Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غربال الذاكرة : اغتيال المتنبي من الفيلم الى الكتاب


عشتُ السنوات الأولى من حياتي في بيئة ريفية على ضفاف الفرات الاوسط وفي عائلة مرموقة من تراثها الاهتمام بالفكر والأدب والمعرفة ، اضافة الى حرصها الشديد على احترام للتاريخ والموروث الديني والأدبي والشعبي والتقاليد والعادات الاجتماعية والعشائرية؛ وكان عليها – انطلاقاً من عمقها التاريخي والديني ، وإنتمائها الى السادة الاشراف من آل البيت – أن تتميز بالحرص على توفير وسائل المعرفة بتامين التعليم والدراسة ليس فقط لأبنائها وإنما أيضا لأبناء المنطقة وخاصة ابناء الفلاحين الذين يقطنون في الجوار ! فعمد أهلي الى تأسيس مدرسة في قريتنا حملت اسم العائلة ( المدرسة الياسرية) في عصر لم تكن فيه حتى المدارس الحكومية قد انتشرت بعد في الأرياف !!)
وقد تعلمت في تلك المدرسة حتى الصف الرابع الابتدائي قبل انتقالنا الى بغداد ، وكنت اصلها سيرا على الاقدام ، واحيانا على ظهر حصان كنت اخشي ان اسقط من على ظهره عندما تعترض طريقنا الكلاب المحيطة ببيوت الفلاحين !!!
ومنذ الصغر كنت احشر نفسي في مجالس الكبار التي كانت تعقد بشكل شبه دوري في رحاب (المضايف) حيث يروي السامرون في ألاماسي – وخاصة الرمضانية منها – الطرائف والنوادر و(سوالف) الحياة اليومية وبعض ذكريات الماضي القريب او يسرد المتحدثون في ليلي الشتاء الباردة الحكايات التراثية الشيقة ، اضافة الى وقائع التاريخ العربي والإسلامي . بعدها – أو قبلها - ينهمك بعض الحاضرين المتمكنين في ممارسة المباريات الشعرية ، وهي غالباً نوعان :
المطاردة الشعرية : وهي أن يأتي شخص ببيت شعر يبدأ بالحرف الأخير من البيت الذي ألقاه المتباري السابق وهكذا بالتناوب بين الحاضرين
التقفية الشعرية : وهي ان يقرأ أحدهم قصيدة طويلة لشاعر مشهور فيقول منها البيت الاول كاملاً كي يعرف الحاضرون الوزن والقافية ، بعدها يقول الابيات التالية دون أن يذكر القافية ( الكلمة الأخيرة من البيت ) وعلى المتنافسين ان يحزروا قافية ذلك البيت كما وضعها الشاعر !
في بيئتنا تلك كان القوم مولعين بترديد أبيات الشعر العربي المأثورة ، والاستشهاد بها في المواقف اليومية المختلفة ، لتفسير وقائع الأحداث الجارية وصروف الدهر أو الحث على التحلي بالصبر على تقلبات الزمن وتحمل نكبات الأيام وصعوبات المعيشة أوالتفائل بالخير !!
وربما يرتجل أحدهم – في موقف معين - بيت شعر باللهجة الدارجة اقتبس معناه من بيت شعر فصيح كان قد سمعه يوماً ما فعلق في ذهنه المعنى وضاع اللفظ ، فينظمه شعراً جديداً بمفردات بين الفصحى والعامية وبالاوزان الدارجة.
وقد أشتهرت في ريف الفرات امرأة لا تقرأ ولا تكتب ولكنها تجيد نظم المعاني بلهجتها المحلية ، ويروى عن تلك المرأة أنها استمعت مرة الى بيت شعر للشاعر النجفي المعروف محمد سعيد الحبوبي من قصيدة وجدانية له .. يتغزل بها بمنطقة الكرخ البغدادية ، حيث يقول :
يا غزال الكرخ وا وجدي عليك كاد سري فيك أن ينتهكا
هذه الصهباء والكأس لديك وغرامي في هواك أحتنكا
أعطني كأساً وخذ كأساً إليك فلذيذ العيش أن نشتركا
ابتسمت المرآة عندما سمعت البيت الأخير وقالت ناقدة ساخرة: أي شاعر هذا ؟
قالوا : انه الحبوبي !!
قالت : أراه قد اخطأ في أكثر من موضع في البيت الثالث ..
قالوا مستنكرين : أخطأ ؟! الحبوبي أخطأ ؟!
قالت : معلوم أخطأ..
قالوا : كيف ..؟؟!!
قالت : أولا كيف يأمر على حبيبه فيقول ( اعطني كأساً …)
قالوا : فعلاً ..
قالت : ثانياً كيف تطيعه نفسه أن يشرب قبل الحبيب حيث يقول ( .. وخذ كأساً إليك ..) يعني انه سيتناول كأسه قبل الحبيب !
استحسن الحاضرون ملاحظتها ..
و سألوها : ماذا كان على الشاعر أن يقول كي يستقيم المعنى ؟
ردت المرآة: أنا لا اعرف النظم بالفصيح لذلك سأقول بكلامنا الدارج.. كان على الشاعر أن يقول :
آتهنه بأول كاس والثاني ليه
فلذيذ العيش أن نشرب سويه
( آتهنه = فعل أمر من الهناء ، أي : استمتع - ولكي تستقيم قراءة البيت ينبغي أن نقرأ : ليه بياء مشددة وهاء خفيفة اقرب إلى الفتحة ، وكذلك بالنسبة للفظ كلمة سويه في قافية البيت !!)
وكان الريفيون مولعين بسرد الحكايات عن أحداث الماضي التي قد ترتبط بالبيئة المحيطة بهم، ذات العمق الحضاري الكثيف؛ حيث المواقع التاريخية العديدة على ضفاف الفرات الأوسط والتي ألفنا وجودها فلم تعد تسترعي انتباه الكثيرين منا فلا نزورها إلا نادراً بينما يأتيها الغرباء من مسافات شاسعة.. !
لقد كانت بيئة غنية ليس فقط بطبيعتها الجميلة ، وإنما أيضاً بموقعها الذي جعلها مسرحاً لأحداث تاريخية نقرأ عنها في كتبنا المدرسية، ونقول هذه حدثت هنا أو هناك، فخلف بساتيننا تمتد الصحاري التي تربط ارض السواد بنجد والحجاز!! وديارنا تجاور الحيرة حيث يسهل علينا الوصول إليها سيراُ على الأقدام..
الحيرة؛ عاصمة المناذرة ذات العبق التاريخي الساحر الغني بالتفاصيل المتنوعة، والتي كانت دائما مصدرا لحكايات تختلط فيها الحقائق بالأساطير والوقائع بالخرافات الشعبية ؛ التي تتشعب من قصص البطولات والغموض السلطوي ( مثلاً يوم النحس ويوم السعد) إلى الوقائع التاريخية ( مثلاً قصير الذي جدع انفه ليحذر الزباء ) أو المعارك الحاسمة (مثلا معركة ذي قار بين العرب والفرس ) والتي دارت رحاها في موقع لا يبعد كثيراً شرقي ديرتنا الفراتية !!
في نواحي الحيرة كنا نجوب الأطلال ونحن صغار ، ندوس تراب الزمان ونتقاذف أحجار التاريخ المرتبطة بأمجاد الحيرة المعمارية ، هنا كانت تنتشر في غابر الزمان بقايا الأديرة والكنائس حيث عرفت المنطقة الدين المسيحي قبل مجئ الإسلام !!
هنا في الحيرة كان يشمخ قصران أسطوريان ؛ هما الخورنق والسد ير الشهيران، واذكر أننا يوماً رافقنا مدرسنا نجوب التلال القريبة معتقدين أننا سنعثر على بعض بقيا القصرين الأسطوريين !! وفي أثناء تجوالنا كان الأستاذ يستذكر لنا قصة المهندس المعماري سنمار الذي بنى كأحسن ما يكون عليه البناء القصرين أو أحدهما لملك الحيرة النعمان الأول الذي حكم من عام 400 إلى 418 ميلادية قي الحيرة.
وتقول الحكاية المتوارثة أن المهندس سنمار جعل في القصر سراً وهو أن القصر يمكن أن ينهار إذا سحبنا من الجدار حجراً معيناً !! فكان جزاءه أن ألقى به الملك من شرفة القصر فقتله !! فذهبت قصة المهندس المغدور مثالا لمكافأة أعمال الخير بالشر فنقول: جزاء سنمار !!
وكان يدهشنا هذا التصرف غير المفهوم لنا - نحن الصغار– من ملك الحيرة !!
فيحاول الأستاذ أن يفسر لنا: ربما كي لا يبني لغيره مثل ذلك القصر أو لكي لا يعرف أحد السر الذي وضعه سنمار في القصر فيأتي عدو يسحب الحجر فينهار القصر على الملك ومن فيه !!
وبعد مائة عام من ذلك كان يجلس في ذلك القصر الأسطوري ملك الحيرة المنذر بن امرئ القيس الذي حكم زهاء خمسين سنة (514 – 564 م ) والذي اشتهر باسم المنذر بن ماء السماء نسبة إلى أمه ماوية بنت عوف وقد سميت ماء السماء لحسنها...والتي يقال إنها ربما تكون أخت كليب والمهلهل !! والمنذر هذا من ارفع ملوك الحيرة شأنا وأشدهم بأسا وأكثرهم أخبارا.. وقد قتل عام 564 م ؛ في يوم (حليمة) في موضع على طريق الفرات إلى الشام وراء الانبار.. بعد فتنة نشأت بينه وبين الحارث الغساني أدت إلى اشتعال الحرب بينهما !
وفي ذلك القصر الذي تطل أطلاله القليلة الباقية على هور النجف - يقول العارفون بالسرد القصصي الشيق في مجالس السهر والسمر - جرت الواقعة الشهيرة بين ملك الحيرة عمرو بن هند ( أبن المنذر بن ماء السماء) مع الشاعر ألتغلبي عمرو بن كلثوم، حيث أراد ( الملك ) أن يذل (الشاعر) بإجبار أمه على خدمة أم الملك … وكان غرض الملك أن يثبت انه ما من امرأة في بلاد العرب ترفض خدمة أم ملك الحيرة..
تقول الحكاية وقد سبق لي وان قدمتها – تأليفاً وإخراجا - في دراما تلفزيونية: سأل الملك عمرو بن هند ذات يوم مجلسه:( أتعرفون من ترفض أمه خدمة أمي ؟)
فقالوا : ( نعم ، إنها آم الشاعر عمرو بن كلثوم ..)
فقرر الملك أن يتحقق من ذلك بنفسه، فدعا الشاعر وأمه إلى ضيافته / واتفق مع أمه أن تطلب من أم الشاعر خدمة ما عند زيارتها ... ليرى إن كانت أم الشاعر سترفض خدمة أم الملك !!
ويسرد الساردون:
** عندما اجتمعت الملكة هند ( أم الملك ) مع كلثوم ( أم الشاعر ) على مائدة الغداء طلبت هند من ضيفتها أن تناولها الطبق فقالت كلثوم جملتها الشهيرة:
- لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها !!
وعندما أرادت الملكة آن تجبرها على خدمتها هتفت كلثوم مستنجدة
- واتغلباه !!
تستنجد بقبيلة تغلب التي ينتمي إليها الشاعر / سمع ابنها الشاعر عمرو صوتها ، ويبدو انه كان قد علم ( من أحدهم ) غرض الملك من دعوته هو وأمه ، فأدرك من صرخة أمه أن الملكة قد بدأت بتنفيذ خطة الملك المبيتة ، فاستل سيفه وقتل الملك عمرو بن هند ( 583 م ) ..
ولن تكتمل الحكاية عادة إلا بإنشاد الراوي لبضعة أبيات من قصيدة عمرو بن كلثوم التي مطلعها: ألا صبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الاندرينا
ويستمر الحكواتي الشعبي في إنشاد أبيات مختارة من معلقة عمرو بن كلثوم التي يقال إن أبياتها تجاوزت الألف بيت وصلنا منها نحو مائة وعشرين بيتاً أو أكثر قليلا .. ومنها:
أبا هند فلا تعجل علينا وانـظرنا نـخبرك اليـقينا
بأنا نورد الرايات بيضـاً ونصدرهن حمراً قد روينا
ويبلغ الراوي ذروة الطرب والنشوة وهو ينشد:
إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابرة ساجدينا
وينظر الراوي في وجوه المستمعين ثم يقول بعد صمت طويل مقصود: اسمعوا؛ اسمعوا ماذا يقوم عمرو بن كلثوم:
لنا الدنيا ومن اضحى عليها ونبطش حين نبطش قادرينا
ويهتف الراوي وهو يترنح طرباً: شوفوا المعنى.. شوفوا المعنى.. يا سلااااااااام !!
فيهتف الحاضرون : اعد.. أعد..
فيعيد الراوي البيت العظيم مراراً منتشياً بالمعاني البطولية التي ما زلنا نفهم كل مفرداتها بالرغم من أنها قيلت قبل حوالي 15 قرناً !!
ونشعر بالفخر لأنها قيلت يومأ ما في المنطقة التي نعيش فيها الآن ، الغنية بالأحداث التاريخية المثيرة ، ويقول بعضنا : هؤلاء أجدادنا ..
والملك عمرو بن هند هذا هو الذي أرسل إلى الموت الشاعر العربي طرفة بن العبد ( ولد في البحرين عام 539 ميلادية ) ومعه خاله الشاعر الكبير المتلمس حاملين رسالتين إلى حاكم البحرين لقتلهما.. دون أن يعلما مضمون الرسالتين !! وكانت أول استراحة للشاعرين وهما في طريقهما إلى البحرين على شواطئ الفرات في منطقة المشخاب، التي ولدت وعشت طفولتي فيها وما زالت تحمل اسمها الأكدي القديم الذي يعني المهجع أو المضجع أو المكان المريح ، ولفظة مشخاب لها ذات المعنى في الآرامية والعبرية ‍‍‍!! وربما أطلق هذا الاسم على المنطقة لامتداد حقولها الخضراء ومزارعها وبساتينها الوارفة حتى يومنا هذا ، وكأنها مهجع طبيعي ..
تقول المصادر إن الشاعر المتلمس توجس شراً من رسالة الملك إلى حاكم البحرين فقرر أن يتوقف حتى يجد من يقرأها له ( كان الشاعران الكبيران طرفة والمتلمس لا يحسنان القراءة والكتابة !!! ) بينما رفض الشاعر طرفة بن العبد الفكرة وقرر مواصلة طريقة باتجاه البحرين عبر بادية السماوة وما بعدها !!
وقد عثر المتلمس على من يقرأ له الرسالة، فعرف أن مضمونها أمر من الملك إلى حاكم البحرين بقتله، فرمى الرسالة في الفرات وهرب إلى الشام حيث توفي بعد 18 سنة في بصرى (عام 580 ميلادية – أي قبل الهجرة بـ43 سنة )
بينما واصل طرفة بن العبد رحلته إلى البحرين معتقداً أن الرسالة توصية من الملك إلى المكعبر حاكم البحرين وعمان لمنحه العطايا !! وعندما فتح المكعبر الرسالة وقرأ فحواها وجد أن الملك الجبار عمرو بن هند يأمر في رسالته المشئومة تلك بقتل طرفة حال وصوله إلى البلاد؛ فنفذ حاكم البحرين أمر الملك وقام بقتل الشاعر طرفه ( عام 564 للميلاد – أي قبل الهجرة بستين سنة تقريباً )
وطرفة بن العبد واحد من فحول شعراء العرب في الجاهلية، وبالرغم من وفاته المبكرة ( كان في الخامسة والعشرين من عمره عند مقتله ) فقد وصلنا من شعره 34 قصيدة مجموع أبياتها 436 بيتاً... منها معلقته الشهيرة التي مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في راحة اليد
وقوفاً بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجلد
و يأتي في ختامها بيت الشعر الذي ذهب مثلاً عبر العصور وحتى يومنا هذا :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ومن اشهر ملوك الحيرة أخرهم ، اقصد النعمان بن المنذر(592 م – 608 م) حفيد المنذر بن ماء السماء ، والنعمان هذا هو الذي يقترن اسمه بواقعة ذي قار ، التي جرت بين العرب والفرس قبيل زمن البعثة النبوية الشريفة ، وقيل إن كسرى سجنه في خانقين وقيل انه ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته فهلك !!
وكان النعمان الأخير قد جعل لنفسه يومين متناقضين في السنة : يوم للنعيم يكرم فيه أول من يلتقيه في ذلك اليوم مائة من الإبل – ويوم البؤس أو النحس وفيه يقوم بذبح أول من يطل عليه في ذلك اليوم !!
ومن بين الذين قتلهم في يوم نحسه وبؤسه صديقه الشاعر الحكيم عبيد بن الأبرص الاسدي الذي عاصر امرؤ القيس وله معه مناظرات معروفة في الأدب العربي , وكان ابن الأبرص من حكماء العرب قبل الإسلام وهو صاحب المعلقة المعروفة بجودة الصياغة ومتانة المعاني مليئة بالحكم البليغة السارية حتى يومنا هذا ، ومنها قوله :
وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب
ومنها أيضا البيت الذي يدل على رؤية جماعية تضامنية تكافلية بناءة حيث يقول:
ساعد بأرض إذا كنت بها ولا تقل إنني غريب
ان واقعة النعمان مع الشاعر عبيد بن الأبرص نموذج بشع للعنف الدموي في العراق ، فقد اصر الملك الجبار على تنفيذ قراره الجائر بقتل الشاعر لانه ورد عليه في يوم بؤسه
ولم يشفع للشاعر عمره ولم تنقذه منزلته الشعرية والاجتماعية العالية فقتله ربما سنة 600 للميلاد ( حوالي 25 سنة قبل الهجرة ) !!
نتجاوز الحيرة المجاورة لديرتنا لنصل بعد عشرة أميال إلى النجف بكل ما فيها من مراكز دينية وعلمية واجتهادية وتدفق لآلاف الزوار وطلاب العلم والمعرفة، ومنذ طفولتنا المبكرة كانت مرافقة الأهل لزيارة مرقد الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام واحدة من نشاطاتنا المفعمة بالإجلال والهيبة وكذلك السرور !
ولا تكتمل زيارة النجف بدون زيارة الكوفة، حيث دار الخلافة ، وبيت الإمام على ومسجده ، والمكان الذي اغتيل فيه ، وكان تناول الماء من بئره يعتبر بالنسبة لنا نوعا من الاحتفال المهيب حيث يتبارك الزوار باحتساء شيء من مياهه العذبة !!
وللكوفة – كما هو معروف - منزلة خاصة في التاريخ العربي والإسلامي ، ويرتبط اسمها في أذهاننا إضافة إلى دورها السياسي في تأسيس الدولة الإسلامية ، يرتبط أيضا ثقافياً بالمدارس اللغوية والشعرية .. وترتبط بالمدينتين – النجف والكوفة - أسماء الكثير من الشعراء قديماً وحديثاً ..
في الكوفة كان مولد أبى الطيب المتنبي عام 303 للهجرة .. الذي يحيط بنسبه الكثير من الغموض !! فهو نفسه لم يكن يفصح عن نسبه إلا تلميحاً في شعره مما يدل على انه من بيت يفتخر به من ينتسب إليه ! أليس هو القائل في مجلس سيف الدولة
سيعلم الجمع ممن ضمن مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم
يروي القاضي أبو على المحسن التنوخي في الجزء الرابع من كتابه الممتع ( نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ) انه قد التقى المتنبي وهو عائد في رحلته الأخيرة من شيراز ( قبل اغتياله بأيام أو أسابيع ) وسأله عن نسبه فما اعترف له به.. وكان جواب المتنبي، كما ينقله التنوخي:
( انا رجل اخبط القبائل واطوي البوادي وحدي ومتى انتسبت لم آمن ان يأخذني بعض العرب بطائلة بينهم وبين القبيلة التي انتسب اليها وما دمت غير منتسب الى احد ، فانا أسلم من جميعهم !)
وللمؤرخ والباحث الكبير عبد الغني الملاح نظرية جريئة خصص لشرحها وإثباتها كتابا كاملاً بعنوان ( المتنبي يسترد أباه ) وقد أعيد طبع هذا الكتاب المثير للجدل أكثر من مرة منذ عام 1973 ، وفيه يصر الملاح على آن المتنبي من سلالة مرموقة ، فقد جعل أباه الإمام الثاني عشر لدى الجعفرية .. الإمام المهدي المنتظر !!


كنا في عام 1994 قد حضرنا احتفالاً ادبياً وثقافياً حاشداً في ذكرى المتنبي اقيم على مشارف النعمانية في واسط ؛ عند نصب مهيب يظلل قبراً وحيداً ابيض اللون على شكل جناحي حمامة ، عليه كتابة مقتضبة تؤكد اسم من يفترض انه يرقد في اعماقه :

ابو الطيب احمد بن الحسين الكندي المتنبي
ولد سنة 303 للهجرة - وقتل سنة 354 للهجرة


ومن يومها تملكتني الرغبة في معرفة خفايا وتفاصيل اغتيال المتنبي قبل اكثر من عشرة قرون ، ولسنوات عديدة كنت أفكر بعمل تلفزيوني عن المتنبي ، عمل بعيد عن الدراما التقليدية ، إذ أن ما كان يشغل بالي ليس استعراض مراحل حياة المتنبي عامة ، و إنما واقعة الاغتيال فقط ، كواحدة من مظاهر العنف الدموي في تاريخ العراق : كيف تمت ؟ أين وقعت ؟ الدوافع والأسباب ؟ من اقترف الجريمة ؟
وقد سبق لي وان تطرقت إلى هذا الأمر أكثر من مرة ، ولكن من خلال لمحات خاطفة و إشارات بسيطة في بعض أعمالي التلفزيونية ذات التوجه التاريخي والتي قمت بكتابتها و إخراجها في أكثر من بلد عربي ، وقد اخترت لنفسي عنواناً عاماً دليلاً ومرشداً لتأطير كيفية المعالجة الأدبية والتاريخية والفنية التي ابتغيها ، وكان ذلك الإطار بعنوان ( رؤية الماضي بعين الحاضر )
و هذا العنوان يعني بالنسبة لي أنني لست مؤرخاً تقليدياً ، ولا أسعى للتعويض عن كتب التاريخ التي يستطيع المرء أن يلجأ إليها متى شاء وان ينتقي منها الصفحات التي يريد قراءتها بتسلسل أو دون تسلسل !
لقد كنت – وما زلت - أتوخى اقتفاء الحدث التاريخي بصفته علاقات درامية بين الشخص وعصره وبيئته وأبحث في علاقاته الاجتماعية والفكرية والمؤثرات التي دعته إلى أن يكون كذا وليس كذا !!
فكان مشروع برنامج ( اقتفاء اثر) وأتوخى فيه التحقيق عن حدث معين في زمن معين ومكان معين ..وكانت البداية اقتفاء اثر المتنبي في الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته !! مؤامرة الاغتيال المدبرة !! يعني القيام بتحقيق في تلك الجريمة ومتابعة أثرها ليس فقط في الكتب والمصادر التاريخية والحديثة ، وانما ايضاً في ارض الواقع ! في مكان الجريمة باحثين عن الادلة والشواهد التي قد ترشدنا الى الجناة وتكشف لنا تفاصيل جريمة اغتيال المتنبي : متى ؟ كيف ؟ اين ؟ .... ولماذا ؟
***
بعد تنقيب حثيث استغرق عدة اشهر في بطون الكتب ، لتجميع المعلومات المتناثرة حول اغتيال المتنبي قبل حوالي الف وخمسين سنة ، وبعد لقاءات مع عدد من الباحثين التاريخيين والاثاريين من ذوي الاختصاص ، وبعد تجميع لبضعة وثائق فريدة ونادرة ممن ساهموا في القرن الماضي بالتنقيب عن قبر المتنبي في محافظة واسط ، جاء وقت القيام برحلة الاكتشاف على ارض الواقع ، واقتفاء اثر المتنبي في الطريق التي سلكها عائداً من شيراز الى بغداد في رمضان من عام 354 للهجرة تلك الرحلة المشؤومة التي انتهت باغتياله !!
هل القبر المشيد قرب النعمانية هو قبر المتنبي فعلاً ؟؟
هل دفن في هذا الموضع عام 354 للهجرة (965 ميلادية ) ؟
هل قتل المتنبي هناك ؟ وكيف اغتيل و أين ولماذا ؟
ومن هو فاتك الاسدي الذي قتله مع زمرته ؟
وهل فر المتنبي فعلاً _ كما يدعي البعض - من ساحة المعركة ، ثم عاد بعد أن عيره خادمه ببيت شعره المشهور : الخيل والليل ..؟
قادنا سيناريو الفيلم التلفزيوني الى المنطقة التي تقول معظم المصادر إن فاتك الاسدي قد اغتال المتنبي فيها قبل أكثر من ألف عام ؛ وكانت الممثلة هند كامل هي التي تقوم باقتفاء هذا الأثر أمام الكاميرا و تقوم بالتحقيق المرئي بحثاً عن الحقيقة التاريخية !
و بعد إنجاز الفيلم التلفزيوني وجدت انه لم يستوعب كل المعلومات والتفاصيل التي توفرت لنا !! وفكرت: ربما يكون من المفيد أن أصيغ الموضوع في كتاب مطبوع ( صدر في القاهرة عن مركز الخضارة العربية ) حافظت فيه على ملامح البناء التلفزيوني للسرد والوصف فجاء في صياغة قد يراها البعض(هجينة ) فلا هي رواية ولا هي سيناريو ولا بحث تاريخي علمي آو دراسة تحليلية !!
إنها صيغة مقروءة لفيلم تلفزيوني لم يتسع للتفاصيل التي اجتمعت لدينا عن الرحلة الأخيرة لأبي الطيب المتنبي نحو الموت ، وهو في طريقه من شيراز إلى الكوفة .. أو بغداد ؟؟ لقد عبر دجلة وسلك طريقا كان يمكن أن يقوده إلى هذه أو تلك .. فقاده إلى الهلاك ليصدق قوله في آخر قصيدة قالها:
وآيا شئتِ يا طٌرقي فكوني أذاة أو نجاةً أو هلاكا

**********
Opinions