"عام الجماعة" أم اقتربت الساعة؟
هذا هو مقالنا الثالث تعليقاً على خطاب ابن لادن الأخير المهم، والذي ربما يكون الخطاب الناعي الأخير في تاريخ "القاعدة"، بعد أن بدأت بشائر هزيمة "القاعدة" ومن معها في العراق تظهر، بحيث أمكنت نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي الخروج من المنطقة الخضراء والنزول إلى شوارع بغداد لأول مرة منذ أربع سنوات، ومصافحة الناس. كما قال تقرير آخر، بأن عقود الزواج قد ازدادت زيادة ملحوظة في الفترة الأخيرة. وكلها مؤشرات أولية على اقتراب ساعة الإرهاب في العراق .خطاب "عام الجماعة"
كان خطاب ابن لادن الأخير- وهو ما أُطلق عليه خطاب الدعوة إلى "عام الجماعة" – هشاً، عائم الكلمات، ضبابي المعاني، فيه عواطف دينية سلفية كثيرة ، ليس لها مصرف في عالم السياسة اليوم. وتكلم فيه ابن لادن كعادته وكعادة كل السلفيين عن الماضي وعن الأسلاف كثيراً، وبلغة القرن العاشر الميلادي أو بلغة أبعد من ذلك التاريخ، دون النظر إلى الحاضر وتحدياته. وكان أن لفت نظر المحللين والنقاد في خطابه دعوات كثيرة، منها دعوته إلى قيام "عام الجماعة" بين المليشيات الدينية الإرهابية المسلحة في العراق، بعد دبَّ النزاع بينها، وبدت – كما قلنا – كالنار تأكل بعضها، بعد أن ضيّق عليها الشعب العراق الخناق، ولم تجد ما تأكله.
"عام الجماعة" في التاريخ
تاريخياً، يطلق "عام الجماعة" على العام661م، وهو العام الذي بايع فيه أهل العراق الحسن بن علي بالخلافة، بعد استشهاد أبيه عام 660 ، وأشاروا عليه بالمسير إلى الشام لمحاربة معاوية بن أبي سفيان. فزحف بمن معه، وتقارب الجيشان في موضع يقال له " مسكن" بناحية الأنبار. ودسَّ معاوية في جيش الحسن رجالا ً لتخذيله، فدسوا فيه الشائعات، فانخذلوا وكرهوا القتال، وتفرقوا عن الحسن ونهبوه. وقيل أصابته منهم طعنة حربة. فلم يجد الحسن جدوى من متابعة الحرب، ولم يستشعر الحسن الثقة بمن معه، وهاله أن يقْتتل المسلمون وتسيل دماؤهم. فأرسل إلى معاوية كتاباً يُعلن فيه رغبته في مصالحته والتنازل له عن الخلافة لقاء شروط منها أن تكون الخلافة له من بعده. فأرسل معاوية الداهية إليه صحيفة بيضاء مختومة بخاتمه ليملي فيها ما يشاء من شروط. فأملى فيها الحسن شروطه وزاد فيها، وقدمها إلى معاوية، فتقبلها، وعاد مع الحسن إلى الكوفة. وفي مسجدها أعلن الحسن تنازله لمعاوية الذي بايعه الناس, وسُمّي ذلك العام "عام الجماعة" لاجتماع المسلمين على خليفة واحد، حتى ولو كان معاوية الخداع.
عام الخديعة وليس "عام الجماعة"
ولكن معاوية وقف في اليوم التالي خطيباً في مسجد بالنخيلة قرب الكوفة، حيث كان بانتظاره الحسن والحسين، وخطب خطبة الجمعة، نقض فيها الاتفاق بينه وبين الحسن، دون أدنى خشية، ووضع الاتفاقية الموقعة بينهما تحت قدميه، وداس عليها، وقال:
"ألا إن كل شئ أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين، ولا أفي به".
ولا بُدَّ أن الحسن بكى يومها عندما سمع ذلك، وهو الدرويش المتدين التقي النقي وليس السياسي المحنك كمعاوية. فبلع الحسن سكين الخديعة، وعاد إلى المدينة دون أن يفي معاوية بشيء مما شرطه الحسن في كتاب التنازل عن الخلافة. وتوفي الحسن في المدينة قهراً وحسرة، بعد تسع سنوات عام 670 ، وهكذا أضاع مُلك جده وأبيه.
"عام الفرقة" وزوال الدولة الدينية
رفض بعض المؤرخين الإسلاميين المعاصرين إطلاق اسم "عام الجماعة" على هذه الحادثة التاريخية المهمة، التي أسست للخلافة الأموية والعباسية المدنية وزوال الدولة الدينية الراشدية التي كان علي بن أبي طالب وأولاده يريدون متابعتها. وقالوا إن هذا العام هو "عام الفرقة"، وليس "عام الجماعة". كما قال الشيخ الأزهري محمود أبو ريّة الفقيه المصري، في كتابه ("أضواء على السُنَّة المحمدية"، ص 216). وفي تحليل آخر لهذه الحادثة التاريخية المهمة، وجد بعض المؤرخين أن هذه الحادثة مع مرور الزمن تنامت، وخرجت من نسقها السياسي الضيق، وتحوّلت إلى نسق سياسي عام. كما انتقل "عام الجماعة" من المعنى السياسي إلى المعنى الفقهي. فأصبح "الإجماع" مبدأً فقهياً. وأصبحت نظرية الإمامة كلها تُناقش من خلال منظور الإجماع، كما يقول بكر أحمد في (الإسلام السياسي وحُلم الخلافة).
علاقة "عام الجماعة" بالإرهابيين في العراق
أطلنا الحديث عن عبارة "عام الجماعة" التي وردت في خطاب ابن لادن الأخير، والتي نادى ابن لادن شياطينه في العراق لكي يقيموا عاماً آخر مثله. وكان لهذه الإطالة مبررها، وهو أن ابن لادن لم يقرأ التاريخ الإسلامي جيداً. وهو إن قرأه مع مُعلِّمه أيمن الظواهري (فقيه التفخيخ)، فهو لم يفهمه.
فما علاقة "عام الجماعة" عام 661 بما يتم الآن في العراق؟
في العراق مليشيات دينية إرهابية تأكل بعضها بعضاً، كما تأكل الوحوش بعضها بعضاً في الغابات. فليس في العراق الآن زعيمان يتصارعان على السلطة كما كان معاوية والحسن قبل 14 قرناً، إلا إذا كان ابن لادن ينافس نوري المالكي على رئاسة الوزراء العراقية.
وليس في العراق الآن من اغتصب السلطة كما اغتصبها معاوية من وريث السلطة السياسية/الدينية الحسن بن علي.
ويبدو أن ابن لادن في خطابه أراد التماهي بهذه الحادثة التاريخية، لكي يغطي بها تدهور الأوضاع التي وصلت إليها "القاعدة" في العراق، والتي ركّز عليها معظم المعلقين الذين تناولوا خطابه الجنائزي الأخير، حيث لم يجدوا في هذا الخطاب غير ذلك التدهور والاندحار.
فمحمد أبو رمان المعلق السياسي في جريدة "الغد" الأردنية، قال: "في رسالة ابن لادن، دلالات سياسية مهمة في التوقيت والمضمون. إذ شهدت الفترة الأخيرة تراجعاً ملموساً في نشاط التنظيم وضَعفاً في قدراته، وتمكنت التحالفات العشائرية والفصائل السنية المسلحة -التي دخلت معه في صراع مسلح مؤخرا- من تحجيمه وإضعافه في مناطق متعددة. إن الهدف الرئيس من هذا الخطاب هو إنقاذ تنظيم القاعدة العراقي من حالة التدهور والعزلة والانحسار التي وصل إليها".
ويتفق مع رأي "أبو رمان" المعلق الصحافي ياسر الزعاترة المعروف بدفاعه المرير والشرس عن "القاعدة" وعن معظم التنظيمات الدينية المسلحة وعلى رأسها حركة حماس. ويكتب الزعاترة في جريدة "الدستور" الأردنية قائلاً، ولكن بقفازات من حرير، وبقلم من خشب الورد:
" أن الخطاب هو تعبير عن الأزمة التي تعيشها القاعدة وتتركز أساساً بفقدان الحاضنة الشعبية لها في العراق، وانفضاض الكثير من الجماهير عنها.
فهل كان خطاب ابن لادن الأخير دعوة إلى "عام الجماعة" أم إشارة إلى اقتراب الساعة.. ساعة القضاء على وباء الإرهاب؟