رد على مقال الدكتور سعدالدين إبراهيم (من فيتنام.. للجزائر.. للعراق)
لا أفشي سراً إذا قلت أني من متابعي كتابات الأستاذ الدكتور سعيدالدين إبراهيم، وذلك لكونه كاتب ليبرالي يحمل الفكر التنويري، رافعاً لواء الدعوة للديمقراطية الليبرالية والدفاع عن حقوق الإنسان، ليس في وطنه مصر فحسب، بل وفي كل مكان وخاصة في البلاد العربية، إضافة إلى نضاله المستميت من أجل حقوق الأقليات وحقوق المرأة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والدكتور إبراهيم غني عن التعريف، فهو أستاذ علم الإحتماع، ورئيس مركز بن خلدون في مصر، وسبب شهرته الواسعة ونيله لعدد من الجوائز اعترافاً بنضاله، يعود كما قال مرة في إحدى مقالاته، إلى الرئيس المصري حسني مبارك الذي أودعه السجن ظلماً لسبع سنوات عجاف. كما وكان لي شرف اللقاء بأستاذنا سعد الدين إبراهيم في مناسبتين، آخرهما مؤتمر زيورخ أوائل هذا العام، حيث أفادنا بمساهماته القيمة وأمتعنا بأحاديثه الشيقة.ولكن، وأقولها بألم، أن مقاله الأخير الموسوم (من فيتنام ... للجزائر... للعراق) المنشور في صحيفة الراية القطرية وعدد من مواقع الإنترنت، كان صدمة للكثيرين من قرائه ومخيباً لآمالهم إلى حد أني لم أصدق أن كاتب المقال هو الدكتور سعدالدين إبراهيم الذي عرفناه مدافعاً صلباً عن الحداثة والديمقراطية وحقوق البشر. وأقولها بصراحة، لو لم يكن اسم الكاتب في أعلى المقال لظننت أن كاتبه ربما هو عبدالباري عطوان أو محمد حسنين هيكل.
لا أريد أن أرد على المقال فقرة فقرة، وإنما أود أن أتناول ما جاء فيه من موقف غريب إزاء القضية العراقية فقط وما يدور في العراق من إرهاب على أيدي فاشية العصر من أتباع الفاشية الإسلامية الوهابية المتحالفة مع الفاشية البعثية، حيث قام أستاذنا بخلط الأوراق وعامل ما قامت به أمريكا في العراق وتحريره من أبشع نظام فاشي جائر كتعامله مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر. والأنكى من كل ذلك أن أستاذنا يرفع الأعمال الوحشية البربرية التي تجري في العراق من قتل وحشي للأطفال والنساء وتجمعات الفقراء والكسبة في الأسواق ودور العبادة وغيرها إلى مصافي المقاومة الفيتنامية بقيادة هوتشي منه ضد الاحتلال الأمريكي من الخمسينات إلى السبعينات، والمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، ولا أدري كيف توصل كاتبنا إلى هذا الاستنتاج الغريب.
يسأل الكاتب: فما هي الخطوط التي تجمع بين فيتنام والجزائر والعراق؟ ويجيب قائلاً: الخط الأول هو الاحتلال الأجنبي، و الخط الثاني هو المقاومة، والخط الثالث هو الكفاح الشعبي المسلح.
دعونا نتناول هذه "المقاربات" لنرى هل فعلاً أنها خطوط تجمع أو تفرق بين هذه الحالات؟
أولاً، موضوعة الاحتلال، هل حقاً ما حصل في العراق هو احتلال؟
الجواب هو كلا. فرغم أن أمريكا نفسها طلبت من المجلس الأمن الدولي اعتبار وجود قواتها في العراق احتلالاً، وذلك لأغراض قانونية وسياسية كي تحصل على صلاحيات أوسع من المنظمة الدولية في إدارة البلد لفترة قصيرة بعد إسقاط النظام لحين أن يتم تشكيل الحكومة الوطنية، ولكن في حقيقة الأمر أن ما قامت به أمريكا هو تحرير العراق من نظام صدام حسين البعثي الفاشي بناءً على طلب وإلحاح من المعارضة العراقية آنذاك، وبعد أن صار نظام البعث يشكل خطراً ليس على الشعب العراقي فقط، بل وعلى شعوب المنطقة كلها كما هو معروف من حروبه العبثية، الداخلية والخارجية، حيث تسبب في قتل نحو مليونين من الشعب العراقي وتشريد نحو أربعة ملايين منهم في الشتات. ولذلك فإن ما قامت به أمريكا في العراق هو ليس احتلالاً بل تحرير بكل معنى الكلمة، وهو يشبه بالضبط ما قامت به أمريكا عندما حررت اليابان من العسكرية الفاشية، وألمانيا من النازية إبان الحرب العالمية الثانية. فهل حصلت مقاومة وكفاح شعبي مسلح في هذين البلدين ضد "الإحتلال"؟ الجواب: كلا، وإنما أثبت التاريخ أن ما قامت به أمريكا في هذين البلدين كان في صالح الشعبين، الياباني والألماني، وهما الآن من أرقى الأنظمة الديمقراطية ويتمتعان بأقوى اقتصاد.
ونحن إذ نسأل لماذا يشبه الدكتور سعدالدين إبراهيم العراق بفيتنام والجزائر ولا يشبهه بكوريا الجنوبية مثلاً الأكثر تشابهاً؟ قارن بين الوضع السياسي والاقتصادي بين الكوريتين، الجنوبية "المحتلة" والشمالية "الحرة"، بالله عليك في أي منهما يفضل العاقل أن يعيش لو أعطي الخيار؟
ثانياً، موضوعة المقاومة
هل حقاً ما يجري في العراق هو مقاومة وطنية كما يسمها الأستاذ سعد؟ هناك فئات يسمون ما يجري في العراق من أعمال قتل بالمقاومة وعلى رأسها هم أتباع ومؤيدي القاعدة وأيتام حزب البعث الساقط وأعداء الديمقراطية والعملية السياسية في العراق. فأية مقاومة هذه التي تستهدف الجماهير الفقيرة؟ والدكتور سعدالدين، كعالم اجتماع، يعرف أن معظم القتلة هم من أولئك الذين تم غسل عقولهم من قبل فقهاء الموت، جاؤوا إلى العراق بغية "الجهاد" والشهادة في سبيل الله والإسلام من أجل اللقاء السريع بحور العين، فيفجرون أنفسهم في الأماكن التي يزدحم فيها الناس الأبرياء من العمال المؤقتين، ودور العبادة والأسواق إثناء ساعات التسوق، فيقوم الإرهابيون الإسلاميون إما بتفجير أنفسهم أو تفجير مفخخات وعبوات ناسفة لقتل الناس بالجملة. فهل هذه مقاومة وطنية يمكن تشبيهها بنضال الشعب الفيتنامي؟
وأخيراً بلغ الإرهاب في المحافظات التي كانت تتعاطف مع الإرهابيين بسبب قصر النظر وتضليل الإعلام العربي ولدوافع طائفية، إلى حد أن صار سكان تلك المناطق هم المستهدفون فاكتشفوا الأمر ولو بعد كوارث، فتأسست حركات ما يسمى بانتفاضة الصحوة. أجل لقد صحى المخدوعون من أبناء العشائر السنية بشعارات المقاومة الزائفة وعرفوا بالتجربة المرة أن الشعب العراقي هو المستهدف وليس قوات الاحتلال كما يزعم فلول البعث وأتباع القاعدة ومن يشجعهم على تدمير بلادهم وشعبهم. لقد أدرك الجميع أن ما يجري في العراق هو ليس مقاومة وطنية كما يسميها الأستاذ سعد الدين إبراهيم، بل هو إرهاب وحشي بشع يستهدف الشعب العراقي وليس غيره. وهؤلاء الإرهابيون قاموا ومازالوا يقومون بذات العملية الإجرامية في الجزائر منذ عام 1992 ولحد الآن، وذهب ضحية إرهابهم نحو ربع مليون جزائري بريء، فهل كانت الجزائر تحت الاحتلال الأمريكي يا دكتور؟
ثالثاً، موضوعة الكفاح الشعبي المسلح
إن من يقرأ مقال الدكتور سعدالدين، يعتقد حقاً أن في العراق كفاح شعبي مسلح على نطاق واسع. فإذا كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن الشعب العراقي فعلاً أصيب بالجنون الجماعي وأصر على الإنتحار الجماعي. إذ كما سألنا أعلاه، هل التفجيرات في الأسواق المزدحة ودور العبادة وتدمير المنشآت الاقتصادية هي كفاح شعبي مسلح؟ وهل لجأت أية حركة من حركات المقاومة الوطنية في العالم، سواء في الجزائر أيام الإستعمار الفرنسي، أو فيتنام إثناء الاحتلال الأمريكي، إلى هذا الأسلوب في قتل أبنا جلدتها وتفجير مؤسساتها الاقتصادية كما يجري الآن في العراق؟
ومن كل ما تقدم، نؤكد للسيد الكاتب، أن ما يجري في العراق هو ليس مقاومة ضد الاحتلال، بل هو إرهاب وحشي عبثي يستهدف الشعب العراقي، تقوم به فلول البعث الساقط من أجل إعادة نظام حكم البعث المقبور، بالتحالف المؤقت مع الفاشية لإسلامية الوهابية التي تسعى لإقامة إمارة طالبان في العراق على غرار إمارة الملا عمر في أفغانستان، ليكون منطلقاً للزحف على الدول العربية المجاورة وإسقاطها فيما بعد الواحدة تلو الأخرى لإقامة دولة الخلافة الإسلامية التي لا توجد إلا في عقولهم المريضة، ومن ثم شن الحرب على دول "الكفار" في كل مكان من العالم.
غياب أسماء قادة المقاومة في العراق
يستغرب الدكتور إبراهيم من عدم ظهور أسماء قادة "المقاومة الوطنية" في العراق. يا أستاذنا العزيز، يقول المثل (لو عرف السبب لبطل العجب). السبب هو أن ما يجري في العراق هو جرائم في منتهى البشاعة من الإرهاب الوحشي الهمجي، وليس له أية صله بالمقاومة الوطنية، ولذلك يخجل القائمون به بأن يعلنوا عن أنفسهم وأسمائهم، لعلمهم الأكيد بأن هذه الجرائم البربرية تجعلهم لعنة في نظر الشعب العراقي والبشرية. ولذلك كان المجرمون البعثيون وخلفاؤهم الإرهابيون الإسلاميون يرتكبون جرائمهم ويصدرون بياناتهم باسم الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي. وفي الحقيقة فإن أسماء قادة "المقاومة" العراقية معروفة وهي أسامة بن لادن السعودي، وأيمن الظواهري المصري والمنفوق أبو مصعب الزرقاوي الأردني، وليس بينهم أي إسم عراقي. ومن هنا لن تجد عراقياً شريفاً يقود هذه الجرائم التي يسميها الدكتور سعد بالمقاومة الوطنية والكفاح الشعبي المسلح.
حكمة التاريخ
وأخيراً يقول الأستاذ سعدالدين إبراهيم: " وهكذا يتجلي ما يسميه البعض مكر التاريخ، ويسميه علماء الاجتماع النتائج غير المقصودة للسلوك الإنساني. أو هي قبل ذلك وبعد ذلك مصداقاً لقوله عز وجل ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين..." في الحقيقة إن ما استشهد به الأستاذ في قوله "النتائج غير المقصودة للسلوك الإنساني" يحتاج إلى وقفة وتوضيح، وهو في نهاية المطاف يخدم القضية العراقية بخاصة والبشرية عامة.
يقول الفيلسوف والاقتصادي البريطاني المعروف آدم سميث: "نتائج غير مقصودة لأعمال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع البشري." وأوضح مثال على ذلك هو ما قام به البحار المكتشف، كرستوفر كولومبس الذي انطلق من اسبانبا على رأس أسطول بحري كبير متجهاً نحو الغرب بقصد أن يكتشف أقصر طريق إلى الهند الصينية. فلم يحقق الغرض الذي بدأ رحلته لها، بل اكتشف العالم الجديد، أمريكا.
حكمة أخرى نسوقها لأستاذنا العزيز سعدالدين، وهي (ربَّ ضارة نافعة). لقد دفع أسامة بن لادن أتباعه لارتكاب جريمة 11 سبتمبر 2001 بقصد تدمير أمريكا. وكانت النتيجة أن انطلقت الدولة العظمى بإمكانياتها الهائلة لتدمير منظمة القاعدة الإرهابية وإنقاذ البلاد العربية والإسلامية من شرور منظمة القاعدة الإرهابية. وحكمة التاريخ من عمل بن لادن أن أمريكا أعلنت الحرب العالمية على الإرهاب، إذ ما كان بإمكان الحكومات العربية مواجهة هذا النوع من الإرهاب الإسلامي المسلح بالنصوص الدينية التي تبشر الشباب بالجنة. فلولا مواجهة أمريكا لمنظمة القاعدة، لسقطت الحكومات العربية الواحدة تلو الأخرى تحت ضربات الإرهاب الإسلامي الوهابي، وتحقق حلم بن لادن وأتباعه في إقامة الإمارات الإسلامية الظلامية في جميع البلدان العربية والإسلامية، ولغرق العالم في ظلام إرهاب ما بعده من إرهاب. ومن هنا نعرف حكمة التاريخ التي قالها آدم سميث: " نتائج غير مقصودة لأعمال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع البشري."
خلاصة القول: إن ما يجري في العراق هو ليس مقاومة وطنية بل إرهاب وحشي وفي منتهى الهمجية، يقوم به تحالف الفاشية البعثية والفاشية الإسلامية الوهابية، المدعوم من قبل الأنظمة الشمولية، الإيرانية والسورية والسعودية المعادية للديمقراطية في المنطقة. كما ونتمنى لأستاذنا العزيز الدكتور سعد الدين إبراهيم مواصلة النضال في مقارعة القوى الظلامية، ونأمل منه أن يتسع صدره لهذه الملاحظات النقدية خاصة وهو المدافع الصلب عن الديمقراطية وحق الاختلاف، فكما تقول الحكمة: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.