Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

شعبنا وكنيستنا يبحثان عن هوية والهوية أقرب إليهما من حبل الوريد – وهاكم البرهان

 

مقدمة


شعبنا بتسمياته ومذاهبه المختلفة يمر في مرحلة حرجة من حيث الحفاظ على خصوصيته وهويته  ليس في أرض الأجداد وحسب بل في كل البقعة الجغرافية التي يتواجد عليها وبضمنها الشتات.

ويبدو ان مسألة تكوين كيان سياسي جغرافي لشعبنا بدرجة مقبولة من حكم ذاتي وليس إستقلال بدأت تدخل في باب شبه المستحيل للمخاض الهائل والرهيب والذي يمر فيه الشرق الأوسط حيث، على ما يبدو، أن خارطته على وشك تغير هائل قد لا يكون لصالح وجودنا هناك.

في وضع جيوبوليتيكي كهذا هناك عدة طرق إتبعتها شعوب أخرى للحفاظ على هويتها وخصوصيتها كي لا تندثر. وواحد من اهم هذه الوسائل يتمثل في الحفاظ على اللغة القومية وما تحفظه لنا من موروث وأداب وشعر وفنون وطقوس وليتورجيا وفلكلور وغيره.

في وضع شعب كشعبنا تصبح خسارة اللغة القومية مساوية لضياع الهوية لأن الشعب الذي لا يدافع عن لغته التي هي هويته ووجوده يكون كالمشرد الذي ينام على قارعة الطريق والكل يرفسه بأقدامه.

ولغتنا القومية السريانية ليست (وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن نقضها) لغة عادية. إنها تحمل في ثناياها من العلوم والفلسفة والشعر والأدب والفنون وفي شتى مناحي الحياة ومنها الكنسية ما قد يبز ما لدى أي امة أخرى في الدنيا.

واليوم سأقدم لقرائي الكرام – لا سيما من الذين يحبون ويدافعون ويتشبثون بهويتهم أي لغتهم حسب المفهوم اعلاه – نموذجين أخرين من كنوز لغتنا القومية الساحرة كي أبرهن ان اي فرد من ابناء شعبنا – بغض النظر عن منصبه ومكانتة، علمانيا كان او من الإكليروس – يقترف خطاءا كبيرا وخطيئة لا تغتفر بتهميشه للغة شعبه القومية لأن نظريا وعمليا يلغي هويته كنسية كانت او غيرها.

البرهان

اطلب من قرائي الكرام الإستماع اولا إلى هاتين القصيدتين السريانيتين. نحن لنا من الشعر الغنائي ما لا يمكله أي شعب أخر في الدنيا كما ونوعا. وهاتان القصيدتان، الأولى لمار نرساي والثانية لمار أفرام السرياني، قطرتين فقط في محيط ادبنا وترثنا وشعرنا وليتورجيتنا:

القصيدة الأولى لمار نرساي (حسب أداء كنيسة المشرق – الفرع الأشوري):

http://www.youtube.com/watch?v=_KK9dydnuEk

القصيدة الثانية لمارأفرام السرياني (حسب أداء كنيسة المشرق – الفرع الكلداني):

http://www.youtube.com/watch?v=cDEU4EeSLGA

الترجمة

سأقوم بكتابة القصيدة الأولى بالكرشوني (بالحروف العربية) لكون الكثير من ابناء شعبنا – وهذا الأمرالسلبي يجب ان لا يدوم – ليس بإستطاعتهم قراءة الحروف السريانية. 

سأترك ترجمة قصيدة مار أفرام لسببين: الأول لأنها شائعة وثانيا ومن السهولة الحصول على ترجمتها.  وسأقوم بترجمة مدراش (قصيدة مغناة) مار نرساي بتصرف كي أساعد القارىء على الدخول بعمق في ماهية النص وفلسفته ومعانيه لا سيما طبيعتة الحوارية والتي هي خاصية بإمتياز لأحد أعمدة ثقافتنا وادبنا وليتورجيتنا، وهو العلامة مار نرساي، والتي فيها يسبق زمانه بأكثر من 1500 سنة ومن ثم أقدم تحليلا موجزا لخصائصه الخطابية واللغوية وما يحوية من حوارية وجدلية تعدان فتحا للفكر المسيحي والإنساني ليس لزمانه بل لزمننا هذا ايضا وربما لقرون عديدة من الأن.

كلمات وترجمة القصيدة الأولى لمار نرساي

 والقصيدة حوار فلسفي لاهوتي بين الميت في تابوته وهو على وشك ان يوارى التراب وبين الموتى في المقبرة. والقصيدة مغناة على شكل مقام بيات ولكن بلون مميز يمثل خاصية وخصوصية شعبنا.

عْونايا (الردة):

شْلاما عَمْخونْ أحْايّْ وْرَحْمايْ شْغيْبَيْ دَذْمِخْ

بْثَحْليْ تَرْعا دِعْولْ وإتْنيحْ بْيثْ سِدْرَيْكونْ.


المتوفي: (الردة)

السلام معكم إخوتي وأحبائي المتوفين النائمين

إفتحوا لي الباب كي أدخل وأستريح بين صفوفكم


الموتى:

تا عْولْ وَحْزيْ كْما كَبْارى شْخيوينْ هَرْكا

عْويْذينْ عَبْرا وْرمْثا وْساسا بْعوبا دَشْيولْ.


تفضل وأدخل وأنظر كم من الجبابرة مطمورين هنا

لقد صاروا ترابا وأكلهم العث والسوس وهم قابعون في جوف القبور.


تا عول وَحْزيْ  اوعبرانا كنسى داذام

وْحْورْ وإثْبَقّى دََليْكا شارخْ كيانْ مايوثى.


تفضل وأدخل وأنظر أيها المجبول من التراب من جنس أدم

وتمعن وتفحص إلى أين ينتهي مصير الجنس المائت.


تا عْول وَحْزْيْ سوغا دغَرْمى داخْذا حليطْينْ

ولا بْريشْ كَرْما دْمَلكا وْعَودا حَذْ منْ حَوره.


تفضل وأدخل وأنظر أكوام العظام المختلطة مع بعضها

حيث لا يٌميّز بين عظام الملك وعظام العبد  من بعضها.


تا عْول وَحْزْيْ حْوالا رَبَّا دَشْرَيْنَنْ به

وْسًكّا لْمارانْ دْنَيْثى نْقيمَخْ منْ يَمْيْنه.


تفضل وأدخل وأنظر الهلاك  الذي وقعنا فيه

وأنتظر معنا قدوم سيدنا (المسيح) كي يقيمك وتجلس عن يمينه. 


المتوفي (الردة):

شْلاما عَمْخونْ أحْايّْ وْرَحْمايْ شْغيْبَيْ دَذْمِخْ

بْثَحْليْ تَرْعا دِعْولْ وإتْنيحْ بْيثْ سِدْرَيْكونْ.


التحليل


قصيدة مار نرساي تحفة ادبية وفلسفية وفكرية ولاهوتية نادرة شأنها شأن أغلب اعماله التي وصلت إلينا. ويختلف مار نرساي في أوجه كثيرة عن مار أفرام السرياني. بصورة عامة مار أفرام  وفي أغلب مؤلفاته الكنسية يبقى ضمن نص الكتاب المقدس وسياقه لا سيما العهد الجديد. أما مار نرساي يجعل النص المقدس وسادة للإنطلاق صوب فضاءات فكرية وفلسفية ولاهوتية لم تكن شائعة في الليتورجيا الكنسية لأي شعب أخر ولا يزال، حيث تمثل كتاباته طفرة هائلة في الفكر واللاهوت الكنسي لكنيسة المشرق الكلدانية – الأشورية. وعكس مار افرام الذي تتخذه الكنائس السريانية بفرعيها الغربي والشرقي كعلم من اعلامها الكبار فإن مار نرساي له تأثير بالغ في ليتورجيا والأداب الكنسية لكنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية.


مار نرساي يُدخل فن الحوار الضمني في قصائده – أي الصلاة بالنسبة له ليست تكرار ورتابة اللفظة – كما هو الحال مثلا في النصوص اللاتينية المعربة وغيرها التي ادخلها الفرع الكلداني لكنيسة المشرق في ليتورجيته. ومار نرساي يدخل في باب مناجاة الخالق ولكن بشكل ومضمون تفتقر إليه كل الأدبيات الكنسية ومنها اللاتينية. 


والمناجاة بالنسبة له ليست من مخلوق ضعيف لا حول له كما نلاحظ في الأدب الكنسي اللاتيني الذي وردنا من الكنيسة الغربية بل من إنسان يضع نفسه في مرتبة يستطيع فيها محاورة ومحاججة الخالق. وأروع ما قرأت له هي قصيدته التي يناجي فيها الخالق بهذه الكلمات: لا مارْ تِهْوى أخْ بَرْناشا داتْ ألاهَتْ: ولا أخْ كَوْرا دْلا مْصى لمْبّرَقْ وأتْ باروقاتْ،  أي "يا رب لا تتصرف مثل الإنسان وأنت الله ولا مثل الرجل الذي ليس بإمكانه أن ينقذ الأخرين وأنت المخلص."


لا أريد ان أطيل في التحليل لكنني اقول ان القصيدة التي نحن في صددها تأتي في هذا الإطار – إطار الحوار والمناجاة ولكن هذه المرة بين المتوفي الذي يسجى بالصلوات صوب مثواه الأخير وبين أصحاب القبور الذين في إنتظاره.


 الصلاة في كنيستنا المشرقية ليست "إرحمنا وإستجب لنا" فقط وليست تكرارا مملا لذات  الشيء عشرات المرات. إنها حوار بين الخالق والمخلوق وحوار بين البشر أنفسهم حول شؤون الخلق والخلاص وملكوت السماء. وأروع ما في القصية هو البيت الأخير حيث يقول الموتى للمتوفي الجديد قبل دفنه بما معناه تعال وأنتظر معنا قدوم الرب كي يقيمنا من الأموات ويجلسنا عن يمينه. هنا يزيل مار نرساي الوصف المتشائم والكارثي للوضع في القبور حيث يكلله بالفرج القريب من المسيح. بعدها يردد المتوفي الجديد ما معناه: " السلام معكم وأفتحوا لي الباب انا قادم إليكم ونائم (ليس ميت) بين صفوفكم منتظرا الرب كي يقيمنا جميعا ويجلسنا عن يمينه.


إن مار نرساي كما قلت يسبق زمانه بالاف السنين لا بل لم أقرأ لأي فيلسوف او لاهوتي غربي نصوصا بهذا المستوى الرائع من الحوارية المستندة إلى العقل والمنطق الإنساني وجدلية الخالق والمخلوق في اي ادب كنسي وقعت عليه عيناي.


مكانة مار نرساي في الفكر الإنساني


هناك فيلسوفان كبيران لهما تأثير كبير في تطور الفكر والخطاب الإنساني في العصر الحديث وهما ميخائيل بختين وعمانوئيل ليفيناس والثاني يعد لاهوتيا في كثير من الأوجه لأنه يركز على تفسير الكتاب المقدس وكان أفضل فيلسوف لدى البابا الراحل يوحنا بولس. ولكنني أرى من خلال قرأتي ان كاتبنا المبدع قد سبقهما وانه لا يزال في صدارة الفكر الإنساني وطبيعة علاقة الخالق مع المخلوق ولا يزال حتى اليوم يسبق زمانه بقرون عديدية.


مكانة مار نرساي لدى شعبنا وكنيستنا المشرقية الكلدانية – الأشورية


مع الأسف قد اخذنا الغلو والتعصب في تسمياتنا ومذاهبنا مبلغا جعلنا نتغنى ونتشدق بأسماء وتواريخ وثقافات وأداب وأعلام لا علاقة وجدانية ولغوية وتاريخية لنا معها بينما مار نرساي وأقرانه – عمالقة الأدب ليس السرياني وحسب بل العالمي – من الذين كتبوا بلغتنا وما كتبوه لا يزال يخاطبنا وكأنهم معنا قد تم تهميشهم كنسيا ومدنيا. من منا يحفظ بيتا شعريا واحدا لهذا العبقري ومن منا يحتفل بعيد ميلاده او وفاته او تذكاره. عظماء مثل مار نرساي يجب الإحتفاء بهم كل عام من قبل كل فئات ومكونات شعبنا بكنائسه ومنظماته المدنية.


تحية وإجلال وشكر وتقدير


وهنا لا يسعني إلى ان اقدم التحية والإجلال والشكر – لا بل أنحني بقامتي – امام أسقف من كنيسة المشرق الكلدانية – الأشورية وهو يقود أبرشية في الشتات وبنى كلية تحمل إسم فيلسوفنا الكبير لا بل فيلسوف الدنيا وفيها أكثر من 1600 طالب وطالبة من أبناء شعبنا يقراؤن لغتنا القومية السريانية ومن خلالها يتعرفون على إرث وتراث وثقافة وفنون وليتورجيا شعبنا – المقومات الأساسية لأي هوية وقومية او كنسية.


شتان بين أسقف وأخر وأبرشية وأخرى وشتان بين المتشبث بالهوية لفظا ولغرض في نفس يعقوب والمتشبث فيها قولا وفعلا وممارسة.


طلب بسيط من القراء الكرام


أطلب من قرائي الكرام لا سيما محبي لغتنا القومية السريانية الجميلة ان يعيدوا سماع النشيد الثاني لمار أفرام لأنه شائع لدى شعبنا الكلداني السرياني الأشوري برمته ويركزوا على الردة التي جعلتها: "هللويا هللويا":


http://www.youtube.com/watch?v=cDEU4EeSLGA


والأن أطلب منهم ان يرددوا معي:


هللويا  هللويا لكنيسة المشرق الكلدانية-الأشورية المجيدة المقدسة الرسولية الجامعة.


كلمة أخيرة


وهنا أذكّر قرائي الكرام ان محبة التراث واللغة والأداب كنسية او غيرها ليس مرتبط بالدين او المذهب او رجال الدين من الشمامسة او الكهنة او غيرهم.  إنه مرتبط بالوجدان وعلى ابناء كنيسة المشرق الكلدانية – الأشورية التشبث بقوة بالموروث والتراث والفنون والأداب واللغة إن أرادوا الحياة والبقاء وعدم الفناء.

في الختام أشكر احبائي وفلذة كبدي عازف  العود المبدع نينوس برخو وعازف الكمان الموهوب وعضو الفرقة السمفونية السويدية ريمون برخو اللذين يشاركاني حبي وتعلقي بهوية شعبنا وكنيسته المشرقية المجيدة المتمثلة بلغتها وتراثها وفنونها  وليتورجيتها وادابها وشعرها.






 

Opinions