا قسراً تاركين كل ما يملكوا ؟.
ما هي المبادرات التي قامت بها البطريركية تجاه شعبنا الجريح ؟ لقد آلمني ما قاله غبطته عندما قرأت أخيراً في احد مواقع الانترنيت: إن العراق انتهى ولا يوجد أمل إلا الصلاة ؟ هل هذا يعني أن نستسلم للقدر منتظرين نهايتنا. وكأننا قد استنفذنا كل الإمكانيات المتاحة، ولم يعد لدينا بصيص أمل في الاستمرار في أرضنا التاريخية. فالويل لنا لأننا فقدنا الرجاء.
أخي العزيز هل تقرأ ويقرأ رؤساؤنا شهادات شعبنا ؟: إليك بعضها حسب ما نشر في موقع عينكاوا من خلال مكتبه في بغداد في 19 حزيران 2007 تحت عنوان: " قصص ومآسي المسيحيين العراقيين في بغداد _ الوجود الكلداني الآشوري السرياني في بغداد والدخول في النفق المظلم ". فمن خلال العديد من اللقاءات مع العائلات المنكوبة التي تعرضت للتهجير، اكتفت بنشر آراء ثلاث منها:
فالعائلة الأولى هي من سكان حي المعلمين منطقة الدورة، يقول رب العائلة: " بعد عملية تفجير الكنائس في منطقة الدورة انسحب في البدء رجال الدين الأفاضل عن الكنائس وتركوها لما يعرف في حينه حرس الكنائس . . . فبدأت عملية اختطافات استهدفت في البدء أعضاء حرس الكنائس، وتم الإفراج عن البعض منهم مقابل مبالغ مالية كبيرة تحملها ذويهم. ثم تطور الأمر ليشهد اختطاف عدد من الأشخاص المنتمين إلى العوائل الميسورة مالياً وسط سكوت رهيب وعدم مبالاة ملحوظة من مؤسساتنا الدينية والسياسية. وفي تلك الأثناء قررنا ترك المنطقة . . نحن نشكر تنديداتكم واستنكاركم لكن الموضوع أكبر من التنديدات والاستنكارات والبيانات نريد حلول عملية لإنقاذنا ".
أما العائلة الثانية وهي من سكان حي العدل فيقول رب العائلة: " بدأت عمليات التهجير لذلك ما كان منا إلا ترك المنزل والتوجه للعيش في منطقة أكثر أمناً في بغداد. ومع أن راتبي وراتب زوجتي لا يغطي مصاريف الحياة المرتفعة، لكننا لا نتلقى أي عون لا من كنيسة ولا من أي جهة أخرى. نحن لا نريد أن نكون مجرد مادة إعلامية بل نريد حلول حقيقية، وأرجو أن يصل صوتنا إلى المسؤولين الذين نعتقد أنهم في وادي والشعب المسكين الذي فقد كل شيء في وادي أخر. نحن لا نريد أن تتحول معاناتنا إلى سلعة يتاجر بها الكثيرين من أجل الحصول على أموال طائلة لا نعلم إلى أين تذهب ؟ ".
أما العائلة الثالثة وهي من سكان حي الميكانيك منطقة الدورة فيقول رب العائلة: " اليوم الميكانيك مدينة يسكنها الموت فالعصابات والمسلحين عاثوا في المنطقة فساداً. وما زاد الطين بله كما يقال والذي شجع التهجير هو تمركز القوات الأمريكية في كلية بابل الحبرية بعد أن هرب الرهبان والقسان وطلاب الدير، وهذا ما أوحى للجميع بأن السلطة الدينية موافقة، خصوصاً أن أي تنديد أو استنكار لم يصدر من الكنيسة إلا بعد أن وقع الفأس بالرأس. مما جعل مسيحي المنطقة متهمين بكونهم موالين لسلطات الاحتلال الأمريكية، وبذلك هم خونة وجب تهجيرهم أو قتلهم. لذلك خيرنا ما بين الموت أو تغير ديننا أو ترك المنطقة أو دفع الجزية. حياتنا اليوم صعبة جداً. وأنا أناشد الجميع لكي يجدوا لنا حل رجاءً. أرجو أن تجد لنا الكنيسة حلاً، الشعب يعيش اليوم في أسؤ الظروف فهل سيتركوننا وحدنا نواجه مصيرنا المحتوم ".
أمام هذه المآسي المروعة التي يتعرض لها أهلنا في العراق، والتي لمسناها من الشهادات أعلاها، نسأل قادتنا الروحيين والزمنيين: ماذا تريدون أن يقول الناس عنكم. أليست حياتكم ملك للرعية وهذا هو معنى تكريسكم! نحن لا نسمع سوى صوت استنكار خجول من هنا وهناك. أما القول " أن رجال الدين أنفسهم ما برحوا أن أصبحوا في مقدمة الضحايا في عمليات الخطف والابتزاز والقتل والتشرد والتهديد ". فما الضير من ذلك لأن أمنا الكنيسة المقدسة علمتنا على فم معلمنا يسوع له المجد: أن الراعي الصالح يبذل نفسه من أجل الخراف. فرجال الدين هم من أبناء هذا الشعب، وقد كرسوا حياتهم لخدمة شعب الله. وإذا تركوه وحيداً في وقت المحنة فأي فضل لهم. لا نريد المواقف الرنانة في زمن السعة والراحة، لكننا نريد المواقف الشجاعة في زمن المحن والمصاعب حتى يطبق فيهم قول الرب " الراعي الصالح يبذل نفسه من أجل الخراف ".
وهنا أذكر موقف نبيل للمطران الشهيد مار أدي شير عندما عرض عليه عثمان أغا الطنزي مساعدته للهروب إلى الموصل حتى لا يقع في أيدي القتلة، فرفض عرضه قائلاً: كيف أترك شعبي في هذه المحنة وأنا ألوذ بنفسي، أريد أن أبقى إلى جانبه. وهكذا نال إكليل الشهادة بثبات وشجاعة.
ولا بد أن نذكر موقف البطريرك مار يوسف عمانوئيل الثاني، الذي بذل جهود جبارة للتخفيف عن معاناة المفلتين من سيف مذابح السفر برلك، وكان يستقبل قوافل المهاجرين في دار البطريركية بالموصل، ويجود عليهم بكل ما كان يملك، حتى وصل به المطاف إلى بيع كأساً وبيلاساً ليصرف قيمتهما على هؤلاء المعذبين. وعندما تبلغ من حاشيته أن ما تملكه البطريركية أخذ بالنفاذ، أطلق قوله المشهور: " لا أتحول عنهم حتى تروني متسولاً كواحد منهم ". أعتقد أننا اليوم بحاجة ماسة لأمثال أولئك الرعاة الصالحين، الذين اقترنت أقوالهم بأفعالهم.
ولا نقبل التبرير بالقول: " ماذا يستطيع البطريرك والمطارنة والقساوسة القيام به ". منذ عشرين سنة يتدفق المسيحيون العراقيون إلى تركيا وسوريا والأردن ولبنان ولم نسمع أن البطريركية أرسلت لجنة للإطلاع على أوضاعهم أو عملت شيئا لتخفيف معاناتهم. وأليس صحيحاً ما قاله رب العائلة الثانية: لا نريد أن تتحول معاناتنا إلى سلعة يتاجر بها للحصول على أموال طائلة لا نعلم إلى أين تذهب. فهل نستطيع أن نطلق على كل معاناة شعبنا قشور يجب أن نتخلص منها، لنتمسك بالجوهر كما يقول السيد تومي ؟.
وهنا أختم بنادرة قصيرة: " يحكى أن شخصاً اشتعلت ثيابه بالنار، فهرع بعض الناس لمساعدته على إطفاءها قبل أن تلتهم جسده وتقضي على حياته، فحضر شخص وهو يحمل حزمة من سنابل الحنطة الخضراء، وصاح في الناس قائلاً: اتركوني أشوي حزمة السنابل قبل أن تطفأ النار. فزجره الحضور بالقول: ما بالك أتريد أن تشوي حزمة سنابلك ولا تتركنا نطفئ النار حتى يموت الرجل ". أتمنى أن لا تتطابق هذه النادرة على ما نحن فيه اليوم.