Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

عندما يكذب الكبار على الشعب

تتحدث الروايات أن من سمات آخر الزمان هو تفشي الكذب ، وهذا يعني أنه أصبح زمن سوء ، فالأحاديث الشريفة ومعها الآيات المباركة قد أكدت أن ( الكذب يُخرجُ من الإيمان ) ، وهي معروف لدى العقلاء ، وقديما أي قبل زماننا هذا بقرون كان الكذب يُسقط المروءة عن الرجل ، ويُعاب عليه إذا ما خالف الحقيقة في حديثه أو أخلف في وعدٍ قطعه على نفسه ، هذا بالنسبة لعامة الناس ، أما إذا كان صاحب مركز اجتماعي ووجاهة فإن مجانبة الواقع في الحديث خط أحمر لايمكن أن يتعداه وإلا فعليه أن يتخلى عن ذلك الموقع أو تلك الوجاهة ، وإذا لم يبادر هو فإن المجتمع ينبذه ويحتقره ويدفعه إلى زاوية لم يعد فيها ذات قيمة أو وزن .

لقد تغير الزمن ، وتآكلت معه الكثير من الخصال الحميدة وحلت مكانها خصال سيئة ومنها الكذب ، وبلا شك فإن ذلك يضر بثقة الناس فيما بينهم ويقلل من التفاعل الاجتماعي أو الروابط التي هي الأساس في تقدم المجتمع ، وإذا كانت تلك الخصلة مضرة لهذا الحد بين الأشخاص على مستوى العلاقات الشخصية ، فإنها سوف تأخذ أبعادا أكثر ضررا وخطورة إذا ما تفشت بين كبار القوم وساداته ورموزه السياسية التي تقود المجتمع ، ولنتصور النتائج التي تنتهي إليها الأمة ، إذا ما قادها ( كاذب ) . وقد حدثنا التاريخ أن ملوك أيام زمان ماكانوا يقطعوا وعدا أبدا إذا لم يتأكدوا من الإيفاء به ، حتى وإن كلفهم ذلك فقدانهم لممالكهم .

دعونا نتناول عصر الديقراطية في العراق ، ونرى مدى موقف القادة من خصلة الكذب والإيفاء بالوعود ، ولا أتحرج من القول من أن خصلة الكذب والتحايل فيما بين عامة الناس في العراق متفشية إلى حد كبير ، ومن أجل أن أكون منصفا ، أقول أن تفشي هذه الظاهرة هو من النجاحات التي حققتها ستراتيجية حزب البعث المقبور طيلة عقود أربعة والتي كانت تهدف إلى إبعاد المجتمع العراقي عن المباديء والقيم الإسلامية والإنسانية التي درج عليها قبل استلام ذلك الحزب السلطة بهدف تدجينه ، فعملية تجويع الشعب وحملات التجهيل ، والحروب المستمرة التي انتهت إلى حصار لم تشهد المجتمعات الأخرى المجاورة للعراق مثله ، ومع ملاحظة ما ذهب إليه الإمام علي عليه السلام في قوله ( كاد الفقر أن يكون كفرا ) ، كل ذلك تجعلنا ننظر إلى الشعب العراقي نظرتنا للضحية وليس للمجرم ، تمهيداً لانقاذه وإعادة تأهيله من جديد ، وتنحصر مسؤولية تلك المهمة الإنسانية الخطيرة الكبيرة بشكل رئيسي على الحكومة ثم المؤسسات الدينية كالحوزة والمرجعية ومكاتبها ، ومن بعدهم الطبقة الواعية المثقفة .

إذن نستطيع وفق ما أسلفنا أن نقول أن المسؤولين ( من نواب ورجال السلطة ) وعلى رأسهم رئيس الحكومة تقع على عاتقهم مسؤولية إنقاذ البلد من خصلة التحايل والكذب والتنصل عن الوعود ، مع علمنا أن تلك الخصال إذا ما انتشرت في دوائر الدولة والمؤسسات الحكومية فإنها سوف تنقل معها كل أنواع الفساد الإداري والمالي ، وسوف تكون سببا مباشرا للتخلف بكل أنواعه بما فيه التأخر في بناء البنية التحتية للبلد الذي هو بيت الجميع ، وهذا ما يعانية العراق بشكل حاد ، وإلى الدرجة التي نفد معها صبر الكثيرين من الأمة فراحوا يتظاهرون هذه الأيام هنا وهناك للتعبير عن رفضهم لتدني قابلية رجال السلطة على التغيير وعدم إخلاصهم ، بل واكتشافه الخطير لخيانتهم من خلال السرقات الكثيرة التي يتستر عليه أغلبهم .

فعلى الحاكم أن يكون صادقا مع شعبه ، وبخلاف ذلك فلا مصداقية لحاكميته ، فالمؤتمن على مقدرات شعبه لايمكن أن يكون حاكما ولصا أو كاذبا في آن واحد ، وإلا فإن كارثة سوف تحل علينا ونسأل الله أن يقينا شرها .

عندما استلم السيد المالكي رئاسة الحكومة للدورة الماضية أطلق تصريحا طرب له الجميع ومنهم ( كاتب المقال ) بأن سنة 2008 سوف تكون سنة القضاء على الفساد ، الذي كان وما يزال ينخر بكل دوائر الدولة ويستنزف مئات الملايين بل آلافها ، وأصبحت مأخوذا بذلك التصريح الذي شحذ همتي للمشاركة في محاربة آفة الفساد ، فكتبت تقريرا تحت بعنوان (الحكومة العراقية تبدأ بـ عبد الفلاح السوداني في حملتها ضد الفساد ) ونشر بصحيفة مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات بتاريخ 13 يناير 2008 . وتضمن التقرير إشارات واضحة لفساد إداري خطير من قبل وزير التجارة السابق السوداني ، وتضمن أيضاً خبر محاولة لجنة النزاهة في البرلمان استجواب الوزير بعد أن اعلن الشيخ صباح الساعدي عن حصوله على توقيع 68 برلماني لمسائلته .

وكنت أتوقع أن معالي السيد المالكي الذي وعد الشعب بمحاربة الفساد أن يبادر إلى مساندة النزاهة في وقف سرقات الوزير وفساد وزارته ، لكن الذي حصل أن معاليه قد أخلف الوعد وراح يسرف في الدفاع عنه ويقف بوجه استجوابه في البرلمان ، تاركا أموال الشعب وخاصة تلك التي تخص الحصة التموينية نهبا للوزير وطاقمه وملحقيه التجاريين في الكثير من دول العالم . لقد استمر النهب في وزارة التجارة أكثر من 18 شهرا بعد ( نشر المقال وما تضمنه من نصائح ) حيث ( فاحت رائحة السرقات) وبلغت حدا أزكمت الأنوف ، لم يعد في وسع البرلمان وقتها أن يصمت فشحذ الهمة لإستجواب الوزير في منتصف عام 2009 . حيث ثبتت على الوزير السرقات وبعض مظاهر فساد طاقمه الوزاري من أمثال محمد حنون وغيره .

وكنت أتوقع ومعي الفقراء والمعدمين والمحرومن من حقهم في الحصة التموينية المسروقة ، أن يثأر معالي دولة رئيس الوزراء لشعبه المسروق ويأمر بإحالة الوزير السارق إلى القضاء ، لكن العكس قد حصل حيث أعلن أنه قد قبل استقالته من الوزارة قبل أن تسحب منه الحصانة الدبلوماسية تمهيدا لإحالته للقضاء ، وكان ذلك يشكل طوق النجاة من قبل المالكي لوزيره السارق ، لكن الصيحات والاعتراضات كانت أقوى من محاولات رئيس الوزراء وخاصة أن الوزير قد فشل في الهروب من بغداد بعد أن أعادت السلطات طائرته قبل وصولها إلى دبي ، والذي يثير الاستغراب أن مكتب رئيس الوزراء عاقب ضباط المطار الذين سعوا إلى إعادة طائرة الوزير السارق .

ملفات فساد كثيرة قدمت للقضاء ضد السوداني ، قابلها المالكي بضغوط مستمرة على المحاكم لتسويف صدور أي حكم قضائي يدين الوزير السارق ، وبلا شك إن ما يفعله المالكي يعتبر خيانة للأمة وحنث باليمين الدستوري . ومازال الشعب العراقي يجهل أي مصير لقضايا فساد الوزير الذي استنزف المليارات من قوت الفقراء والمعدمين .

لقد أصبحت سنة 2008 والتي وعد المالكي بأن تكون سنة محاربة الفساد ، سنة الفساد وسرقة المال العام بامتياز ، وكانت فضيحة وزارة التجارة وطاقم وزيرها من أكبر الفضائح والتي تكتمت عليها الحكومة .

لقد أعلن المالكي مؤخرا أنه سوف يعمل بقاعدة ( من أين لك هذا ) وفرح سامعيه لكني لم أفرح لأني أعرف أن وعود الرجل سياسية ومخادعة ويراد من خلالها ذر الرماد في العيون ، وخاصة أن البعض يدرك جيدا أن في الأموال المسروقة ، حصة ( للأسد ) ، فعندما واجه وزير التجارة السابق خطر المحاكمة وتثبيت الفساد عليه ، ارسل خبراً الى الحكومة بأنه سيفضح كافة الملفات اذا تم تجريمه ، وسارع السيد عبد الكريم العنزي الى السيد رئيس الوزراء يحذره من من خطر الفضيحة ، فوعده الأخير بأنه سيعالج الموقف بسرعة. وتم ذلك بالفعل، فقد جرى تغيير القاضي، واصدر القاضي الجديد حكم البراءة في أحد الملفات الخطيرة من قضايا الفساد .

وثمة أمر في غاية الخطورة والوضوح ، أن الجميع يتحدث عن الفساد والمفسدين ، ويتفق غالبية السياسيين على أن المال العام ينهب من قبل الوزارات ومسؤولين بشتى الطرق ومنها العقود مع الشركات الأجنبية التي يشرف عليها مكتب السيد رئيس الوزراء ، لكن مع كل تلك الشفافية في معرفة السرقات ، لم تبادر الحكومة ولو لمرة واحدة على محاكمة أحد المفسدين في محاكمة علنية ليقتنع هذا الشعب المظلوم أن الحكومة فعلاً امينة على أمواله وهي فعلاً تفكر بمصالحه ولم تحنث بقسمها عندما حملها أمانة حمايته وحماية أمواله .

أنا اعتقد أن الحكومة العراقية بدأت الآن تجني ثمار ما ارتكبته من جنايات بحق هذا الشعب ، وخاصة أن الثمان سنوات الماضية كانت كافية لمعرفة مدى أمانة الحكومة وكفاءتها ومدى تحمسها لخدمته ، لقد أصبح واضحاً أن مصالح الأحزاب كانت هي الغالبة على اهتمامات القادة ، وأن المنصب وامتيازاته هي وحدها التي تشغل بالهم ، كما أن تبادل المصالح بين المسؤلين وتستر بعضهم على بعض واضحة وجلية في أخلاق الغالبية منهم ، فكان من الطبيعي أن تبادر الجماهير إلى الحفاظ على حقوقها وأن تخرج رافعة قبضاتها بوجه من استخف بها وسرق قوتها ، لقد أيقن الجميع أن المحاصصة السياسية وما تسمى بالشراكة مؤخرا هي ديكتاتورية أخرى لاتقل في خطورتها على المجتمع من ديكتاتورية النظام السابق ، نعم كان النظام السابق يسفك الدماء ويسجن المعارضين ويصادر الحريات ، أما هؤلاء فقد اسرفوا في الاستهانة بحقوق الشعب وراحوا يقضمون أموال اليتامى والأرامل والمعدمين كقضم البعير لنبتة الربيع ، غير مكترثين للبؤس والحرمان والبنية التحتية المحطمة والشوارع الموحلة غير المكسوة ومعاناة الملايين القابعين في بيوت هي أشبه بالخرائب تحت حر الصيف وقر الشتاء . من منا يجرأ أن يقول لمن يسكن في خربة بدولة البترول أن لايخرج شاهرا سيفه بوجه من سرقوا أمواله واشتروا بها قصورا ضخمة في الداخل أو الخارج ، ومن منا يجرأ أن يمنع الأرملة التي لاتمتلك ما يسد رمقها ورمق يتاماها أن تصرخ بوجه سراق حقوقها أو أن تبصق في وجوههم ، وخاصة أن أغلبهم ممن يدعي الإيمان بالله ورسوله وبأخلاق أهل البيت عليهم السلام . وكيف نمنع الشباب العاطل والخريجين من الخروج للمطالبة بوضع حل من قبل المسؤولين الذين فشلوا في وضع حل للبطالة وما عادوا مهتمين بغير توظيف أقربائهم والمحيطين بهم وبمن يرتبطون بأحزابهم . أنا ادعوا المتظاهرين أن يرفعوا أصواتهم بوجه كل المفسدين والسراق ومن يتستر عليهم من الكبار ، أن تشكل الحكومة وبإشراف من البرلمان لجنة تحقيق وتقصي لكل ملفات الفساد منذ سقوط الطاغية وحتى الآن ، لجنة لاتستثني أحدا من المسؤولين ، وزراء أو أمثالهم من المناصب الخاصة نزولاً إلى المناصب الدنيا ، وأن لاتلتفت هذه اللجنة لأي توصية تدعوا للتستر على أي دينار واحد سرق بغير حق من أموال الشعب ، كما أدعو إلى مراجعة ملفات أكثر من 2700 سارق للمال العام تم شموله بالعفو المرقم 19 لسنة 2008 ، كما أدعو السيد أسامة النجيفي للإيفاء بوعده في فتح ملفات الفساد بأثر رجعي ، ونطالبه بعدم الاستماع لنصيحة الحكومة بعدم فعل ذلك ، لأن في ذلك فضيحة لكبار القوم الذين خانوا الأمانة وكذبوا على من أتمنهم .

الشعب العراقي ينتظر هذه الخطوة التي تعيد إليه كرامته وحقوقة ، بل وتعيد إليه الثقة ولو ببعض المسؤولين في الدولة .

أنا أخشى أن تكون الحكومة قد فوتت على نفسها فرصة الإصلاح ، وأن الشعب لم يعد يثق بأحد من الحكومة أو البرلمان ، ولعله قرر أن يعيد حساباته في ديمقراطية المحاصصة التي كانت زيناً على الأحزاب ورموزها وشينا وبؤسا وحرمانا على أبناء الشعب كافة ، فإذا ما كانت مثل هذه القناعة قد استقرت في وجدان الشعب فإن الأيام القادمة ستكون صعبة على الحكومة وكل الفاشلين فيها ، وسيدفع الشعب بعض الثمن قبل أن يصلح الأمور ، لكن الأثمان التي سوف يدفعها المسؤولون الفاشلون يكون كبيرا جداً .

مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات في بريطانيا


http://thenewiraq.com/?p=1511 للتعليق على الموضوع فعلى الرابط التالي



Opinions