سحر الكلمة
يتعلم الطفل في مدرسته الاسترالية في سني عمره الاُول، اضافة الى التهجئة والحساب والقراءة والرسم، الكثير من اسس وطرق التعامل مع العامة من افراد عائلة، اصدقاء، او اقارب، ومن هذه الاسس، هي استخدام كلمات يطلق عليها اسم الكلمات السحرية والمتلخصة بـ ( Please, Thank you, & Excuse me )، على اعتبار انها تضفي طابع الملاطفة على الحوار، وتحدد مزاياه..وهذا رأي صائب جدا، اذ ان للكلمة فن..وسحر، تمكن من أتقنها وفك طلاسمها، وأحسن استخدامها، من قطع شوط طويل في سبيل تحقيق أهدافه، والوصول الى غاياته..مهما كانت تلك الغايات..
وقد أتقن هذا الفن وسحره، أناس كثيرون على مر العصور، فنقشوا بكلمتهم تاريخا جديدا..وجرت من بطونهم انهار ماء حي..فالكلمة عند يوحنا كانت هي البدء ..بدء الخليقة.. الكلمة هي نُطق الخالق.. لخلاص البشرية .. نَطَقَها ابنا .. مخلصا .. منذ الأزل ..كلمة حلت بيننا.. متجسدة .. و"الكلمة" بشرت ايضا بكلمة.. كلمة الانجيل .. ورسالته .. كلمة الحياة ..
انه سحر الكلمة الذي ذهلت به الجموع التي كانت تستمع لاقوال يسوع ( فلما اكمل يسوع هذه الاقوال بهتت الجموع من تعليمه لانه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة).
انه ذاك السحر الذي وجده سقراط في عبارة (اعرف ذاتك ) المنقوشة على معبد دلفي.. والذي بها ومن خلالها انطلق للتعمق في مفاهيم وفلسفة الحياة، فأسس فلسفته الاخلاقية..
وهو ذات السحر الذي تنطق به الواح اكد وبابل واشور..سحرٌ يزيل الغبار عن تاريخ عريق..
انه سحر الكلمة، الذي شد اتباع مارتن لوثر كينك، وغاندي.. حين نطقوا..وارشدوا..
انه السحر الذي نثره جبران خليل جبران حينما كان يغزل من كلماته فكرا..ومن فكره كلاما..
انه السحر المنبثق من كلمات مار باواي، ويوسف توما..ويوسف حبي..واخرون كثيرون...
الا ان الكثيرين ادركوا، ومنذ القدم، ان الكلمة، كما تحيي، فأنها تقتل، وكما تجذب، فانها تنفر..وكما تضحك..فانها قد تبكي.. فهي سلاح ذو حدين، ان اسئ استخدامه، انقلبت اثاره سلبا على مستخدمها.. فبسحر الكلمة نخلق اصدقاءا لنا..او أعداء..وبها نزرع ابتسامة على وجوه الآخرين..أو دمعة.. بها نبيع حريتنا,,أو ننالها.. بها نخلق حكماء..ودكتاتوريون..
ومن هؤلاء الكثيرين، الحكيم والفيلسوف الاشوري احيقار الحكيم اذ قال:
"ولا تنطق بكلمة قبل ان تفكر بها، لان لكل مكان آذاناً. راقب فمك لئلا يكون سبب هلاكك. فخّ الفم اشدّ خطراً من فخ الحرب."
انه فخ الفم، الذي اجج الحرب الكلامية بين الاتحاد السوفيتي واميركا، ابان الحرب الباردة..وجعل وقوع الكارثة النووية قاب قوسين او ادنى.. والتي كادت ان تزهق ارواح الملايين من البشر، وتزيل معالم الحياة من على مساحات شاسعة من هذا العالم.
انه سحر الكلمة، الذي يعتمده الساسة في العالم..فبه يغيرون خارطة العالم..به يشرعون، به يحللون، وبه يحتلون!!
انه بحق فن الكلام..
حذاقة
اشترى محامي علبة سيكار فاخر جدا، يحوي 24 سيكارا من الانواع الغالية جدا جدا، وامَّنها لدى شركة تأمين ضد الحريق وحوادث اخرى..وبعد مرور اقل من شهر على تأمين المحتوى الغالي جدا، استمتع السيد المحامي بتدخين كل السيكار الموجود في العلبة.. وبعدها و(بحذاقته) رفع قضية ضد شركة التأمين مطالبا اياها بتعويض مالي عن (فقدانه) السيكار الفاخر نتيجة (سلسلة حرائق صغيرة) كما سماها في دعوته.
رفضت شركة التامين دفع اي تعويض عن ذلك، لان المحامي قد استهلك السيكار استهلاكا طبيعيا يتناسب مع غاية السيكار.. الا ان المحامي استمر في دعواه الى ان ربحها بناءا على حكم القاضي الذي افاد: "ان المحامي قد امن السيكار ضد (الحرائق) وبما ان بوليصة التأمين لا تحوي اي توضيح او تحديد لانواع الحرائق القابلة للتعويض..فقد طولبت الشركة بدفع مبلغ 15000 دولار امريكي للمحامي تعويضا عن (الحرائق)..
الا ان المثير هو ان شركة التامين هي الاخرى رفعت دعوى ضد المحامي، بعد ان حصل على الـ 15 الف دولار، بدعوى ان المحامي متهم (بحرق) 24 ممتلكا من ممتلكاته المؤمنة لدى الشركة، حرقا عمدا وبعلم منه وهو مايسمى بالـ ARSON .
وبالاستناد الى الادلة التي وردت في دعواه السابقة والتي رفعها ضد شركة التامين ، فقد احتكم القاضي الى زجه في السجن لمدة 24 شهرا، بتهمة (الحرق عمدا) لممتلكات مؤمَّنة خاصة به، مع دفع غرامة تقدر بـ 24 الف دولار امريكي لشركة التأمين.
يقال ان القضية هي واقعية وحقيقية جرت احداثها في اميركا مؤخرا.. وان كذبها اخرون..الا اننا نجد فيها مغزا عميقا في طريقة استخدام (الكلمات) بما يتناسب مع دعاوانا، واهدافنا..
الكلمة والطفل..
ان الكلمة هي اعظم انجاز في حياة الطفل.. فبنطقه لها.. يتحول من مرحلة الصمت "المبهمة" و"الخالية".. مرحلة استحالة التعبير..قلته..او حتى انعدامه.. الى مرحلة جديدة.. مرحلة وجود.. وتعبير عن وجود..فيكتسب..ليهب.. ويعطي للحياة معنى، بإستمراريتها من خلاله.. انها أعظم مراحل الطفولة، حين يتمكن الطفل من التعبير عن رأيه، ومناداة والديه..بسلاسة..وخفة..
وكما ينطق الطفل..الكلمة..ويُسحر بها..وبجمالها من حوله، هكذا تُسحر الكلمة مسامعه..وفكره.. فهي اكثر ما يعطى له، ويمكنه إدراكه، على أساس تعبيري، على عكس مشاعر الامومة والابوة، التي قد يشعر بها، ولكنه لا (ينطقها) او يدركها.. لذا تراه يلتقط الكلمة، بفضوله الفطري الذي يحفزه على ذلك، فيخزنها في عقله الباطن، ليستخدمها بين الفينة والأخرى، في جمل وان لم تتناسب مع سير الكلام.
إلا انه مع نمو الطفل، ومقدراته العقلية، ومع الدور الأساسي للبيئة المحيطة والتي تتمثل اولا بالوالدين، ثم الأقارب والأصدقاء الذين يبدون اهتماما به، وصولا الى المدرسة حين بلوغ السن المقررة، يزداد لدى الطفل مفهوم الكلمة..والإدراك، والفكر..ويكتسب من خلال هذه المفاهيم عاداتا، وتقاليد، ومثل، وأخلاق، وأساليب للسلوك الاجتماعي..وبهذا تتشكل شخصيته..(بحسب ما تفرضه البيئة المحيطة في اغلب الأحيان). ولهذا السبب يعتمد علماء النفس اعتمادا كبيرا في تحليلهم لشخصية الفرد على مراحل الطفولة لديه، لما لهذه المرحلة من تأثير في تكوين وبناء الشخصية.
وبما ان الطفل يتأثر بالبيئة المحيطة بصورة اساسية، فأن نوع الافكار التي تقدمها له تلك البيئة، تحدد (وان بصورة غير دقيقة) مسار وتوجه تلك الشخصية مع نموها، فالطفلة التي تتعلق بأبيها وتكره والدتها، تصاب بعقدة الكترا، والطفل الذي يتعلق بأمه ويكره ابيه، يصاب بعقدة اوديب، وكذلك الطفل الذي يعيش العنف المنزلي، او يشاهد افلام الرعب والاثارة بكثرة، تراه ميالا الى العدوانية في شبابه.. وهكذا الحال مع الطفل المعزول، الذي لا يملك اصدقاءا، تراه يعيش حالة من العزلة في شبابه، حتى الطفل المدلل، نتيجة للدلال المبالغ فيه من الابوين، تراه في شبابه، ضعيف الشخصية، يخاف من مواجهة الحياة دونما سند..يرتكز عليه في كل كبيرة وصغيرة.
بمعنى اخر، اننا نحصد من فكر وشخصية الطفل (في اغلب الاحيان) ما زرعناه فيهما في طفولته..
والمهجر
نسمع في الكثير من الاحيان عن عوائل من ابناء شعبنا في استراليا، ودول المهجر، تشكو من (ضياع) ابناءهم (على حد تعبيرهم)، نتيجة لانسياقهم وراء سلبيات المجتمع الغربي..(طبعا دون الاشارة الى ايجابياته) ، وابتعادهم عن مجتمعهم، فهم لا يقيمون علاقات صداقة مع ابناء مجتمعهم، ولا يشاركون في مناسبات المجتمع، ولا يأبهون بما يدور في مجتمعهم، بل ان الكثير منهم، يكونون طرفا في زيجات مختلطة..تنتهي بعضها بالانفصال..
ناهيك عن مشاكل أخرى كثيرة، نضع اللوم فيها دائما على المجتمع الغربي..
ولم نفكر يوما في الصورة التي زرعناها في مخيلتهم وعقلهم عن مجتمعنا، الذي نطالبهم الان بالتشبث به، وبمحاسنه، وحقوقه، وعاداته.. هل تساءلنا ولو مرة عما اذا كنا قد زرعنا فيهم صورة المجتمع الجيد، هل تحدثنا لهم، او امامهم، عن ايجابياتنا؟؟ هل اشرنا الى ما نملكه من خزين هائل، يجمع بين شرقيتنا، ومسيحيتنا، ونهرينيتنا؟؟ هل كشفنا لهم عن ميزاتنا، ومميزاتنا؟؟
هل فتحنا امامهم كنوزنا؟؟
بل هل اننا نحن انفسنا، نعلم بكنوزنا؟؟
الا تنتهي اغلب نقاشاتنا، و( جدالاتنا )، بفكرة سلبية عن شعبنا ومجتمعنا؟؟ الا نختم حديثنا بكلمات يائسة، وسلبية ؟؟ (سوراييلاي ) (سورايى هدخيلاي) (سوراييى جو كاها لي بايش بريشاي خير) ( شعب متخلف) و (طاوتا عم كورا سورايا لا اودت) الخ..من النعوت والامثال التي جمعتها من خلال نقاشات كنت سامعها، نعوت عششت في عقولنا وعقول اطفالنا..فخنقت تفكيرنا..وجعلته محدودا؟؟
ان الكلمة، سلبية كانت او ايجابية، تحمل الكثير من المؤثرات على سامعها، ولكل لغة بحورها، ومرادفاتها، التي تحمل احداها صبغة ايجابية ، واخرى سلبية.. وجل اعتمادنا في اختيار الكلمات يكون على مخزون عقلنا، وطريقة تفكيرنا..ونظرتنا.. فالتفكير الايجابي يعطينا دوافع قوية للتطوير والتقدم، والثقة بالنفس..وايضا املا في حل المعضلة (ان وجدت)، ويفتح الافاق امام تفكيرنا..ويرينا النصف الممتلئ من القدح..على عكس التفكير السلبي الذي يجمل صبغة تشاؤمية، فهو يضيق السبل امام فكرنا، ولا يرينا سوى النصف الفارغ من القدح..
نحاول دائما من خلال مقالاتنا وطروحاتنا ان نقوّم المجتمع (ان صح التعبير) بحسب رؤيتنا..وقد نبذل في سبيل تصويب رؤيتنا جهودا جمة، من نقد لاذع، واشارات سلبية، وتقليل من شأن الاخرين ، وقد تنتهي اغلب محاولاتنا بالفشل..والسبب يعود الى ان ادوات عملنا تكون غير صالحة الاستعمال ولا تناسب المشروع..فنشعر باليأس المحبط..ونضع مشاريعنا على الهامش..
لوضع لبنة اخرى، متينة، رصينة، تستطيع ان تحمل ثقلا كبيرا، ويستند عليها بنيان المجتمع..وللسعي لتحقيق اهداف مجتمعنا وشعبنا السامية..اصبح ضروريا ان ندرك اننا امام مسؤولية كبيرة تجاه اطفالنا..مستقبلنا.. وشبابنا..حاضرنا.. مسؤولية خلق افراد مؤمنين بأنفسهم، وبما يملكون.. افراد لهم الثقة في حاضرهم ووجودهم.. افراد لهم ان يفتخروا بإنتمائهم..ليس فقط بثيرانهم المجنحة..وحدائقهم المعلقة..بل بحاضر ملئ بالايجابيات.. وبمستقبل مشرق مبني على الثقة بالنفس... ليشكلوا بالتالي مجتمعا..معتزا بوجوده..محبا لكينونته..وهذا لن يتحقق الا اذا حاولنا..وحاولنا..وحاولنا من جديد، ان نجعل من كلمتنا، سحرا يأخذ عقول اطفالنا، ويملأهم حبا بالحياة..وبإنتماءهم، ونغير علامة السالب في تفكيرهم..الى علامة الموجب..علامة الصليب..
سيزار هوزايا
ملبورن
كانون تريّانا 2007
sizarhozaya@hotmail.com