Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

صفحات أنصارية 2- مجتمع تحت التعذيب


“أحاول أن أضيع بعض الوقت في التفرس بحاجيات المتجر، وأسأله بعض الأسئلة التي لا معنى لها. لم ينتبه إلى أني كنت أنتظر خروج طلاب المدرسة الإبتدائية التي تقابل المتجر في الجهة الثانية من الشارع. أذهب بتمهل، وأنا أتابع طفلي الوحيد يتوجه إلى البيت.. هو في الثاني الإبتدائي، جميلاً، ملابسه أنيقة، وهذا ما جعلني أعتقد أن الضغط خف عليهم. أريد أن أقبله، أحضنه، اشمه.. مضى اكثر من عام وأنا مبتعد عنهم،. اعرف أن البيت مراقب، وعلي أن لا أواصل الطريق اكثر. 

أرتفعت الغبرة بينهم، دار الأثنان على أبني، طرحاه أرضاً. ركضت. عبرت الشارع. يرفسانه بقوة. صرخت بهم، التفتوا إلي، اصبحت فوقهم، فصرخ أبني : يابه! 

- لماذا تضربانه أنه أخوكم. 

أندفع ليضربهما، مسكته: - عيب إبني. 

– همه ضربوني 

– ميخالف إنتو أصدقاء. 

رفعته لأقبله. سالت الدموع من عينيه 

- لعد سويلي أخو حتى يفزعلي 

– بسيطة ، صار..

تهدج صوتي ومسكت دمعة كادت تسقط. 

طلبه أشد من طعنة سكين. 

قبلته ، 

أنزلته، 

بقي ممسكاً بيدي،

... يعتقد أني سأذهب معه إلى البيت....”


******

لم يتح له هذا الرخاء، أن يذهب مع إبنه الى البيت، فليس للشيوعي المطارد "بيت" في مجتمع تم تمزيقه إلى أشلاء ينكر كل منها الآخر، كما أشرنا بتفصيل في الحلقة الأولى من المقالة (1). إن ما عاناه المجتمع من أذى الدكتاتورية التي كانت تنسق أمورها مع القوة العظمى، لا يقل بشكل من الأشكال عن الأذى الذي يصيب الفرد المقاوم تحت التعذيب. فمثلما يفصل التعذيب أطراف الضحية عن جسدها بتحطيم عظامها وتمزيق لحمها، فأن تمزيق لحمة المجتمع الأخلاقية وتحطيم إحساس أفراده بالكرامة الجمعية والتكافل الذي يربطهم ببعض ليكونوا مجتمعاً، حتى في مجتمعات الحشرات، يحطم هذا الكيان. لقد خبر اعداء المجتمعات من دكتاتوريات داخلية وامبراطوريات خارجية هذه الحقيقة وعرفوا أن تمزيق مجتمع إلى أفراد منفصلين عن بعضهم عاطفياً وأخلاقياً له ذات التأثير الذي للتعذيب على الفرد المقاوم. الفرق الوحيد أن المجتمع يئن بلا صوت، ويذبح دون أن نرى دماً يسيل من أوردته.

في كتابه "صفحات أنصارية" يلقي عدنان اللبان الضوء، ليس فقط على الأفراد المذبوحين والذي كان هو أحدهم، بل يتسع صدره رغم كل شيء، لينظر إلى الضحية الأخرى الصامتة ويتفحص جروحها العميقة ويتألم معها، رغم أنها تخلت عنهم، وسلمتهم لجلاديهم. إلا أن المجزرة واحدة للضحيتين. يرصد اللبان لمحات من آثار تلك المجزرة التي فصلت المجتمع عن أبطاله، وأصابتهما بجروح بليغة، ويراقب سعي الضحيتين إلى العودة إلى بعضهما البعض، وإشكالاتها المستعصية. 


*****

“أم جبار تملك ثلاث سيارات، وسليمة تحجيلي بالسواتر الأمامية! وين راح ننطي وجهنه؟ ما أعرف!"

"لم تعد قيمنا ما يحتاجه الآخرون، وأصبح البقاء في الحياة الهم الأساس للرجال والشباب ولا مجال للتفكير حتى بالظلم او اي شيء آخر.” 

“كيف سأوضح اضمحلال الشعور بالكرامة الشخصية لأغلب العراقيين، وانهيار الركائز الأخلاقية للمجتمع العراقي. سيعتبرها البعض انتقاصاً من الجماهير الشعبية.” 

“وكم من الشهداء سقطوا ولم تعرف قبورهم، وكم من الشهداء الذين لا يزالون على قيد الحياة بعد أن أجبروا على توقيع التعهدات بعدم العمل في السياسة. جيش من المعوقين والمكسورين، ولم تسلم إلا القلة.” 

“... وتمكن من خلق إيهام لدى الغالبية العظمى بكونه يعرف كل ما يقال ضده بعد أن أعدم الكثيرين بتهم لم يقترفوها”

“...إلا أن أخطرها كان من الشيوعيين الذين تعاونوا بإخلاص مع النظام وأرادوا التنكيل بالباقين، عسى أن يعيد لهم ذلك قناعتهم بأنفسهم بعد أن يسقط الآخرين ويصبح الجميع في الهوا سوا”

“كان كل شيء يتسرب مثل صم الرمل في كف اليد : بلا عمل، بلا بيت، بلا عائلة. حتى إبني الوحيد أشعر بأن أمه تنتزعه معهم مني. كنت أخاف أن أذهب بالتفيكر إلى نهاياته المنطقية. كنت بحاجة أن أساعد نفسي حتى ولو بالإرتكاز على الوهم”

“كان الإعتقاد يقول: مثلما نحن موضع فخر واعتزاز لكل الشيوعيين في الخارج، فلا شك أن الأمل سيكون مضاعفاً لمن هم تحت الحكة في الداخل. وبات من الصعوبة القبول بتمزق عوائلنا الذي جهد النظام في الإيغال به لإنهاء علاقاتنا الأسرية.” 

“سيف التضحية هو المسلط على رقبة الجميع. لا الضعف ولا التعب، ولا التصريح بالخوف في المعارك، ولا التعبير عن الرغبة في إكمال الدراسة، ولاحتى طلب الذهاب للعلاج. كلها ستخلخل الثقة بصلابة الإنتماء والويل لمن كشف عن رغبة ذاتية أو أتهم بها.” 

“الكفاح المسلح رجع الأمل بالشيوعيين وحطم النظرة الحقيرة بكون الحزب يميني والشيوعيين ما يرهمون إلا للثقافة وتسفيط الحجي . لا عمي لا. إحنه الشيوعيين وين ما يصير الحق نصير وياه.” 

“لم يتعرض الحزب طيلة تاريخه الذي شيده بالصراع المرير مع أنظمة استعمارية وقومية فاشية، وحتى مع البعث عام 1963، إلى مأساة مثل مأساة عام 1979، بعد أن تمكن البعث من مد نفوذه إلى كل خلايا المجتمع، وبات حتى الهواء في داخل غرف نوم العراقيين مشبع بالمراقبة والوشاية. .

كان أكبر نجاح لفاشية نظام صدام هو إنهاء الثقة حتى بين أيناء العائلة الواحدة، وبات الجميع يبحث عن وسيلة تثبت براءته أمام أجهزة أمن النظام التي أخذت تنظر بعين الشك حتى لمن يردح أكثر للنظام.” 

“وجد الحزب نفسه عند تشكيل القواعد الأنصارية عام 1979 يتمتع بنفس جديد رغم دموية الضربة اتي تلقاها. وانعكس ذلك بالدفق السريع للنهوض بالعمل الأنصاري رغم الصعوبات الخيالية في كثير من الأحيان، والتي بلغت أن لا تمتلك قاعدة أنصارية غير بندقية واحدة، ولا تمتلك من المال غير ما حمله الرفاق عند  الإلتحاق من مصروف شخصي استهلك لشراء الخبز والشاي. الغذاء الوحيد لأشهر طويلة، وسط ثلوج قاسية، وعزلة لا يتخللها غير سماع صوت راديو ترانسستر يوصلك بأخبار العالم. وبعد أشهر أمتلاأت كردستان بمئات الشباب والشابات الشيوعيين.” 

“الشيوعيون هم الحزب الوحيد الذي يرفع الراية العراقية بين الأحزاب القومية الكردية، ومقاتلوه خليط من كل العراقيين.” 

(بعد نهاية الحرب على أيران تفرغ النظام للمقاومة) “عشرات القرى تركت من أهلها بعد أن سيطر الرعب على الجميع، وكل شيء بقي في موضعه. حتى نيران المواقد استمرت تشتعل. كان الرعب من الكيمياوي قد غلب الجميع، وحلبجة وشيخ وسان وزيوة لا تزال طرية أمام أنظارهم.” 

“في "الأوردكاه" (المخيم باللغة الفارسية) كنا نعاني مرارة الهزيمة ونحاول أن نستوعب ما جرى. فبعد إيقاف الحرب مع إيران كنا نظن أن العد التنازلي للنظام قد بدأ. إلا ان قيامه بهجوم الأنفال الكاسح قد أظهره بمظهر المنتصر، ودفعنا لمراجعة مسيرتنا التي تعمدت بالدم منذ وصول البعث إلى السلطة ولحد الآن. ومن الزاوية الأخرى فقد بدأ انهيار معسكر الدول الإشتراكية وحققت نقابة التظامن انتصارها على الحزب الشيوعي البولوني وأزاحته من السلطة وسط عاصفة إعلامية غربية أخذت تقتلع الكثير من مفاهيم الرسوخ الإشتراكي. وبعد أيام فاز هافل برئاسة جيكوسلوفاكيا.”

“كنا نحاول استيعاب ما يجري، لملمنا أنفسنا، وتشكلت منظمة حزبية منذ بداية وصولنا إلى إيران، ولم نترك وجودنا يتآكل أمام هذه الخسارات.” 

“النصير حالة من الوجود لا يشبهها أي شيء آخر. التوحد مع الهدف والحرمن القاسي لأبسط متطلبات الحياة الآدمية لسنوات، خلق مواصفات جافة لا يستسيغها في كثير من الأحيان إلا الأنصار أنفسهم. ولا يزال البعض منا لا يستوعب متطلبات الحياة الإجتماعية الحالية، مما خلق الكثير من الصعوبات لهم.” 

“أبو عواطف كان يتفحص الملابس الداخلية النسائية ويقارن بينها. تفاجأ بصوتي من خلفه، وكأني لزمته متلبساً: لازم ألله وفق؟ 

التفت: لا والله بس نتفرج! 

في حياة البيشمركة لا توجد نساء، عدا الرفيقات وجميعهن متزوجات. وطيلة هذه السنوات لم يتسنى لنا التواصل مع النساء. أغلب الرفاق أخذوا يشعورن بتقدم العمر، وبعضهم تزوج بسرعات قياسية في سوريا.”

“في وقتها كان اللجوء يصور من قبل البعض على أنه ارتماء في أحضان المخابرات الغربية. وهذا ما هيب الكثير من الأدباء والفنانين والصحفيين من التصريح بنيتهم في الذهاب، رغم أن أغلبهم كانوا قد جهزوا جوازات سفرهم.” 

“كانت روح التشبث بالحفاظ على تأمين مصدر الرزق والخوف من الضياع هي التي سيطرت على الأغلبية التي عاشت في المنافي وماذا سيعملون، وأصغرهم شارف الخمسين من العمر، .. وأغلبهم يعانون من إصابات وأمراض وإنهاك نفسي. رغم ذلك كانت تقديراتهم أنها ليست هزيمة بقدر ما هي خسارة معركة. وقسم كبير عادوا إلى كردستان وشاركوا في انتفاضة شقلاوة التي قادها الشهيد سعدون، وفي انتفاضة عموم كردستان التي كانت امتداداً للإنتفاضة العراقية الجبارة في آذار عام 91.” 

“في بداية الأربعينات من القرن الماضي كانت الصويرة مدينة صغيرة والجميع يعرف الجميع، والعوائل متداخلة فيما بينها في الكثير من العلاقات. يقول أبو فهد: منظمة الصويرة كانت أشبه بالعائلة الواحدة. والمسؤولية التي يتحملها الرفيق ليست لعلاقة الرفقة فقط، بل تتعداها إلى دعم العلاقات الإقتصادية والإجتماعية. وكثيراً ما يذكر المرحومة خنيسة، والدة الرفيق المرحوم جبار جمعة الفيلي، كمثال لطيبة ذلك النسيج الإجتماععي المتكافل في أخطر الأمور. كانت المرحومة تحول يوم الإجتماع في بيتهم إلى وليمة نفتقد حلاوتها في بيوتنا. تزور السجون التي سجن فيها جبار مثل سجن الكوت والرمادي ونكرة السلمان، ولا تأتي باحتياجات ابنها فقط عند المقابلة، بل بما تشعره في حاجة الآخرين. تأتي محملة بكل شيء، وفي كثير من الأحيان البريد الحزبي أيضاً. كانت لا تنقطع عن البعض حتى بعد إطلاق سراح إبنها جبار. كانت لا تترك من تشعر أنه بحاجة إلى زيارتها وقد انقطع عنه أهله. لم تكن أمنا فقط، بل أم لكل من عرفها من الرفاق.” 

“تحت هذه الظلال تمظهرت تكريت في ذهن اغلب العراقيين خاصة بعد أن جند الكثير من البدو الأجلاف من أطراف المدن الغربية وحثالات الريف من الأميين والمتخلفين، ومنحهم كل سلطات التحقيق والتنكيل بكل العراقيين وحتى أبناء الغربية، جعلهم على درجات وعلى رأسهم التكارتة.... وأصبحت المفردات الغربية وعلى رأسها "يولو" يتفاخر بترديدها، وهجمت قيم الريف على المدينة. وكلما أزداد الرعب والدمار، كلما ازداد الكره لتكريت ومن يسكنها، حتى بات الجميع مشتركون في الجريمة، فقط لكونهم تكارتة. وظلم المعارضون لصدام من التكارتة مرتين. الأولى للإيغال بالتنكيل بهم من قبل نظام صدام، والأخرى النظرة الحاقدة للعراقيين عليهم، ومن بين أبناء تكريت الشرفاء كان أبو الهيجا (نجاح خليل الجبوري)...ترك موسكو وذهب إلى أحد معسكات التدريب في بيروت. وبعد ثلاثة أشهر دخل بهدنان..صاحب بنية قوية ورشيقة، يحمل البي كي سي ومعها مخزنان، جريء لا يعرف التردد، وسيم وشعره أصفر، عيون ملونة وبشرة حمراء. وكثيرا ًما يلاطفه الرفاق الأنصار بأنه "مضرّب" من قبل ا لضباط الإنكليز الذين يعبرون تكريت إلى بغداد أيام الحكم الملكي." 

"كان الحذر في حياة البيشمركة كبيراً في عدم كشف المدينة التي ينحدر منها النصير، إلا أن البعض من رفاق المنطقة الغربية وجدوا في الكشف عن شخصياتهم واجباً للرد على من يتهم أبناء الغربية وبالذات التكارتة من كونهم في ركاب النظام.” 

“عمار معلم من الرمادي. أسمر، احول، جسم صغير ويديه أطول من الطبيعية. كان يمتلك حاسة خاصة في التصويب بمدفع الهاون وكأنه سلاح خفيف، ونادراً ما تذهب قذيفته هباء. كان معروفاً في مناطق قرداخ التي هي أماكن أنتشار الفوج الخامس عشر لقوات بيشمركة الحزب الشيوعي.... استشهد عمار عند تنفيذ عملية على موقع عسكري في دربندخان، فجرح ولم يتمكن من مواصلة السير مع المفرزة التي كان يقودها. طلب منهم أن يتركوه ويسرعوا بالإنسحاب وظل ينزف إلى أن استشهد. وعندالفجر اكتشف العسكر جثته فسحلوه إلى داخل المعسكر. وعندما عرف آمر المعسكر من أحد الجحوش الذي كان سابقاً بيشمركه أن الشهيد هو عمار، أقام احتفالاً وأخذ يطلق الرصاص في الهواء وسحلت جثته إلى الساحة المقابلة للسوق وأرسلت سيارة تحمل مكبرة صوت تدعوا أهل المدينة لمشاهدة جثة المجرم عمار. أجتمع عدد كبير من أهالي المدينة بين مصدق ومكذب وعمار قد شدت جثته إلى عمود كهرباء. وعندما تجمعت النساء تحول المشهد إلى بكاء وعويل أثار الواقفين وتحول الموقف إلى ذعر ارتسم على وجوه المسؤولين فأسرعوا بإنزاله وأخذه قبل انفجار الموقف.” 

“وقعت اتفاقية (ديوانة) بين مسؤول القاطع بهاء الدين نوري وبين قوات الإتحاد الوطني (اليكتي) والتي تنص على عدم الإعتداء والتعاون بين الطرفين، قبل أيام من هجوم الإتحاد الوطني على المقر المركزي للحزب الشيوعي في بشتاشان، وحدثت معارضة قوية للإتفاقية وكادت أن تحدث مذبحة بين الشيوعيين أنفسهم، وجردت قيادة بهاء الدين نوري بعض الرفاق من أسلحتهم. الإتفاقية مكنت الإتحادالوطني من تحريك أغلب قواته في قرداغ إلى بشتاشان، ولولا ديوانه لما تمكن الإتحاد الوطني أن يضرب تلك الضربة الغادرة للشيوعيين، وبسبب ديوانه تم طرد بهاء الدين نوري من الحزب. كانت جريمة بشتاشان العربون الذي قدمه الإتحاد الوطني للتقرب من النظام الصدامي.” 

“كان الحزب حذراً جداً من العمليات العسكرية العشوائية، ويشدد على العمليات النوعية. أي أن سهولة نجاح العملية ليس كافياً للقيام بها إذا لم تحقق هدفاً نوعياً. كان الحزب شديد الحذر من ان يسقط قتلى وجرحى من الجنود الذين لا ذنب لهم في وجودهم في هذه الربايا، والجنود يعرفون ذلك جيداً عن مفارز الشيوعيين. ومن خلال التجربة عرفنا أن أغلب هؤلاء الجنود هم من المغضوب عليهم من قبل النظام وبعضهم من أبناء عوائل رفاقنا قذف بهم إلى هذه الأماكن الخطرة أو إلى السواتر الأمامية لخط الجبهة مع أيران للتخلص منهم. وبعضهم أغتيل بطلقة في الرأس من الخلف، مثلما حدث مع الشهيد حسان ، الإبن الوحيد للرفيق ثابت حبيب العاني، عضو المكتب السياسي للحزب.” 

“كم فرحت عندما سحبوا مواليدنا للاحتياط. فرزونا عن الآخرين وقذفوا بنا إلى السواتر الأمامية مع إيران. وقد لا تصدق أني هربت في هجوم الفكة، ودخلت الأسر لعشر سنوات. ورغم كل قساوتها، كانت أخف علي من البقاء تحت رحمة تلك الوحوش الكاسرة.” 

“كان يريد أن يقنعني بحجم المعاناة التي تحملها بسبب انتمائه السابق للحزب، يريد أن يقنتعني بأن تحوله إلى شرطي أمن ونقله المعلومات عنا، مسألة طبيعية، طالما أنه كان خائفاً ومرعوباً. كان في نبرة صوته الشيء الكثير من المعاناة والمرارة التي يشعر بها الكثير من المناضلين الذين استمروا تحت إرهاب البعث. وأضاف: الحمد لله الذي سلمكم طيلة هذه الفترة وأعادكم إلينا كي ترفعوا رؤوسنا مرة أخرى.”

“لم أعد أفهم قفزاته في الحديث.. ليس هو فقط ، بل توجهات اغلب الذين رأيتهم. لا أشعر بأني أقف على أرض صلبة مثلما كانت قبل خمسة وعشرين عاماً. رغم المطاردة والخطورة الدائمة إلا أنك تعرف كيف تتوجه. اليوم أسقط النظام والأرض تميد تحت قدميك.”

“يقول صادق: في البداية جمعونا بتنظيم إسمه "الصف الوطني". فوك ما صرنه، خلونه دون أصغر بعثي. يعني بالروضة. مو بس آني، كل المشكوك بولائهم...أتصور طالب عندك يجي يحجيلك بالسياسة وشنو اللي لازم تسويه، لأن هو بعثي وأنت بالصف الوطني، وما عليك إلا أن تؤكد: "صحيح رفيق، تمام رفيق"...تتخيل المعاناة؟ لو ما تتخيلها؟ أنتو رحتوا وتركتونه، وما تعرفون اشصار بينه! 

لم أطق الإتهام (رحتوا وتركتونه) : ... هل تعرف أبو نصار؟ رفيق جرح بطلق ناري في ساقه بإحدى المعارك في بهدنان، ولطول المسافة وعدم وجود الأدوية مع المفرزة أصيب بالكنكرينا. قرر الطبيب بتر ساقه، ولا يوجد غير منشار خشب، ولا يوجد بنج أيضاً ولا يوجد أمامنا غير إسقاءه بطل ويسكي.... وقفنا خارج الغرفة نسمع صوت تقطيع اللحم..صراخه يعلو تداخل صوت قص العظم مع صرخته التي هزت الجبل... بعد يومين اكتشف الطبيب أن القطع قد تلوث ويجب إجراء عملية أخرى، وأجريت بنفس الطريقة. وهذه المرة سلم من التلوث ولا يزال أبو نصار ذلك النبيل الذي يعمل كل شيء في سبيل رفاقه واصدقائه.”

******

كان هذا بعض ما جاء في كتاب "صفحات أنصارية" الذي يحكي ملحمة الأنصار الشيوعيين، وما مر على المجتمع العراقي من كوارث، إن كانت قد استهدفت الشيوعيين بشكل خاص، فإنها لم توفر الآخرين، خاصة المنتمين للأحزاب الأخرى المضادة للسلطة، وعوائلهم، ومن قصصهم نتعلم الكثير. 

إذا كان الإنسان الخارج من زنزانة التعذيب بحاجة إلى التطبيب الجسدي والنفسي، فأن حاجة المجتمع الذي وقع تحت التعذيب عقوداً طويلة لا تقل عن ذلك. كتاب اللبان علامة جديدة تضاف إلى علامات كثيرة، بأن نبتة الخير والقوة موجودة في هذا المجتمع الذي نراه محطماً اليوم. بل ربما كان السبب الرئيسي الذي سلط عليه هذه الوحوش من الداخل والخارج وتعاونها على تحطيمه بكل تلك القسوة، هو ما فيه من نبتة طيبة قوية. 

إنها مهمة أبنائه أن يعيدوا لهذا الإنسان كرامته أولاً، وإلى المجتمع روابطه الأخلاقية والتكافلية وأن يؤسسوا قدر ما يستطيعون نظاماً ينمي هذه وتلك، ويضع مصلحة الإنسان والمجتمع قبل أي أعتبار آخر، وليس الربح الأعلى أو حرية السوق: الدين الإقتصادي الجديد الذي يوضع في الدساتير ولا يجادل! 

الإنسان كائن يحس بفرديته ويعتز بها، لكنه قبل كل شيء، كائن اجتماعي. لذا فأن كرامة الإنسان وروابطه الإجتماعية نيسج أساسي في بنيته، ولا يمكنه أن يعيش صحيحاً وسعيداً بدونهما مهما بدا العكس، بل لا نبالغ بالقول أنهما أهم للصحة والسعادة من المال والراحة وسلامة الجسم. فإن لم يكن هذا هو الحال، فكيف لنا أن نفسر مخاطرة الإنسان بحياته من أجل كرامته؟ كيف لنا أن نفسر من ينهار صحياً ويدمن الخمر وقد يموت بلا سبب واضح حين تنزع منه كرامته، كما لو أننا نزعنا منه كبده؟ 

******

“تذكرنا تفاصيل كردستان، ورغم شظف العيش وصعوبة حياة الأنصار، إلا أنها المرة الأولى التي امتلكنا فيها إرادتنا وفعلنا، ومارسنا فيها إنسانيتنا بمساحات لم نكن نحلم بها. كنا سعداء، والنكتة صارت صناعة أنصارية.” 

(1) الحلقة الأولى:  صفحات أنصارية 1- شيوعي يحمل كرامته عبئاً

http://saieb.blogspot.be/2013/12/1.html

(إن أعجبتك المقالة فأرجو أن تدفع لي ثمنها البسيط: أن تنشرها بين معارفك)

12 كانون الأول 2013 

Opinions