روح الكنيسة بين الماضي والحاضر
المقدمة :كان المسيح يستعد لرحليه الوشيك، وعد بإرسال نائب عنه، أو ممثل له يكون للتلاميذ رفيقاً ومشيراً : " ان لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي، ولكن إن ذهبت أرسله اليكم " ( يوحنا 16 : 7 ). وفي يوم ( البنطقسطي ) أي الخمسين أبدل بحُضور المسيح الجسدي بين التلاميذ حضوره الكلي الوجود في شخص روحه، ومن لحظة مجيء الروح القدس ابتدأت تتحقق غَيرة الرب المتقدة واهتمامه بالنفوس وخلاصها. لقد كان الوعد أنه متى حلّ الروح القدس عليهم يصيرون شهوداً للمسيح، وتم الوعد بدقة ووضوح : " ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ". وكان كلامهم مؤثراً تأثيراً عظيماً.
يتضح من كل ما جاء في أعمال الرسل أن العمل الرسولي الذي قام به الرسل يعود لا إلى البشر بل إلى ما هو أبعد، إلى المصدر الإلهي ( النعمة الإلهية ). فالعامل الرئيسي في الجماعة الأولى ( أي الكنيسة ) هو الروح القدس، وما البشر إلا أدوات تُستخدم في انجاز القصد الإلهي. إنه هو المحرك الاساسي والعامل الرئيس من البداية إلى النهاية.
الروح القدس :
هو المنفِّذ للمأمورية العظمى، كما أنه المدير الموجّه للعمل الرسولي، ففي سفر أعمال الرسل، الذي هو بمثابة الدليل الرسولي العظيم للعهد الجديد، نجد الروح القدس مذكوراً في كل صفحة تقريباً، وهذا السفر التاريخي هو عبارة عن سجل متسلسل لعمل الروح القدس بواسطة الكنيسة. شهد يوم ( البنطقسطي ) أي يوم الخمسين حادثين هامين بالنسبة لسير المسيحية وتقدّمها. الحادث الاول تولّى الروح القدس عمله المزدوج بوصفه المعزي والواهب، فبوصفه معزياً أرسله المسيح المُقام إلى تلاميذه الخائفين الحزانى إتماماً لوعده ( يوحنا 16 : 7 ) عندما نفخ وقال : " اقبلوا الروح القدس " ( يوحنا 20 : 22 ). فقد كان وعد ابن الله لتلاميذه ان يجيئهم الروح القدس معزياً. كذلك كان وعد الآب بأن يكون الروح القدس هو واهب القوة، وقد تحقق هذا الوعد أيضاً في يوم الخمسين: " وها أنا أرسل اليكم موعد أبي، فاقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي " ( لوقا 24 : 49 ). " وامتلأ الجميع من الروح القدس " ( أع 2 : 4 ).
عندما ابتدأ التلاميذ يدركون ضخامة المهمة الموكولة إليهم صاروا يشعرون بحاجتهم الكبيرة إلى القوة. في هذا اليوم العظيم يوم الخمسين، عندما جرى نقيض ما جرى في برج بابل، أنعم الله على التلاميذ باختبار أولي هو اختبار قوة الروح. في بابل ارتبك الناس لأن لغة واحدة انقسمت فاصبحت لغاتٍ عديدة. أما هنا فاندهش الناس لأن لغاتٍ عديدة صارت لغة واحدة. هذه الحادثة العظيمة الحاسمة هي التي أصبحت البداية الحقيقية للعمل الرسولي. إذ تولى البَراقليط ( المعين ) أي الروح القدس المعزي، عمله المزدوج حدث حادث آخر عظيم وحاسم هو تأسيس الكنيسة. أي الجماعة الأولى جسد المسيح السري، والخلية الحية التي لا تُقهر. كان شخص المسيح، في أيام جسده، الاداة الكاملة التي عن طريقها تمَّم الروح القدس قصد الله في العالم. أما الآن، وقد ارتفع جسده الممجد إلى السماء، فقد أصبحت الكنيسة، التي هي جسده السري، هي الأداة التي يستخدمها الروح القدس إن كل ما عمله المسيح، وهو على الأرض كان بقوة الروح القدس، وينطبق هذا، بصورة مثالية، على كنيسته أيضاً. وللمعمودية بالروح القدس معنى جماعي إذ بها ينضم المؤمنون من كل العصور إلى جسد المسيح الواحد الذي هو الكنيسة الشاملة . " لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد " ( 1 كور 12 : 13 ). فهذا الجسد، بمن فيه من اعضاء، أوكلت إليه مسؤولية حَمل بشارة الخلاص إلى العالم أجمع. إذ كان ينبغي ان يكرز بالانجيل، " في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم " ( متى 24 : 14 ). والقوة للقيام بهذه الكرازة والشهادة هي في هبة الروح القدس.
عندما ألقى المسيح المُقام كلمته الاخيرة قبيل صعوده ربط مجيء روحه بإعطاء القوة للشهادة العالمية المؤثرة التي كانت هدفه الأسمى : " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً في اورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى اقصى الارض " ( أع 1 : 8 ). وقد تحققت كلمات المسيح هذه بعد أيام قليلة عندما سمع ( رجال اتقياء من كل امة تحت السماء ) التلاميذ يقدمون الشهادة بالروح القدس.
يبين أيضاً سفر الاعمال بوضوح الطريقة المحددة التي بها تحقق الوعد " وامتلأ الجميع من الروح القدس " ( أع 2 : 4) لم يكن هذا الاختبار مقصوراً على جماعة يوم الخمسين دون سواهم، ولا هو اختبار جرى مرة واحدة في مناسبة فريدة لم تتكرر، فبطرس اختبر امتلاءات متتالية كما جاء في ( اعمال الرسل 4 : 8 ، 31 ). ومما يلفت النظر في سفر الأعمال كله التشديد المتكرر على هذا الموضوع، الامر الذي يبين ان اولئك الرسل الاولين نفذوا وصية سيدهم بكل جدّ، أي ألاّ يشرعوا في خدمتهم قبل ان يوهبوا قوة من الأعالي. ان الحصول على هذه الهبة هو التجهيز الاساسي الضروري لكل تلميذ في هذه الايام، إذ بغير الروح القدس لا يمكن أن تكون شهادة مؤثرة. وان الفكرة المقصودة بالتعبير " امتلأ بالروح القدس " ليست فكرة وعاء فارغ يمتلئ، بل شخصية بشرية مترجرجة تصبح تحت سيطرة أقنوم إلهي، فليس في الامر سلبية، أو ركود. إذ في الامتلاء بالروح تكون كل مقدرة، أو ملكة في التلميذ في اوج عملها.
مما تجدر ملاحظته أن الكلمة المستخدمة في أعمال الرسل ( 2 : 4 )، وافسس ( 5 : 18 ) أي " امتلأ الجميع بالروح " و " امتلئوا بالروح " كثيراً ما تحمل معنى السيطرة. مثال ذلك " امتلأوا خوفاً " ( لوقا 5 : 26 )." لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم" ( يوحنا 16 : 6 )، فالخوف والحزن كانا يسيطران على اولئك الناس.
نكون مملوئين بالروح القدس عندما نسمح له تلقائياً بأن يمتلك كامل شخصيتنا ويسيطر عليها ويُخضعها لسيادة المسيح. فإنه عندما يملأنا يمارس سيطرته من مركز شخصيتنا. انه باستمرار ينير أذهاننا لكي نقدر قيمة الحق الذي في المسيح يسوع ونمتلكه. وهو يطهر عواطفنا ويثبتها اذ يجعلها مركزة على المسيح، كما يقوي ارادتنا لكي نطيع وصايا المسيح. لكنه لا يمحو شخصياتنا بل يحررها ويقويها بهذه الطريقة بعث الروح القدس حياة جديدة وقوة في حياة التلاميذ كي يعيدهم لحمل مسؤولياتهم العظيمة.
الخاتمة :
تتمكن كنيسة العراق اليوم من تأدية عملها بقوة الروح القدس، لا بالموارد، ولا بالذكاء، ولا بالمال، ولا بالحماسة والغيرة. ولا يمكن للدعاية، أو التنظيم، أو العبقرية أن تغني عن الروح القدس، أو تحل محله. طبعاً، للتقنية الحديثة والطرق المحسَّنة مكانها وفائدتها، ولكن هذه لا تفي بحاجتنا إلى القوة التي بالروح، فبالإمكان ان نلقي نجاحاً في عملنا الرسولي فقط عندما يعدّ الروح القدس الطريق أمامنا، وفي كل مكان وفي كل جيل نجحت فيه الكنيسة وازدهرت نجد دائماً ما يدل على ان الروح القدس كان يعمل فيها، فأوجد جوعاً في قلوب الناس.